المطران ناوفيطوس نصري
من كبار أحبار كنيستنا
المتوفى برائحة القداسة برومة بتاريخ 24/2/1731
الأرشمندريت إغناطيوس ديك
(حلب)
توفي في رومة حيث لجأ هربًا من الاضطهاد الذي لحق به، وتهافت المؤمنون للتبرّك منه بعد أن رشح جسمه عرقًا وأجريت شفاءات بملامسته. ودفن في معبد مجمع ٱنتشار الإيمان، وكتب على ضريحه «المكرّم».
مضى على وفاته ٢٨٠ عامًا ولفّ ذكرَه النسيانُ مع أنّه من كبار رجالات كنيستنا ويمثّل الأصالة الملكيّة، إذ ترهّب في دير البلمند ورسمه أسقفًا البطريرك أثناسيوس دباس قبل الانقسام، وهو الذي ٱستُدعي ليرسم كيرلّس طاناس بطريركًا بعد أن ٱنتخبه إكليروس وشعب دمشق، وكان مثالًا للراعي الصالح في أبرشيّته صيدنايا، وقاسى الكثير ليبقى أمينًا لما ٱعتبرَه واجبَ ضمير، لما خُيّر بين الشركة مع الكرسي الرومانيّ والشركة مع البطريرك سلفستروس المعترَف به من قِبل البطاركة الأرثوذكس، وكان بودّه أن يحافظ على الشركتَين كما في عهد سلفه أثناسيوس. وهو يستحقُّ أن تُعلن رسميًّا قداسته.
ورد ذكرُه عدّة مرّات في تاريخ الرهبانيّة الشويريّة المخطوط، وهناك عدّة وثائق تتعلّق به في محفوظات الڤاتيكان (مجمع ٱنتشار الإيمان)، وتحدّث عنه العلّامة يوسف السمعاني الذي عرفه في رومة. لٰكنّ المصدر الأهمّ لمعرفة سيرة حياته هو المذكّراتُ التي كتبها تلميذُه ومرافقُه طيلة حياته الأسقفيّة الأب إغناطيوس قندلفت، وهي محفوظةٌ في مخطوط وُجد في مكتبة المعهد المارونيّ برومة برقم ٣٢١، وهي بلهجة حلب العاميّة. مطلعها :
«نبتدي في كتابة حياة سيّدنا كير ناوفيطوس مطران صيدنايا المطوّب الذكر من مدينة حلب. هذا الرجل من شبوبيّته صار راهبًا في دير البلمند قبل ان يبلغ من العمر عشرين سنة».
وهٰذه خاتمتها: «أنا الحقير القس إغناطيوس ابن الشماس نعمه مدبر الحلبيّ تلميذ سيدنا المطران كير ناوفيطوس مطران صيدنايا المطوّب الذكر، أشهد بذلك لأنّي من يوم الذي ارتسم مطران ما فارقته حتى إلى اليوم الذي تنيّح فيه. وهذا الشيء صار قدامي وقشعته بعيني ولمسته بيدي، ويسوع يشهد بذلك أنّي ما نقلت شيئًا زايد بل كثيرًا أشياء صغار ما كتبتها لأجل الطوله. تمّ بعون الله تعالى. آمين».
والمخطوط يشتمل على 19 صفحة، وتاريخ تأليفه عام 1741. وقد نشر عام 1905 في مجموعة الأب رباط : «وثائق تتعلق بتاريخ المسيحية في الشرق». أما المؤلّف إغناطيوس قندلفت فقد رسمه المطران ناوفيطوس نصري شمّاسًا ليكون في معيّته وخدمته وذٰلك قبل أن يتوجّه إلى صيدنايا بعد رسامته الأسقفيّة في حلب. وقد بقي في رومة بعد وفاة المطران ناوفيطوس وٱرتسم كاهنًا في هٰذه الفترة. وٱضطرّ إلى مغادرة رومة عام 1749 إذ قطعت عنه الإمدادات فذهب إلى مصر وتوفي هناك.
عام ۱۹۱۲، وضع نبذة عن حياة ناوفيطوس نصري، مطران بيروت باسيليوس قطان (1921-1933) يوم كان وكيلًا للرهبانيّة الشويريّة في رومة في الفترة الممتدة من ١٩١٠ إلى ١٩٢١، وٱستند إلى السيرة التي وضعها الأب إغناطيوس قندلفت ونشرها بالإيطالية في مجلة الدراسات الشرقيّة، بساريون. وعمد الأبوان بولس نزها، الراهب الباسيليّ الشويريّ، ومكاريوس جبّور، العام ۲۰۰۱، فنقلاها إلى العربيّة وأعدّا لها حواشي وملحقاتٍ وفهارس.
وها نحن نقدّم لقرّاء «المسرّة» ملخّصًا عن هٰذه السيرة المليئة بالعبَر واضعين إيّاها في إطارها التاريخيّ.
نشأته
وُلد عام ١٦٧٠ في حلب وهو معاصر تمامًا لجرمانوس فرحات (١٦٧٠-۱۷۳۲)، وكانت حلب تنعم بنهضة ثقافيّة وروحيّة غذّاها المرسلون الغربيون وساندها الأساقفة المحليّون، والـكـهـنـة خـرّيـجـو المدارس الرومانيّة (مخايل بجع ، بطرس التولاوي ١٦٥٧-١٧٤٥).
ولما شب نصرالله (هٰذا ٱسمه قبل أسقفيّته)، كان قد ٱستقرّ في حلب ، عام ١٦٨٥، البطريرك أثناسيوس دباس وبطرس التولاوي. وكان معظم الملكيّين اعتنقوا المبادئَ الكاثوليكيّة، أي أقرّوا أن الغربيّين اللاتين ليسوا على ضلال، ولم يكن يعني ذٰلك ٱنفصالهم عن كنيستهم بل ظلّوا يمارسون شعائرهم الدينيّة فيها مع تردّدهم إلى كنائس اللاتين وسماع المواعظ فيها. وتاق العديدُ من الشبان إلى حياة الكمال المسيحيّ وٱعتنقوا الحياة الرهبانية. في الوقت الذي أوفد فيه جبرايل (جرمانوس) فرحات المارونيّ، رفاقه الثلاثة إلى لبنان لتأسيس حياة رهبانيّة نظاميّة، وٱلتحق بهم، توجّه العديدُ من الملكيّين الحلبيّين إلى دير البلمند قرب طرابلس الذي عادت الحياة الرهبانيّة إليه مطلع القرن السابع عشر، ومن بينهم نصرالله، وذٰلك أواخرَ الثمانينات. وكان الحلبيّون يشكّلون مجموعةً متميّزةً ولهم جناحٌ خاصٌّ عُرف برواق الحلبيّين. وكان للأب فرسو اليسوعيّ المقيمُ في طرابلس ٱتصالاتٌ مع الرهبان.
