تاريخ الرهبانيّة الباسيليّة الشويريّة

نبذة تاريخيّة عن الرهبانيّة الباسيليّة الشويريّة (الحنّاويّة)

الأرشمندريت بولس نزها ق.ب.

مدخل:
لا بدّ لي، قبل الشروع بِسَرْدِ هذه النبذة، أن أُلمح إلى بعض الإيضاحات الضرورية التي تساعد القارئ على فهم الانطلاقة الأولى للرهبانية.
إذ إنَّ الرهبانيّة، خلافًا لبقيّة، الرهبانيّات، لم يكن لها مؤسِّس واحد، ولم تنشأ في تاريخ محدَّد، بل ساهم في تأسيسها عدّة أشخاص، وحدث ذلك في تواريخ متلاحقة:

1- هيّأ المهد وكوّن التأسيس: ثلاثة، وهم:
 المطران يواكيم، مطران طرابلس، الذي رمّم دير السيدة في البلمند عام 1603، وبعث الحياة الرهبانية، من جديد، في الكنيسة الأنطاكية الملكيّة، ويمكن القول بأنّ بوادر وجود الرهبانيّة الحنّاويّة، أخذت تتكوّن منذ ذلك الوقت، لأنّها نشأت وتفرّعت من نفس الجذع.

 المطران ملاتيوس كرمة، مطران حلب (1612-1634)، الذي شجّع طالبي الكمال على الانضمام إلى دير البلمند، خصوصًا الشبّان الحلبيّين الذين منهم ستتكوّن نواة الرهبانية.

 المرسلون اللاتين، خاصّة اليسوعيّون منهم، الذين أتوا إلى حلب سنة 1625، وزرعوا في الشعب ميلًا نحو الكثلكة، ورغبة متزايدة عند الشبيبة، لاعتناق العيش الرهباني القانوني.

2- دعا إلى التأسيس المستقل:
الخوري نصرالله الحلبي (المطران ناوفيطوس لاحقًا)، إذ حثّ بعضًا من الرهبان، (معظمهم حلبيّون)، على التجمّع في جناح خاص من دير البلمند، دُعي “رواق الحلبيّة”، سنة 1697، ثمَّ ترأّس حملة المنادين بضرورة تأسيس جماعة مستقلّة، فله يرجع فضل كبير في التأسيس، إن لم نقل الفضل الأكبر.

3- أقدم على الخطوة الأولى من التأسيس المستقل:
بعضٌ من الرهبان، (1704-1706)، عزموا أن يحقّقوا حلم الخوري نصرالله، هم حنانيّا، مكاريوس الباياسي (مطران بعلبك فيما بعد)، جرمانُس، جرجس السمّان (مطران حلب فيما بعد)، سليمان كسرى.

4- ركّز التأسيس المستقل:
الرهبان المذكورون وغيرهم، لم يثابروا جميعهم في قصدهم. فأكثرهم تركوا إخوتهم، لسببٍ أو لآخر، وذلك في مهلة سنتين، (1710-1712)، ولم يبقَ منهم إلّا إثنان فقط، هما: نصرالله كرمة (نيكفوروس، الرئيس العام الأوّل لاحقًا)، وميخائيل بن بولس (التتونجي) حكيم (الرئيس العام الثالث لاحقًا، ومطران حلب، ثمّ البطريرك مكسيموس الثاني فيما بعد)، ولحق بهما، أخيرًا، المقدسي نقولا بن نعمة الله الصايغ (الرئيس العام الثاني لاحقًا)، إذ جاء من حلب سنة 1716.

أوّلًا: مرحلة تهيئة التأسيس:

نشأت الرهبانيّة الباسيليّة الشويريّة (الحنّاويّة)، متأثّرةً بحركة الاتّحاد الكنسي مع رومة، أي الحركة الكاثوليكيّة، التي أذكى نارها، في أوائل القرن السابع عشر، الكهنةُ والرهبان المرسلون الغربيّون، الذين جاؤوا إلى الشرق ونشروا الفكر الكاثوليكي، كما عملوا، مع بعض الإكليريكيّين، على بعث الحياة الرهبانيّة المنظَّمة والقانونيّة. فما لبثتْ أن ظهرتْ بعض المؤسَّسات الرهبانيّة المارونيّة، في حلب ولبنان، ثمّ تلتها مؤسّسات رهبانيّة في الكنيسة الأنطاكيّة الروميّة الملكيّة، وفي طليعتها الرهبانيّة الباسيليّة الحنّاويّة (في دير مار يوحنّا الشوير- لبنان). وكان رهبانها ينتمون، أصلًا، إلى دير سيّدة البلمند، قرب مدينة طرابلس، في شمال لبنان، الذي كان، في ذلك الحين، أعظم أديرة البطريركيّة الإنطاكيّة.
بدأ تأسيس هذه الرهبانيّة الباسيليّة الحنّاويّة المستقلّة، بحلم أراد أن يحقِّقَه الخوري نصرالله الحلبي، (مطران صيدنايا، فيما بعد، باسم ناوفيطوس نصري) إذ دعا إلى تأسيس دير مستقلّ عن دير البلمند، يكون أكثر تنظيمًا وانضباطًا وروحانيّة.
وبدافعٍ من هذين العاملين، أي انتشار الفكر الوحدوي الكاثوليكي، والرغبة في تأسيس حياة رهبانيّة قانونيّة نظاميّة، قرَّر الراهبان الحلبيّان، جرجس السمّان (مطران حلب، فيما بعد، باسم جراسيموس) وسليمان كسرى، في سنة 1706، مع بعض الرهبان، الذين كانوا يشاطرونهما نفس الهدف، مغادرة دير البلمند، والبحث عن دير آخر، وذلك بعد أن نالوا بركة البطريرك كيرلّس الخامس الزعيم، الذي ثبَّت لهم قانونًا مؤلَّفًا من خمسة عشر بابًا، متّخذًا من التيبكون الأورشليمي وكليمكوس وبخوميوس.

ثانيًا: مرحلة التأسيس:

وبدأتْ مسيرة البحث عن هذا الدير، إلى أن وفّقهم الله في إيجاد دير قديم، في ضواحي قرية الشوير في المتن الشمالي، على اسم القديس يوحنّا الصابغ، يعيش فيه راهب شيخ جليل، اسمه رزق الله صوايا، فاتّفقوا معه على العيش معًا في هذا الدير الصغير، الذي لا نعرف له تاريخًا دقيقًا، ويُرجَّح أنَّه يعود إلى أوساط القرن السابع عشر، أي إلى ما قبل العام 1676، واتّخذوا من اسم شفيعه، اسمًا للرهبانيّة فعُرفت بالحنّاويّة. وقد استوحَوا نمط حياتهم من تعاليم القديس باسيليوس الكبير وقوانينه المطوّلة والمختصرة، التي راحت تتصدَّر مقدّمات الفرائض، فصاروا يُعرفون بالباسيليّين قولًا وحياةً.
وككلِّ رهبانيّة في مراحلها الأولى، واجهت الرهبانيّة الحنّاويّة مشاكل كثيرة، خصوصًا لجهة ترك بعض الرهبان الحياة الرهبانيّة. وقبل أن تُطلَّ مرحلة الاستقرار، كثرتْ المصاعب والاضطهادات لرهبان الدير، وكان أبرزَهَا من البطريرك الزعيم، الذي انقلب، فيما بعد، على الرهبانيّة، ومنع رهبان البلمند من الانتماء إليها، ممّا أثَّر عليها في الداخل والخارج. ناهيك عن مضايقة المحيط لرهبانها، ممّا كاد يهدّ عزيمة المؤسّسين ويشتّت الرهبان. إلّا أن الله، الذي أراد هذه الغرسة، ثبّتها على صخرته، عندما سمح أمير المنطقة نجم أبي اللمع، للرهبان بشراء مزرعة، تدعى مزرعة بيت عيال القريبة من الدير، وذلك في 10 كانون الأول 1710، ومن بعدها تسنّى للرهبان أيضًا، شراء الدير نفسه من الأمير اللمعي عينه.