ولم يرُق النظامُ القائمُ في الدير لعدد من الرهبان الحلبيّين، فتاقوا إلى حياة أفضل وتجلّت هٰذه النزعة منذ عام ١٦٩٧. وعام ١٧٠٤ كتب خمسة من الرهبان من بينهم نصرالله (علاوة على جرجس الذي أصبح مطران حلب، ومكاريوس الذي أصبح مطران بعلبك) إلى رومة طالبين أن يُعَدَّ لهم دير هناك لممارسة حياة رهبانيّة أفضل. ولما لم يصل ردٌّ إيجابيّ، تمّ تأسيس دير مار يوحنّا الشوير عام ١٧١٠ بمباركة البطريرك كيرلّس الخامس زعيم. ولم يتمكّن نصرالله من الٱلتحاق بالدير الجديد لأنّ البطريرك كان أرسله إلى ديار بكر. إلّا أنّه ظلّ في مشاركة روحيّة وأخويّة مع الرهبانيّة الجديدة ويُعتبر كأحد أبنائها.
رسالة ديار بكر
عام ۱۷۰٨، طلب البطريرك كيرلس من الخوري نصرالله التوجّه إلى ديار بكر، حيث كانت مجموعة من الملكيّين على رأسها المطران برثانيوس. والطائفة الكبرى هي الكلدانيّة وكان على رأسها إذ ذاك في ديار بكر البطريرك يوسف الثالث، وعمل الخوري نصر الله هناك ١٤ سنة بنشاط وٱكتسب قلوب الجميع. وتمكّن من إقناع مطران الروم برثانيوس ليوقّع على دستور الإيمان الكاثوليكيّ وإرساله إلى روما. وهو محفوظٌ في وثائق المجمع، يُرى بآخره توقيعُ المطران «الحقير في رؤساء الكهنة برثانيوس مطران الروم في آمد» وتحته ختمه بالعربيّة واليونانيّة، وبجانبه شهادة مار يوسف بطريرك الكلدان وشهادة الراهب الكبُّوشيّ جوان باطيستا، ويليها أخيرًا شهادة الخوري نصرالله كتب فيها :
«أنا الحقير الخوري نصرالله من رهبان الروم التابع لكنيسة مار بطرس أشهد بذلك». وتحتها ختمه القديم «نصرالله خوري بالمندي».
وٱنتشر الإيمان الكاثوليكي في ديار بكر بفضله كما يشهد شماسه وأمين سرّه:
«فلما وصل إلى ديار بكر قشع الرعيّة كلّهم معاندين، فبدأ يبشّر بالإيمان المقدّس فـيـهـم. بـفـضـل يسـوع انتشـر الإيمان المقدّس في ذلك البلاد لمّا قشعوا سيرته الصالحة طاعوا إلى تعليمه».
على رأس أبرشية صيدنايا
بعد أربعة عشر عامًا من إقامته في ديار بكر عرض عليه بطريرك الكلدان يوسف الثالث الذهابَ إلى رومة في مهمّة من قِبَله حاملًا بعض الرسائل الرسميّة، فقبل الخوري نصرالله إذ كان يتوق لزيارة رومة. وفي طريقه مرّ على حلب وقابل البطريرك أثناسيوس دباس. وقال له البطريرك:
«مريم العدرى جابتك إلى حلب لأنّي محتاج إليك كثيرًا إذ أتاني في هذا اليوم مكتوب من صيدنايا وأخبروني أن مطرانهم مات. وحطو على ذمتي حتّى أختار لهم مطران يكون واحد قاتوليقيّ وهم راضيين فيه، وأنا اخترتك أنت لتكون مطرانًا عليهم».
فتمنع لأنه كان راغبًا في التوجّه إلى رومه. إلّا أن البطريرك أصرّ ورسمه بعد ثمانية أيام مطرانًا على صيدنايا وسمّاه ناوفيطوس. وكان سلفه جراسيموس الدمشقيّ أقرّ بالإيمان الكاثوليكيّ مع البطريرك كيرلّس زعيم عام ١٧١٧، وطالب سكّان صيدنايا أن يكون مطرانهم الجديد كاثوليكيًّا. ولم يكن هٰذا يتعارض مع الأرثوذكسيّة قبل أن تشنّ القسطنطينية حملتها العنيفة على الكاثوليك.
«بعد كم يوم أمره البطريرك أثناسيوس بالعجل يروح إلى كرسيه. بقا بدو شماس فلحّ علي كثيرًا وأنا من محبّته ما خالفته لأنّي رأيت سيرته الصالحة. رحت معه إلى صيدنايا وفي يوم عيد العدرا الذي نصف آب رسمني شماس إنجيلي وادخرني له ابنًا».
وكان ذٰلك على الأرجح عام ١٧٢٢.
وسكن ناوفيطوس في صيدنايا مع شماسه إغناطيوس في بيت خارج دير السيّدة خلافًا لمن سبقه من أساقفة الكرسي. وٱقتصرت سلطته على الدير في الشؤون النظاميّة والإدارية. يقول كاتب السيرة:
«أوّلاً قشع أن في دير الراهبات واحد وستين راهبة وهم بغير قانون وفالتات على روسهم والدير فالت. فبدا يصلح أمور الدير وعمل لهم قانون وترتيب. وكلّهم على مايده واحده ياكلو والقراية على المائدة. ولا وحدة تقتني شيئًا، وسكّر أبواب الدير. وضع حرم على الرجال أنّهم لا يدخلوا إلى عند الراهبات، والراهبات لا يخالطوا الرجال ولا الرهبان. وعمّر ديـر آخر تحت إلى الرهبان. وجمع ما يحتاجون الراهبات إليه، أوقف ناس يقدّموا لهم حوايجهم وصار نظام في الغاية بنعمة يسوع».
ويورد صاحب السيرة عدّة حوادث تظهر تقوى المطران وقوة صلاته التي أجرت المعجزات. ولمّا كان البطريرك يستأثر بواردات الدير وأرزاقه، ولم يكن مدخول بلدة صيدنايا كافيًا، فوّض البطريرك المطران ناوفيطوس بالٱهتمام بأبرشية معلولا وأخذ نوريتها. وكان الخوري جبرائيل فينان التابع لدير المخلص ينشط في بلدة المعرة المجاورة لصيدنايا. ولما لقي هٰذا مضايقات من البطريرك أثناسيوس الذي لم يكن راضيًا عن المطران أفتيميوس صيفي وتلاميذه، استأذن بالمغادرة ومنحه المطران ناوفيطوس شهادة تزكية.
نشاطه في إطار الكرسي الأنطاكي
توفي أفتيميوس صيفي مطران صور وصيدا في ٢٧ تشرين الثاني ١٧٢٣، وٱنتخب لخلافته الراهب المخلصيّ إغناطيوس البيروتي، فأرسل البطريرك أثناسيوس الدباس منشورًا إلى ناوفيطوس نعمه الحلبيّ مطران بيروت، وناوفيطوس نصري أسقف صيدنايا يسألهما الصلاة على المطران الجديد، إذ كان هو طريح الفراش. وكان وقتئذٍ ناوفيطوس نصري متجوّلًا في رأس بعلبك يجمع فيها بعض الصدقات لأبرشيّته. فٱنطلق إلى حلب حيث تم الاحتفال في كنيسة السيدة. ويُستدلُّ من منشور آخرَ أرسله البطريرك أن ناوفيطوس بيروت وناوفيطوس صيدنايا عمدا أولًا إلى رسامة مكاريوس الباياسي اسقفًا على بعلبك، ثم ٱحتفل الثلاثة بإقامة مطران صور وصيدا. وفي سجلات الرهبانيّة الشويريّة أن ناوفيطوس نصري ٱشترك أيضًا في رسامة إغناطيوس ٱبن الخوري سليمان الحلبي أسقفًا على حمص. وجرت هٰذه الرسامات عام ١٧٢٤.