ثالثًا: النذور والنظام القانوني للحياة الرهبانيّة:

وبعد تخطّي الصعوبات، وبدءِ حركة الاستقرار، شرع الرهبان في توسيع دير مار يوحنّا، وأشادوا فيه، (1716-1719)، كنيسة على اسم القديس نيقولاوس، بنفقة ومساعي الأخ نقولا نعمة الصائغ، وراح يتزايد عدد الرهبان، فعقدوا مجمعًا عامًّا، سنة 1720، وأقاموا عليهم أوّل رئيس عام، هو الأب نيكيفورس كرمة، ومدبّرين أربعة، وأقرّوا /18/ فريضة جديدة.
وفي سنة 1722، ثبَّت مجمع المدبّرين النذور الرهبانيّة وحدَّدوها في أربعة نذور، هي: الفقر والعفّة والطاعة والتواضع. وهكذا دخلت عادة إبراز النذور في الرهبانيّة، كوجهٍ أساسي من وجوه التنظيم القانوني للحياة الرهبانيّة. ومع رواج سمعة الرهبانيّة الجديدة، انضمّ إليها دير السيدة في رأس بعلبك سنة 1722، ودير النبي أشعيا في برمانا سنة 1723، إضافةً إلى دير مار الياس (شويّا) الذي تسلّمته الرهبانية سنة 1727. وبعد الانقسام التاريخيّ الكبير في الكنيسة الإنطاكيّة الروميّة الملكيّة، بين كاثوليك وأرثوذكس، الذي تثبَّـت سنة 1724، عانت أديرة الرهبانيّة الحنّاويّة من الاضطهادات والضيقات، ما كان له بالغ الأثر على مسيرتها، لأنها كانت كاثوليكيّة وتنتمي إلى رومة.

رابعًا: رئاسة الأب نقولا الصائغ ومطبعة الشماس عبدالله زاخر (1727-1756):

لكن في هذه الحقبة، ظهر الدور الأبرز للأب نقولا الصائغ، الذي يُعتبر المؤسّس الفعلي للرهبانيّة، وواضع فرائضها ومنشىء أكثر أديرتها ومراكزها، وكان رجل علم وفضيلة وأدب، وقد قُلِّد مهام كبيرة في الرهبانيّة، وانتُخب رئيسًا عامًّا لفترة ناهزت الثلاثين سنة شبه متواصلة (1727- 1729، 1732-1756). وفي غضون رئاسته، ركَّز دعائم الرهبانيّة، فشيَّد أكثر أديرتها، ووسّع أملاكها، ودافع عن حقوقها، وشدَّد عزائم أبنائها، ونظَّم قوانينها وفرائضها، التي ثبّتها الكرسي الرسولي نهائيًّا سنة 1757، أي بعد سنة واحدة من وفاة الأب نقولا الصائغ. وقد شهدت الرهبانيّة في عهد الأب الصائغ تطوّرًا كبيرًا، يكفي أن نشير إلى تشجيعه للشماس عبدالله الزاخر(الصائغ)، نسيبه وابن عمه، لإنشاء المطبعة الأولى في لبنان، بالحرف العربي، وطباعة كتاب “ميزان الزمان” سنة 1734، وقد ساهمت هذه المطبعة بنشر الكتب الدينيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة والروحيّة. فاشتهر الرهبان الحنّاويّون، في عهد نقولا الصائغ خصوصًا، بممارساتهم الرهبانيّة القانونيّة، وعيشهم الرهباني المنتظم، وامتازوا بنشاط رسوليّ، خصوصًا في الوعظ والتعليم، ممَّا جعل الكرسي الرسولي يوليهم كامل اهتمامه، حتّى أنَّ البابا إكلمنضوس الثاني عشر، وهب الرهبانيّة كنيسة ودير “سانتا ماريا إين دومينكا” المعروف “بالنافيتشلا”، أي السفينة، في رومة (إيطاليا) سنة 1734، فراحوا يرسلون إليه بعض الرهبان، لتعلّم اللغات والفلسفة واللاهوت وسائر العلوم الكنسيّة، ثمّ بنى الرهبان، سنة 1767، دير مار باسيليوس، قرب الكوليزه في رومة أيضًا، للغاية نفسها.

خامسًا: عهد النمو والازدهار:

وفي هذه الفترة عينها، توسّعت أديرة الرهبانيّة الحنّاويّة فشملت، إلى جانب الدير الأم في مار يوحنّا الخنشارة، ودير مار الياس شويّا، ودير السيدة في رأس بعلبك، ودير النبي أشعيا في برمّانا، الذين انضموا إلى الرهبانيّة، كما ذكرنا آنفًا، دير الملاك مخائيل المُنشأ سنة 1731 في قرية زوق مكايل، ودير سيدة البشارة، للراهبات، سنة 1734 أيضاً في زوق مكايل، ودير مار جاورجيوس الشير، في قرية بمكّين قرب سوق الغرب سنة 1750، ودير مار الياس الطُّوق في زحلة سنة 1755، ودير مار يوسف في عين الرمّانة (قرب عالَيه)، للراهبات، سنة 1759، ودير مار أنطونيوس القرقفي في قرية كفرشيما سنة 1763، ودير القدّيس ديمتريوس في كفرتَيه سنة 1764، ودير سيّدة النياح في قرية بقعتوتة سنة 1767أيضًا للراهبات الشويريّات.
وبذلك اتّسع ميدان الجهاد والعمل أمام الرهبان، وساهموا في نشر الفكر الكاثوليكي وإنشاء الرعايا، وفي مرحلة لاحقة عملوا على تأسيس أبرشيات جديدة، ليحافظوا على المؤمنين. وبسبب عدم وجود إكليروس علماني مثقَّف أُضطرّوا للبقاء وسط الشعب، حتّى إنَّ كثيرين منهم كانوا يبقَوْن خارج الأديرة ليكونوا بين الناس، وفي ظروف صعبة أغلب الأحيان. وهكذا انطبعت الرهبانيّة بطابع الخدمة الرعويّة حتى اليوم.
إلّا أنَّ هذا التوسّع والتطوّر الذي عاشته الرهبانيّة، لم يكن يخلو من الاضطهادات والمضايق، خصوصًا إذا أردنا التوقّف عند دور الأمراء الذين وضعوا أيديهم على بعض أديرة الرهبانيّة، وسجنوا بعض رهبانها، ممّا أحدث اضطرابًا وضجّة في داخلها. ناهيك عن الاضطهاد الشديد للكاثوليكيّين في مدينة حلب، وفي مقدّمتهم الرهبان الحنّاويّين، الذين نالوا نصيبًا كبيرًا من التعذيب والاضطهاد. هذا دون التوقّف أيضًا عند مطامع بعض شركاء الرهبانيّة، وادّعائهم ملكيَّة أرزاقها، لكنَّ الرهبانيّة تحمَّلت كلَّ ذلك وواجهته بإيمان وصبر كبيرين.

سادسًا: الانقسام إلى بلدي وحلبي:

وقد يكون أكثر ما آلم الرهبانيّة الحنّاويّة، هو انقسام أبنائها إلى قسمين الحلبيين والبلديين الذي تمَّ، بشـكل نهائي سنة 1829، وتثبَّت من قبل السلطة العليا في رومة في 9 كانون الثاني سنة 1832. ومنذ هذا التاريخ صارت الرهبانيّة تعرف بالرهبانيّة الباسيليّة الشويريّة (وهي البلديّة) والقسم الآخر يُعرف بالرهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة. فقُسِّمت أيضًا الأديرة والممتلكات، مما ساهم سلبًا في أداء الرهبانيّتين.