بعد هٰذه الٱحتفالات ٱستدعى البطريرك اثناسيوس ناوفيطوس نصري وسائر أحبار الكنيسة الأنطاكية وعقدوا لديه في حلب مجمعًا أثبتوا فيه ٱختصار صوم الرسل القديسين والاقتصار منه على ٱثني عشر يومًا، وتم ذٰلك بعد ٱستشارة بطاركة القسطنطينيّة والإسكندريّة وأورشليم. وصدر عقب المجمع منشورٌ بٱسم البطريرك أثناسيوس ممهورًا بتواقيع كل من أساقفة صيدنايا وصور وصيدا وبعلبك وحلب وحمص وبيروت وعكا واللاذقية وباياس. نستدلّ من كل هٰذا أنّ المطران ناوفيطوس نصري كانت له مكانته بين أساقفة الكرسيّ الأنطاكيّ ولم يحُل دون ذٰلك موقفُه من روما وإرسالُه إلى الكرسيّ الرومانيّ بُعيد رسامته الأسقفيّة، صورة إيمانه الكاثوليكيّ.
المطران ناوفيطوس نصري يرسم البطريرك كيرلس طاناس
تُوفي البطريرك أثناسيوس دباس في ٢٤ تموز ١٧٢٤ وٱنقسم الملكيّون بشأن خلافته كما حدث كثيرًا في تاريخ الملكيّين المعاصر، إلّا أنّ هٰذا الٱنقسام أخذ، هٰذه المرة ، طابعا مذهبيًّا إذ قضى على التعايش الذي كان قائمًا بين الكاثوليك والمتشدّدين في البطريركيّة الأنطاكيّة الواحدة.
كان أثناسيوس دباس، بعد أن استقرّ وحدَه في البطريركية عام ١٧٢٠ إثرَ وفاة البطريرك كيرلّس زعيم، عملًا بالٱتفاق الذي جرى بينهما، قد آثر البقاءَ في حلب ولم يستقرَّ في دمشق مركز الكرسيّ الأنطاكيّ منذ القرن الرابع عشر. وٱمتعض لكون الحلبيّين طلبوا أن يُقيم لهم مطرانًا أصيلًا، فأقرّ بذٰلك على مضض ورسم لهم عام ۱۷۲۱ المطران جراسيموس سمان أحد مؤسّسي الرهبانيّة الشويريّة، ثمّ عمل على إبعاده. ولمّا طلب الحلبيّون بإرجاعه، إشترط عليهم أن يرشّحوا لخلافته تلميذه سلفستروس. وإثـر وفـاتـه قـدّمـوا عـريـضـة مطالبين بسلفستروس، دعمها الكرسيّ القسطنطينيّ فرُسم بطريركًا في القسطنطينيّة في ٢٧ أيلول ١٧٢٤ وٱعترفت به السلطة العثمانيّة.
أما ملكيّو دمشق الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أصحابَ الشأن في ٱنتخاب راعيهم فٱختاروا سيرافيم كيرلّس طاناس. ووقّع العريضة كهنة الأبرشيّة الدمشقيّة الثلاثون وثلاثمئة من الوجهاء . وكانوا يستندون إلى دعم عثمان باشا والي دمشق، إلّا أنّه ما عتّم أن عُزل.
وبعد الانتخاب جرت المفاوضة بين المنتخبين مع بعض مطارنة الأبرشيّة الأنطاكيّة بشأن رسامة الأب المنتخب لأنه كان كاهنًا بسيطًا. إلّا أن أساقفة بيروت وصور وصيدا وبعلبك تلكأوا عن المجيء لأسباب عديدة وبخاصة تخوّفًا من البطاركة اليونان. وأسرع ناوفيطوس أسقف صيدنايا بالحضور وٱلتحق به المطران باسيليوس فينان الذي كان مقيمًا في دير المخلّص. ورأى الأسقفان من الصواب أن يستعينا بثالث لتصحّ الصلاة على البطريرك، فوقع الاختيار على راهب مخلّصيّ من بيت «الفاضل» من معلولا، فرسماه على كرسيّ الفرزل ودُعي أفتيميوس. وٱحتفل الثلاثة برسامة كيرلّس طاناس وتنصيبه في ٢٠ أيلول ١٧٢٤ في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. وكان الراسم الأوّل المطران ناوفيطوس نصري .
كان ٱنتخاب كيرلس طاناس قانونيًّا من الوجهة الكنسيّة. أما السلطة العثمانيّة فلم تكن تعترف إلّا بمن يوافق عليه البطريرك القسطنطينيّ الذي جعلته مهيمنًا على كلّ الأرثوذكس في السلطنة العثمانية.
كان كلٌّ من البطريركين قد ٱنتُخب من قبل الكاثوليك والأرثوذكس. والأغلبيّة العظمى من الملكيّين في حلب من الكاثوليك، وقد صوّتوا لسلفستروس. إلّا أنّهم لما رشق زعماءّهم بالحرم وفرض عليهم إدانة المبادئ الكاثوليكيّة، تخلَّوا عن سلفستروس، وكثيرون من الذين ٱنتَخبوا كيرلّس تخلَّوا عنه لأنه لم يحظَ بالتأييد الرسميّ وٱضطرّ إلى الهرب من دمشق.
الأسقف الطريد
لمّا تثبّتت البطريركيّة لسلفستروس، ٱجتمع مع البطريركَين القسطنطينيّ والأورشليميّ وأحدَ عشرَ أسقفًا يونانيًّا وأصدروا منشورًا نادَوا به بالحرم واللعنات على كلّ من يقوم بالدعوة الكاثوليكية ، وفي مقدمتهم ناوفيطوس مطران صيدنايا.
إضافة إلى هٰذا الحرم، ٱستخرج سلفستروس أمرًا سلطانيًّا بنفي ناوفيطوس وحصل على إذن بتوقيفه. ودَريَ بالأمر المرسلون وطلبوا إليه أن يهرب في الحال لأنّه في اليوم التالي سيأتي من يقبض عليه، وذٰلك قبيل عيد الغطاس ١٧٢٥. ويقول مؤرّخ المطران ناوفيطوس:
«في الحال طلعنا إلى الدير وعملنا باركليسيّ إلى مريم العدري وطلبنا منها أن لا تسلّمنا في أيدي أعداء الإيمان. وعند المساء رحت أنا وحدي إلى الدير ودخلت إلى عند راهبة عجوز اسمها حنّة من حلب. قلت لها في لنا مكان حتّى نتخبا فيه وما أحد يعرف فينا؟ قالت لي: ولأيّ سبب؟ قلت لها الأمر كله. قالت هذا أمر صعب قوي لأن العسكر يفتش في كلّ مكان. قلت لها: كيف العمل؟ قالت: في عندي قنّ الجاج ما في أحسن منه لأن ما حدا يفتّش القن. اسمع مني، نصف الليل تعال إلى الدير ودق الباب دقة واحدة وأنا أنتظركم وأفتح لكم وتدخلوا وما حدا يعرف فيكم. فأخبرت المطران بذلك. قال: قوي مليح. نصف الليل رحنا ودخلنا إلى قن الجاج بالغصب حتى وسعنا. فضلّينا ثلاثة عشر يومًا. ثاني يوم الذي دخلنا إلى القن وصلوا الأعداء وفتشوا علينا بكلّ جهدهم، ما قشعوا أحدًا ولا أحد أخبرهم عنّا لأنّ ما مع حدا خبر فين نحن غير الله وحنّة الراهبة. بعد عشرة أيّام وهم يفتّشوا علينا ما قشعوا أحدًا، كسروا باب بيتنا ونهبوا جميع الموجودات في البيت وخرجوا من البلد. بعدما سافروا إلى الشام، أجت حنّة الراهبة وأخبرتنا عن جميع الأحوال. المساء خرجنا من القن الذي نحن فيه، رحنا إلى البيت ما وجدنا فيه شيء. قال المطران: «الرب أعطانا والرب أخذ، يكون اسمه مباركًا» .
وبعد النجاة من هٰذا الخطر، ذهب المطران وشمّاسُه فورًا إلى جبل لبنان. إلّا أنّ الوشاة تكلّموا، فأرسل باشا دمشق جنودَه إلى جبل لبنان كي يمسكوهما، ففرَّا من قرية إلى أخرى. ويتدخل رئيس الفرنسيسكان بدمشق لدى الباشا إسماعيل باشا العظم، فسمح لناوفيطوس بالعودة إلى أبرشيته وكان ذٰلك أواخر عام ١٧٢٧. وكتب إلى المجمع المقدّس في رومة ليثبّتوا ٱنتخاب كيرلّس طاناس ويسعَوا لإعادته إلى كرسيّه.
إلّا أن وكيل البطريرك سلفستروس في دمشق لاونديوس، لمّا فشل في تأليب باشا دمشق ضدّ ناوفيطوس، أوعز إلى سلفستروس أن يستعين بالبطريرك القسطنطينيّ ليستحصل من السلطان على أمرٍ بالقبض على ناوفيطوس وقطع رأسه. وصدر الأمر بذٰلك. وأُعلم ناوفيطوس بما دبّر له، فهرب مجدّدًا إلى لبنان. وٱستقرّ في دير مار الياس بجوار رشميا (قرب عين تراز). وكتب مجدّدًا إلى رومة لتعترف بالبطريرك كيرلّس. وكانت رومة متردّدة. أخيرًا أقرّت رومة الٱعتراف بكيرلّس طاناس بطريركًا أنطاكيًّا عام ١٧٢٩. وفي ٢٥ نيسان 1730، تمّ رسميًّا تنصيبه في المخلّص بحضور الموفد البابويّ والمطران ناوفيطوس نصري وباسيليوس فينان، بعد أن أقسم بعدم المساس دیر بالطقوس الشرقيّة.
ولمّا رأى البطريرك سلفستروس أنّ الأساليب القمعيّة لم تنل من عزيمة المطران ناوفيطوس، قرّر تحرير رسالة إغراء إلى الأسقف طالبًا منه ٱعتناق الأرثوذكسيّة، وجاء فيها :
«ما ترحم حالك وأنت قاعد في الجبال مثل الوحوش، عدّي عن كفرك وتوب وأنا أغفر لك».
وجاء جواب المطران :
«أنا راضي في الجبال أخيَر من أن أنكر إيماني وأروح إلى الجحيم».
وبعد شهر عاد سلفستروس إلى محاولته مُقسمًا ومؤكّدًا أنّه لن يمسّه بأذى. ومع خَتم البطريرك وقّع وختَم أعيانٌ من طرابلس، أضافوا :
«نحن كفلا البطرك لا تخافوا يضركم بل تكونوا طائعين له، وتقروا صورة الاعتقاد وتحرموا البابا ولا تعودوا تكرزوا باسمه، لأنكم ما تحـسنوا تخلصوا من يد البطرك، فين ما رحتوا يحصلكم. وإن كان ما تطيعوا ما في غير القتل وقطع الراس قدامكم».
فأجاب المطران ناوفيطوس:
«أن له ستين سنة من العمر وهو يخدم هذا الإيمان المقدّس الكاثوليكيّ، فغير ممكن أن ينكره. وهو راضي بالعيش بالقلة في الجبال وهو لا يخشى الموت، والبابا وكيل الله على الأرض وخليفة مار بطرس هامة الرسل وعلى البطريرك أن يكف عن اضطهاد الكنيسة ويخضع لرأسها الحبر الأعظم. إذ ذاك حالاً أجي وأقبّل أقدامك وأكون طايعًا. وإن كان ما تعمل هذا، أنا ما أعرفك بطرك وأنت في حالك وأنا في حالي».
اللجوء إلى رومة
ولما أدرك المطران ناوفيطوس أنّه لم يعد هناك مجالٌ لعودته إلى أبرشيّته وأصبحت حياته في خطر، قرّر الهرب واللجوء إلى رومة، ففاتح اليسوعيّين بذٰلك، فٱتّصلوا بالقنصل الفرنسيّ في صيدا وترجّوه أن يركب المطران ناوفيطوس وأمين سرّه في مركب فرنسيّ كان مزمعًا أن يُبحر إلى مرسيليا. وٱغتنم القنصل فرصة غياب الوالي العثمانيّ عن المدينة، فٱستدعاهما سرًّا إلى صيدا وأركبهما السفينة وأوعز إلى القبطان أن يسافر فورًا قبل عودة الوالي.
أثناء الطريق توقف المركب في قبرس. وٱقترب ستة رجال بقارب من المركب وصعدوا على متنه وقالوا للأسقف:
«أنزلوا معنا إلى قبرص حتّى تباركوا علينا».
فأجابهم الأسقف بعدم ٱستطاعته. وألحّوا عليه أكثر من ساعتين بدون جدوى. وبعد مغادرتهم أُوعز إليهما من قنصل فرنسا في قبرص بألّا ينزلا إلى الأرض لأنّ الباشا وجنودَه ينتظرونهما ليُلقوا القبض عليهما. وفي اليوم الثاني حضر لرؤية ناوفيطوس أشخاصٌ آخرون من بينهم وجهاءُ من قبرص وقالوا له:
«إنّنا من قبل مطران قبرص مرسلين إليكم وهو يسلّم عليكم كثيرًا، تفضلوا عنده لأنّه عازمكن عنده».
فأجابهم الأسقف:
«لا نستطيع أن نخرج من المركب لأنّنا لا نعلم أي وقت يسافر».
فأردفوا قائلين:
«المطران ينتظركم وعمل لكم عزومة، عيب نروح وما تروحوا معنا».
وألحّوا عليه طويلًا ثم غادروا يائسين. وما إن ابتعدوا قليلًا عن المركب حتّى رشقوا الأسقف وأمين سرّه بهٰذه التوعدات:
«يا أنجاس يا ملاعين، كنتو تنزلوا معنا وتقشعوا كيف موته تموتوا، يا ملاعين خربتوا البلاد وعملتوا الناس كلّهم إفرنج ونزعتوا الإيمان وهربتوا يا كلاب، إن وقعتوا نفرّجكم».