سابعًا: الرهبانيّة الشويريّة بعد الانقسام:

بعد هذا الانقسام الأليم بقيت الرهبانيّة الشويرية (البلدية) فترة من الزمن تحاول تنظيم شؤونها الداخلية، وقد شاء الله أن يتولّى إدارة الرهبانيّة، في هذه المرحلة الحرجة والصعبة (1835- 1842، 1859-1868، 1871-1883)، راهب وقور، وعلى جانبٍ كبيرٍ من التقوى والدراية والإرادة، وهو الخوري فلابيانوس (الأول) كفوري، وكأنَّ العناية الإلهيّة قد رتّبت أمور الرهبانيّة ودعّمتها في مدّة رئاسته الطويلة، خصوصًا لجهة إقبال طلّاب الكمال على الرهبانيّة بكثرة.
لكنَّ الصعوبات لم تفارق الرهبانيّة الشويريّة البلديّة، ففي الوقت الذي كانت تحاول أن تتابع مسيرتها، من أجل خدمة أبناء الطائفة في المناطق التي كانت تخدمها، نشبتْ حربُ سنة 1840، وألحقتْ الأضرار في أديرة الرهبانيّة، ودمَّرت قسمًا منها. وفي المرحلة نفسها رأتْ الرهبانيّةُ ذاتَها أمام مشاكل كبيرة، إذ قام مطران بيروت وبعضٌ من أفراد الطائفة، ينازعون الرهبانيّة في ممتلكاتها.
أمّا أحداث سنة 1860 الشهيرة، فقد ألحقت بالرهبانيّة في زحلة أضرارًا جسيمة، أدَّت إلى استشهاد بعضٍ من رهبانها، وعدد غير قليل من أبناء رعيّتها، وحرقِ قسمٍ من دير مار الياس الطُّوَق. لكنَّ هذه الأحداث لم تمنع الرهبانيّة من المثابرة في طريق الرُّقي والتقدُّم، خصوصًا على صعيد تحضير رجالات الخدمة الكنسيّة والرسوليّة والرعويّة، فأنشأت مدرسة إكليريكية قرب دير مار يوحنّا سنة 1880، ليتسنّى لها أن تفصل الرهبان الدارسين، فينقطعوا إلى الدرس انقطاعًا تامًّا. وبقيت هذه إلاكليريكية في دير مار يوحنّا، إلى حين نقلِها إلى دير القديس باسيليوس في الأشرفية – بيروت سنة 1936، حيث كان الرهبان يتابعون دراستهم عند الآباء اليسوعيّين، في جامعة القديس يوسف منذ العام 1896، ثمّ انتقلت، سنة 1988، إلى الدير الذي شيّدته الرهبانيّة، لهذه الغاية، في قرية زوق مكايل، تحت اسم “سيدة المدائح”، ليكون مقرًّا للإكليريكية الكبرى، وبذلك يَسهل على الرهبان الوصول إلى الجامعات المحيطة به، كمعهد القديس بولس في حريصا، وجامعة الروح القدس في الكسليك.

ثامنًا: عهد النمو والازدهار، خاصة في مدينة زحلة:

وعَرَفَتْ الرهبانيّة عهدًا من التطوّر المحسوس، برئاسة الخوري يوسف كفوري (1887-1913) الذي، ومن أجل دعم ماليَّة الرهبانيّة، أسَّس النزل الكبير الفخم في زحلة “أوتيل قادري” سنة 1910. إضافة إلى سعيه لتعزيز المدرسة الإكليريكية في الرهبانيّة، والسماح لأبنائها بالذهاب إلى الجامعات الكبرى في أوروبا لتلقّن العلوم الكنسيّة. هذا مع العلم أنَّ الأب كفوري، ساهم في نشر العلم، ببناء مدرسة وطنيّة كبرى في زحلة على طلب من وجهائها، فقد بنت الرهبانيّة، على نفقتها الخاصة، صرح الكليّة الشرقيّة سنة 1898. وهنا، تجدر الإشارة أنَّ الرهبانيّة ساهمت إسهامًا كبيرًا في تطوير مدينة زحلة، فقدَّمت لها خدمات كثيرة في ميادين وقطاعات متنوّعة:
– القطاع الروحي: دير مار الياس الطُّوَق، وأربعة كنائس رعائيّة وأناطيشها،عائدة ملكيّتها للرهبانيّة.
– القطاع الثقافي والعلمي: مدرسة الكليّة الشرقيّة.
– القطاع السياحي: مقاهي ومطاعم البردوني، وأوتيل قادري الكبير.
– القطاع الاجتماعي: الكهرباء والماء والطواحين.
– القطاع الخدماتي: مستوصف طبّي.
وهذه النهضة الثقافيّة والعلميّة، التي تجلَّت ببناء عددٍ من المدارس كالشرقيّة في زحلة، كما ذكرنا، ومدرسة القديس أنطونيوس في كفرشيما سنة 1882، والمدرسة البطريركية سنة 1865 في بيروت، ومدرسة المخلِّص في بيروت سنة 1887، إضافة إلى مدرسة مار يوحنّا في الخنشارة، التي بدأت بالتعليم منذ سنة 1735، هذه النهضة رافقتها نهضة في الحقل الروحي وفي الحقل الرعوي، إذ وجَّهت الرهبانيَّة عنايتها الخاصة إلى الرعايا، فابتنّت لبعضها كنائس وأناطيش، وأسَّست رعايا جديدة في بلاد المهجر، وهذا ما دأبت عليه حتى أيامنا هذه. وهنا نشير أنَّ الرهبانيّة خدمت في سوريا: في حلب، في دمشق، في أبرشية حمص ويبرود، في مصر، في الأردن، في أوستراليا، في كندا، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، في البرازيل، في الأرجنتين، في فرنسا، دون أن ننسى عملها، في فترة سالفة، في كالكوتا الهند وفي تركيا وفي العراق، وفي غيرها من المناطق والدول، التي لم تتوانَ الرهبانيّة عن إرسال أبنائها لخدمة أفراد الجالية الملكيّة الكاثوليكيّة حيثما انتشروا. وقدَّمت خيرة رجالاتها الغِيُر في سبيل تثبيت الإيمان الكاثوليكي عند المؤمنين.
وهكذا استمرّت الرهبانيّة في الخدمة، متأثّرة بالعوامل التي كانت تعيشها البلاد، فتأثَّرت كثيرًا بنتائج الحرب العالميّة الكبرى الأولى سنة 1914-1918، وقد بقيت مدّة من الزمن تعمل وتجهد للتخلّص من الأعباء والديون التي فرضتها عليها هذه الحرب، كما أنَّ الحروب الأهليّة والثورات الكثيرة التي مرّت على لبنان، في فترات متعدّدة ومتفرّقة من تاريخه، كان لها بالغ الأثر على الرهبانيّة، لكنها لم تُثنِ عزيمتها عن متابعة تقدُّمها ومسيرتها في خدمة الكنيسة والبلاد.

تاسعًا: الوضع القائم حاليًّا:
تسعى الرهبانيَّة لإحداث نهضة روحيّة وعلميّة عند كلِّ أبنائها، رغم معاناتها، كبعض الرهبانيّات، من قلَّة الدعوات، وهم يصبون لإكمال مسيرة السَّلف الصالح وأعماله الرسوليّة الكبيرة، التي أُنجزت في تاريخ كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك.
وتعتزّ الرهبانيّة الباسيليّة الحنّاويّة، أن يكون لها إسهامها المميّز في العطاء، فقد قدَّمت للكنيسة الأنطاكيّة الروميّة الملكيّة /3/ ثلاثة بطاركة، قبل الانقسام، و/48/ مطرانًا منهم /19/ قبل القسمة، و /30/ للرهبانيتين الشقيقتين، بعدها. إضافة إلى مئات الرهبان والراهبات الذين خدموا الكنيسة والوطن والإنسان.

البث المباشر