في الثلاثين من شهر آب سنة 1730، وصل ناوفيطوس ورفيقه إلى رومة ونزلا في دير القدّيس استفانوس عند الإخوة الصغار.
موته
دامت إقامة المطران في رومة أقل من ستة أشهر. فبينما كان متّجهًا لزيارة الآباء اليسوعيّين، تعرّض هو ورفيقه لحادث سیر إذ كان هناك ٱزدحامٌ من العربات بمناسبة ٱستقبال سفير مالطة. فداسته إحدى العربات وكسرت له أضلاعه، بينما كانت إصابة رفيقه أخفّ. ونُقلا إلى مشفى الروح القدس. وهناك طلب المطران أن يمسح بالزيت المقدّس. ثمّ أوصى أمين سرّه أن يدفن في كنيسة ٱنتشار الإيمان وطلب منه أن يتلو قانون يسوع الحلو.
«فحطيت البطرشيل وقريت القانون وهو يقرا معي حتّى خلص، وهو ختم الصلاة. بعده قال: «اعترفنا وأخذنا الزيت المقدّس ما بقا لازمنا شي روح أنت تغدا». ولمّا عاد سأله: «أيش الوقت». قلت له نصف النهار، قال لي: «يا ابني أودعتك في يد يسوع وأنا رايح». فبديت أبكي. قال: «يا ابني لا تبكي صلّي منشاني واعمل قداديس على روحي». ثم قال: «قلبي ونفسي قد ابتهجا بالإله الحي». وأسلم الروح. والريس والكهنة واقفين ينظروا. قالوا: ما له؟ قلت لهم: مات. قالوا: عمال يلقش معك. قلت لهم تعالوا انظروا. تقدموا لعنده وجسّوا جسده لقوه مات. قالوا منحقة مات.
«فتكيناه على القماش وخليناه ساعتين. بعده لبسته البدلة مثل العادة وحطوه في الكنيسة. ضل في الكنيسة نصف يوم السبت ويوم الأحد المسا أخذناه إلى بروبوكندا. ويوم الاثنين عملوا له جنّاز مثل عادة المطارنة وقدّاس ترتيل. بعدما خلصوا القدّاس أجوا الناس حتّى يتباركوا منه كالعادة، لقوه عرقان كثيرًا. قالوا المطران ما مات لأنّه عرقان. قلت لهم: اليوم له ثلاثة أيام ميت. فأجا ريس بروبوكندا أشرف عليه، لقيه عرقان كثيرًا، وجهه ما هو كمتل وجوه الموتا. قال الريس لا أحد يسطعه حتّى أخبر سيّدنا البابا، فراح أخبر قداسته. فأرسل أربعة مطارنة وأربعة حكما حتّى يشرفوا عليه ويقشعوا إن كان هذا الشيء من أمور الطبيعة أو غير طبيعي. فأشرفوا عليه وكلّهم قالوا هذا الشيء فوق الطبيعة. واحد من الحاضرين أخذ شعر من ذقنه وراح له أخ مريض في وجع الصدر له سنتين وثلاث أشهر على الفراش والحكما قالوا له ما بقا له طب. فأعطاه الشعر الذي أخذه وقال له: «اليوم رحت إلى بربوكنده وجدت واحد مطران شرقي مات وأناس عمالين ياخذوا بركته وأنا أخذت شعر من ذقنه». قال المريض: «كيف أعمل فيهن». قال أخوه ما أعرف. أخذهم المريض وأكلهم فلما أكلهم نام حالاً. بعد ربع ساعة قام طيب من غير مرض وأجا وأخبرنا وتبارك منه وحكا لنا عما صار له وأنّه شفي في الحال. فلمّا سمع الناس تهافتوا عليه وأخذوا كل دقنه وشعر رأسه وكلّ حوائجه وخلوه عريان. فلبسناه ثانيًا فأخذوهم أيضًا. فضلّ خمسة أيّام في الكنيسة وهو دائمًا عرقان ووجهه كمثل الحيّ. ولونه ما تغيّر وجميع الذين أخذوا منه نالوا الشفاء… فبعد أرسل سيّدنا البابا أمر أن يأخذوا منه دم حتّى يقشع يخرج منه أم لا. فأجا الحكيم ربط يده وأخذ النسطر وضرب به يده فخرج منه دم أحمر مثل رجل حيّ. فكتب المطارنة والحكماء شهادتهم بذلك. فأمر سيّدنا أن نكتب عليه لوح من رصاص اسمه وكنيته وكرسيه وندفنه. فعملنا كما أمر قدسه. والمسا دفنا جسده المبارك في كنيسة بروبوكندا في أربعا وعشرين من شهر شباط كان ذلك في سنة ١٧٣١».
«وكان هذا الرجل متواضع في الغاية وحليم ويغفر لمن يسيء إليه في الحال وغير حقود وقنوع في المعاش ومتعبّدًا إلى مريم العدري كثيرًا، وكان غير الفرض كلّ يوم يقول الباركليسي إلى مريم العدرى ودائمًا المسبحة في يده. وما كان يفتّش عن أمور العالم وإن أحدا حكا عن أمور العالم كان يهرب. وإن قشعني أنا أتكلم مع أحد من جهة أمور العالم كان يقاصرني عن ذلك ويقول لي: «يا ابني اسمع كلامي، إن أمور العالم لأهل العالم. أهل العالم يفتّشوا على أمورهم والكهنة والرهبان على أمور الروحانيّة لا غير، لأنّنا تركنا العالم، ما لنا حاجة في أموره. بل نفتّش على الذي انتخبنا إليه».
مات ناوفيطوس في عرف القداسة، وكُتب على اللوحة الرصاصيّة على ضريحه «المكرّم». ويقول عنه يوسف السمعاني (1687-1768) الذي عرفه في رومة:
«ناوفيطوس مطران صيدنايا الذي توفي في مدينة رومية العظمى حيث صار مشهدًا للعالم والملائكة والناس (1 كورنتس 9: 4). بالآيات التي ظهرت منه بعد انتقاله».
والأثر الطيّب الذي تركه ناوفيطوس حمل الكاردينال بلوكا ليكتب للخوري نيقولاوس صايغ (١٦٩٢-1756)، أمين عام الرهبانيّة الشويريّة، كي يرسل رهبانًا كهنة من رهبانيّته إلى رومة ووضع تحت تصرّفهم كنيسة النافيشلا.
ونختم مقالنا بخاتمة الأبوين بولس نزها ومكاريوس جبور:
«العبرة الأهمّ التي خطّها لنا صاحب هذا الكتاب ووجدنا فيها مثلاً يحتذى به العلاقة السليمة والرصينة مع الكنيسة الرومانية المقدسة وباقي الكنائس، فهي نهج القداسة وشفافيّة السيرة بحسب وصيّة القدّيس بولس إلى الرسول تيموثاوس: «إحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الحال فينا». إذ بها وحدها ترسم أطر الوحدة ويفرض الاحترام. وإذ ذاك تتحقّق رغبة المخلّص: «هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس فيروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات».
نأمل أن يأتيَ يومٌ نرى فيه ٱسم هٰذا المكرّم مرفوعًا على المذابح ومدرجًا مع أسماء الأبرار والقدّيسين.
الخوري نيقولاوس الصائغ 1692 م – 1756 م
المرحلة الأولى: في حلب
نيقولاوس(نقولاوس/نقولا/نيقولا) بن نعمة أو نعمة الله الصائغ . ولد في حلب سنة ١٦٩٢م من أبوين تقيين من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، نشأاه على التقوى والطهارة، والبر والصلاح، والتهذيب والإيمان، فنما فيها ونمت فيه أروع نموّ، وكان متوقد الذهن نبيهًا، فلما أرسلاه إلى أحد المكاتب للتعلم، أظهر من حدّة العقل، وسرعة الفطنة والفهم، والشغف بالتعلم والتثقف، ما جعل أساتذته يتوسّمون فيه الخير ويرون أنه سيصبح من أبرز أعلام وطنه وأعظمهم .
بعد أن أحرز مبادئ العربية، علمه أبوه حرفته : الصياغة. فأتقنها وأخذ يشتغل في ميدانها. ومع أنه برع فيها، إلا أن عقله وقلبه وحواسه ، كانت تزهد عن وهيجها وعن مباهج الدنيا وزخارفها… وتنجذب إلى حياة أرباب الدين والزهاد والنساك… وتحثّه على تقضية أوقات فراغه في: زيارة الكنائس، وإقامة الصلوات، والتردد إلى المقيمين على العبادة، ومكالمة الكهنة…
ولشدة ميلانه إلى العلوم اللسانية والدينية، رغب في التضلّع منها :
– فأخذ الصرف والنحو والبيان والعروض على الشيخ سليمان بن خالد بن عبد القادر الحنفي الحلبي المعروف بالنحوي، العالم الكبير الذي تبحر في علوم الأدب وبرز فيها، واشتهر بها، وغد إمام العلماء الحلبيين في زمانه.
– وأخذ المنطق والفلسفة واللاهوت على أحد أفاضل كهنة الروم الكاثوليك الخوري ميخائيل البجع الحلبي، الذي حصل على شهادة الملفئة من رومة، وبعد عودته إلى وطنه، رقي إلى درجة «الإيكونوموس»، وطفق يهدي ويرشد…
– وتتلمذ كذلك لكاتب أسرار البطريرك اسطفان الدويهي : الخوري بطرس التولاوي الماروني الذي أرسله ذلك البطريرك العظيم إلى المدرسة المارونية بحلب، فحازت بفضله شهرة كبيرة، وقد درس فيها الإيطالية واللاتينية، وتتلمذ له جماعة في العلوم اللاهوتية العالية، ولمهارته وعظمة شأنه نعت بنعوت جليلة منها :
الفيلسوف الكامل – إمام الخطباء – قدوة العلماء – كوكب الشرق .
– ومن الذين تتلمذ لهم أيضا : السيد جرمانوس فرحات، المطران الماروني الشهير الذي كرس حياته لدينه وللناس والفضيلة والعلم والأدب ، وخدمهم بكل إيمان وإخلاص، وأمانة وورع، وذكاء وبراعة. وفي المؤرخين من لا يستبعد أن يكون هو الذي أقنع والديّ نقولا بالموافقة على تركه يلبي نداء ربه وينتظم في السلك الكهنوتي. وقد نشأت صداقة حميمة بينهما أي بين جرمانوس ونقولا، أفاد منها هذا التلميذ الفطن إفادة سامية، إذ رؤى فكره وصقل مدركاته بخلاصتها النقية. ولما علم بموته سنة ١٧٣٢ م، نظم في رثايته قصيدة من ٧٢ بينا صور فيها بإعزاز وتقدير شديدين، علاقته الوطيدة به والوجع الذي زرعه فيه موته، مثنيًا عليه، ممجّدًا صفاته، معتبرا إياه إمامه وذخره بل غناءه ومغنمه. من أبيات هذه المرثاة :
هو اللَّوذَع المفضال من خير مهده ومن حينما نيطت عليه تمائمه
حسام له الحسنى نجاد وجفئه التُّقى وظبـاه البِـرّ والخير قائمـه
حلبت به وسع الإناء معارفا يلازمني جنح الدجى وألازمه
جنيت ثمار الحمد من دوح فضله وزهـر ثـناء عنه شقت كمائمة
نشير هنا إلى أن الأب لويس شيخو اليسوعي الذي قام بالترجمة لهذين العلمين قال : «كانا كالفرقدين في سماء الكنيسة الكاثوليكية بل كشقيقين في خدمتها».
المرحلة الثانية : في لبنان
سنة 1716 م، ترك نقولا، وهو ينوي الترهب ، مسقط رأسه وتوجه إلى لبنان حيث زار أديرة الجبة وكسروان، وقابل الكثير من معارفه وحاورهم، وكان كلامهم يروي نيّته المومأ إليها ويشجعها على الارتكاض فيه وينميها. ولما وصل دير أبناء طائفته بالشوير، أي دير مار يوحنا الصابغ ، وقابل رهبانه – وكان العديد منهم من حلب ، يدركون أنه يتحلى بمزايا رفيعة وأخلاق نبيلة ومواهب جميلة، وأنه يغار على دينه ويؤثر العيش النسكي – رحّبوا به كل الترحيب وأكرموه كل الإكرام، فصمّم على الترهب فيه. كان وصوله إليه على ما جاء في سجل الرهبانية الشويرية «يوم السبت بعد خميس الصعود في شهر أيار سنة 1716 م».
بعد أيام من ذلك، لبس ثوب الابتداء، «وكان مثالاً في التقوى والوداعة والمحافظة على القانون الرهباني»، كما قالت سالكة مسلك الحزم والصدق، الأخت دانيال عون. ولذلك استلب أفئدة الرهبان واستمالها إليه، وكان رئيسهم
لشدة احترامه له وثقته بذكائه ونزاهته وأمانته، يستشيره في الأحكام التي يبثّها ، ويشكر الله على إرساله إلى رهبانيته .
سنة 1719، رقي إلى درجة الكهنوت من يد السيد سلسفتروس الدهان مطران بيروت. وبعد هذه الترقية، راح برزانة ونشاط يتنقل من قرية إلى أخرى : ينصح ويعظ مذكّرًا بالعواقب وبما يصلح السيرة. وقد تمكن من أن يرد إلى الكثلكة عددًا مهمًّا من الناس، وساعد على وجود كهنة في البلدات والقرى المجاورة للشوير.
سنة ١٧٢٠م، صار أول مجمع عام للرهبانية الشويرية في دير مار يوحنا الصابغ، وفيه انتخب رئيس هذا الدير الخوري نيكيفورس كرمه الحلبي رئيسا عامًا – فكان أول رؤسائها – وانتخب الخوري نيقولاوس مدبرا ثانيا. وبعد ذلك طلب الرئيس المذكور إلى نيقولاوس أن يتفقّد أديرة هذه الرهبانية : دير مار أشعيا القريب من برمانا – دير مار الياس بجوار المحيدثة – دير السيدة براس بعليك .ويرتب أمور الرهبان القانونيين فيها، «إذ كانت السيرة الرهبانية تكاد تكون بلا قانون ولا نظام»، على ما أوضح الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، وأضاف «فقام الأب نقولا في زيارته نعم القيام، ورتب كل شيء في مكانه. ونلفت إلى أنّ تلك الرهبانية تعرف «بالحناوية» و«بالشويرية» :
الحناوية، نسبة إلى كنيسة الدير الأولى المشيدة على اسم القديس يوحنا الصابغ (المعمدان).
– الشويرية، نسبة إلى الشوير، وهي قرية من مقاطعة المتن الشمالي قريبة من الخنشارة يقع في خراجها الدير المذكور.
سنة ١٧٢٣ م، تولى الخوري نيقولاوس رئاسة دير مار يوحنا الصابغ ، فعني به كل العناية وحسن أوضاعه المادية والأدبية، وكذلك فعل في دير مار أشعيا لما تولى في السنة التالية رئاسته .
سنة ١٧٢٧ م ، انتخب رئيسا عاما على رهبانيته. وعلى الرغم من أنه كان لا يرغب في الرئاسة ولم يطمع يوما فيها أو يخطط لها، فإنه لم يجد بُدًّا من تقبُّلها .
في المجمع التالي الذي التأم سنة ١٧٢٩ م ، طلب إعفاءه من الرئاسة، فأجاب الرهبان إلى طلبه بعد رفضهم إياه غير مرة، وانتخبوا مكانه الخوري مكسيموس (ميخائيل) حكيم .
سنة ١٧٣٢م، سيم الخوري مكسيموس مطرانا على حلب، فانتخب الرهبان الخوري نيقولاوس ثانية، رئيسًا عاما على الرهبانية. وظلوا يكررون انتخابه إلى آخر حياته، فبقي تاليًا يرئس هذه الرهبانية إلى وفاته، باذلاً في سبيلها، بإيمان
ووفاء، وحب وحماس، كل طاقاته. وجدير بالذكر هنا أنه أجاد القيام عليها ورعايتها والاعتناء بها … ومن الأعلام البارزين الذين أكدوا ذلك : مارون عبود، قال : «ساس الرهبانية أحسن سياسة» – والمطران يوسف الدبس، قال : «أحسن تدبير الرهبانية وزادها نموًّا ونجاحًا».
كانت وفاة صاحب هذه الترجمة – الذي أصبح مجدًا لطائفته ، كما ذكر الأب بطرس روفايل وكلامه يقوم على الصواب ويركب الإنصاف – في دير الملاك ميخائيل بالزوق في 17 كانون الأول سنة 1756 م. وقبيل موته طلب إلى الرهبان الذي اجتمعوا لمجمع عام، إعفاءه من الرئاسة، فلم يقبلوا. قال الأب لويس شيخو :
“لما رآهم لا يصغون إلى توسلاته قال لهم : إن لم تعفوني أنتم فالله نفسه يعفيني .قال ذلك كأنّ الأمر أوحي إليه من قبل الله. وفي غد ذلك النهار، وهو اليوم السابق لحفلة المجمع، حضر تلاوة الفرض وقدم الذبيحة الإلهية، وبعد الشكر صعد إلى غرفته بتمام الصحة ودعا متقدمي الرهبان وأوصاهم وصاياه الأخيرة، كأنه يودعهم الوداع الأخير. وفيما هو يكلمهم، شعر بجسمه بضعف عقبته حمّى شديدة فتقبل الأسرار المقدسة بكل ورع وخشوع ومسح المسحة الأخيرة بيد السيد أثناسيوس دهان مطران بيروت. وكان الرهبان في غضون ذلك قد اجتمعوا عند فراشه، فأخذ المحتضر يودعهم زيحرّضهم على الثبات في دعوتهم والمحافظة علو واجباتهم الرهبانية، وباركهم، ثمّ أمسك بيده الصليب المقدّس وقبّله وضمّه إلى صدره، وأسلم الروح بكل بساطة”.
خاتمة:
عُرف هذا الخوري الألمعيّ الورع الصالح، سالكًا غير مسلك نبيه رصين نبيل، كيف يفيد من مواهبه وتجاربه وثقافته، ويفيد الناس يزيدتها الهادفة إلى : إبعادهم عن القواذير والأضاليل والخطايا… وحثّهم على تحمل التجارب بصبر والتزام التوبة والتقى وممارسة الخير والحق … وخير ما نختم به حديثنا عنه، بضعة أبيات من نظمه تحمل راية الصلاح والفلاح :
إحفظ وصايا الله يا ذا المتَّقي وَدَعِ الـبـطـالـة وانـبـد الـبُـطـلانـا
واستقن فهما ما حييت وحكمة فـتـقـيّك شرّ الجهـل والـطـغـيـانـا
وردية العذراء أم الله قـد جاءت بخمسة عشر سـرًّا فائقًا
فرح وحزن ثم مجد كلّ سرٍّ يحتوي معنى أكـيـدا صـادقًا
فتعبَّدَنَّ بها لمريم تحظ بالغفران إمـا كـنـت فـيـهـا واثـقًا
لعمرك ما لنا في الارض ملك وكـل عـائش عـيش الـغـريب
ولـكـن مـلـكـنـا مـلـكـوت رب بهـيّ الحـكـم ديـان مُـثـيب
تيقّظ وتُب قبل المنون وقبلما ذكاء نهار العمر بالموت تغرُبُ
١٩١٤)+١٩٨٥) 2 – نقولا قادري
هو نقولا بن يوسف قادري، والدته وديعه صباغ، من مواليد زحلة في 13 تشرين الثاني١٩١٤ ، نال سر العماد في 1 كانون الثاني 1915 ،دخل الرهبانية في ٢٤ تشرين الأول 1930 ، لبس ثوب الابتداء في 14 شباط 1931 ودعي أناطوليوس. أبرز نذوره الموقتة في ٢٩ أيار۱۹۳۲، وارتبط بالنذور المؤبدة في ٢٩ آب1936. دخل مدرسة الصابغ وأكمل فيها علومه الابتدائية والثانوية ، وقد نال شهادة البكالوريا اللبنانية، القسم الأول – الفرع الأدبي، في دورة حزيران ١٩٤٠ . درس الفلسفة واللاهوت عند الآباء اليسوعيين ، في جامعة القديس يوسف في بيروت، وحصل على شهادة الليسانس في اللاهوت في 1 تموز ١٩٤٦، ثم باشر بإعداد أطروحة ، لنيل شهاد الدكتوراه في الليثرجيا من باريس، بعنوان : «يسوع الملك في الليثرجيا البيزنطية» ، إلا أن ظروفا حالت دون سفره وإكمال مسعاه .قبل الرسامات المقدسة سنة 1945، بوضع يد المطران مكسيموسالصائغ ، متروبوليت بيروت ، فنال درجة الشموسية، في 18 آذار، في كنيسة المطرانية(1)، والكهنوت ، في ٢٩ تموز ، في كنيسة دير الصابغ ، ودعي نقولاوس تولى مسؤوليات عديدة في الرهبانية وخارجها ، منها
أولا : مسؤوليات رهبانية :
مدرس اللغات القديمة في مدرسة الصابغ (1946-1947، 1954-1959) أمين السر العام (1953-1959)، رئيس الرسالة في الأردن (1965-1959)، رئيس الإكليريكية الصغرى في الخنشارة (1965-
١٩٦٨)، معلم المبتدئين (1950 مساعد، 1975-۱۹۷۷، ۱۹۸۰-۱۹۸۳) ، رئيس دير مار الياس الطوق في زحلة (١٩٨٤ – ١٩٨٥)
ثانيا : مسؤوليات راعوية
خدمة الرعايا : عين الصفصاف (1946-1947، ١٩٨٠-١٩٨٤)، المخلص في بيروت (1947-1950 مساعد، ۱۹۷۷-۱۹۸۰)، كفرعقاب (1950-1951)، الخنشارة (1954-1959، 1968- 1969، 1975-1974)، إربد (1951-1953، ١٩٥٩-١٩٦٥)، بولونيا (١٩٤٦ مساعد ، ١٩٨٠-١٩٨٤)، البربارة في زحلة (1969-۱۹۷۲)، منيارة (١٩٧٢-١٩٧٤)
٢ – نيابة أسقفية :
– إربد، الأردن (١٩٥٩-١٩٦٥). وقد نال رتبة «أرشمندريت» من المطران ميخائيل عساف ، في ٢٧ آذار 1960 ، في كنيسة سيدة البشارة في إربد .
– طرابلس (۱۹۷۲ – ١٩٧٤).
الوفاة :
توفي، بمرض القلب ، في ٢٥ حزيران 1985 ، في دير الصابغ ، ودفن ، في مسقط رأسه ، بمقابر الرهبان في دير مار الياس الطوق.
مزاياه :
يعتبر الأب نقولا من كوكبة الآباء الأفاضل المشهود لهم بالفضيلة والتقوى والعلم . فقد اتسمت حياته بطابع القداسة والزهد : ببساطة وفرح حياته الرهبانية المشتركة ، بفقره وعفته وطاعته المميزة : فكانت حقائبه دائها جاهزة لتلبية أوامر السّلطة، في تنقلاته الكثيرة والسريعة ، بحرية وطيبة خاطر (قيل : إنه، في 3 سنوات ، نقل 13 مرة!)؛ وكان محبا للطقوس وبارعا في التيبكون والموسيقى البيزنطية واللغة اليونانية . وكان غيورا على الكنائسية الرهبانية وحريصا على سمعتها ومصالحها .
اشتهر بحبه للكتب والمطالعة وكان له الفضل بشراء الكثير من الكتب ، من مدخوله الخاص ، بإذن الرؤساء ، لاهتمامه بمكتبة دير الصابغ ، وخصوصا بالمخطوطات ، التي عمل على تدوین ثبت خاص بها. وإلى جانب اهتماماته الكثيرة ، اهتمامه بألبسة الرهبان : وقد كان يجيد مهنة الخياطة ، فيخيط 4 الأثواب ، ويفضل ويخيط البدلات الليثرجية للآباء ويصنع لهم القلانس.
3 – جاورجيوس السكاف (١٨٩٥+١٩٦٢)
هو مراد بن موسى السكاف ، والدته منّة حبيب أبو صعب المعلوف، من مواليد زحلة ١٨٩٥، لبس ثوب الابتداء في ١٨ شباط ۱۹۲۸ ودعي أفرام . أبرز نذوره الاحتفالية ، عن يد الأب المدبر فلابيانوس كفوري ، في ٢٢ نیسان ۱۹۲۹ ودعي جاورجيوس.
ارتسم شتاشا إنجيليا، في 6 آب ١٩٣٠، بوضع يد المطران باسيليوس قطان، متروبوليت بيروت ، في كنيسة المخلص – ضهور الشوير، وكاهنًا، في ٣١ آب ، من السنة ذاتها ، بوضع يد السيد إفثيميوس يواكيم، مطران زحلة ، في كنيسة دير مار الياس الطوق .
خدم رعية السيدة في بولونيا (١٩٤١ – ١٩٤٢)، وقضى الشطر الكبير من حياته في دير الصابغ نائبا لرئيس الدير ومساعدا لمعلم الابتداء ومرشدا روحيا للنفوس، حيث كان يقضي أكثر أوقاته في كرسي الاعتراف ، ثم عيّن رئيسا في دير كفرشيها مدة تسع سنوات (١٩٤٦-١٩٥٥)، وفي القسم
الأخير من حياته ، كان مرشدا في دير السيدة في بقعتوتة ، أي منذ ٢٦ تشرين الأول ١٩٦١ ، وحتى وفاته لبّى نداء ربه، في الثامن من شهر آب ١٩٦٢، على إثر انفجار دماغي لم يمهله إلا خمسة أيام ، وكانت الوفاة في مستشفى تلشيحا بزحلة، وأقيم له مأتم مهيب ، في اليوم التالي ، في كنيسة دير الطوق قبل دخوله إلى الدير ، عرف عنه بأنه الشاب المهذب اللطيف ، النشيط في شغله والأمين في معاملاته ، المحتشم في متجره، والمنخفض العينين في طريقه ، والمطأطئ الرأس إلى اليمين والتقي الورع في الكنيسة . وهو لم يغب أبدا عن حضور أي احتفال ديني، وكان عضوا في عدة أخويات ، وربما فيها كلها. وقد اشتهر بطاعته وفقره ومحافظته على القوانين، وبحياة قانونية رهبانية ملآی بالتضحيات والتقوى والفضائل والقداسة.
4 – أغسطينوس فرح (۱۹۸۳+۱۹۱۰)
هو نقولا بن يوسف داود فرح، والدته سلمى، من مواليد قارة في ٤ أيار سنة ١٩١٠، دخل الرهبانية في ٢ تشرين الثاني سنة ١٩٢٢، ولبس ثوب الابتداء في ٢١ نيسان سنة ١٩٢٣ ودعي أغسطينوس . أبرز نذوره الاحتفالية في ١٤ أيلول سنة ١٩٢٧ .
رقاه الأب العام إستفانوس سماحة إلى درجة الشمّاس المعاون في ١٦ أيار ١٩٣٧، والمطران ديونيسيوس كفوري، النائب البطريركي في مصر، إلى درجة الشمّاس الإنجيلي في ٢٢ آب من السنة ذاتها، ورقاه المطران
مكسيموس الصائغ ، متوبوليت بيروت، إلى درجة الكهنوت في ٨ أيلول السنة ذاتها، وقد نال تلك الدرجات المقدسة في كنيسة دير الصابغ في الخنشارة.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الصابغ ، وأنهى دروسه الثانوية سنة ١٩٣٢ ، والفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف ، للآباء اليسوعيين، في بيروت ، مدة سبع سنوات ، وقد نال ، في ٢٥ شباط ١٩٤٢ ، شهادة الدكتوراه في اللاهوت عن إطروحته :
«الروح القدس حسب تعليم القديس باسيليوس»
عُيّن مديرا للطلاب في مدرسة الصابغ (١٩٣٩-١٩٤٠) ثم رئيسا للمدرسة (١٩٤٠-١٩٤٦)، شغل مهمة معلم الفلسفة في الكلية الشرقية وفيما فيها (١٩٤٦)، ورئيسا بالوكالة لدير مار الياس الطوق في أثناء تغيب رئيسه الأب ديمتري حاطوم في أميركا، وتسلم رئاسة الدير المذكور (١٩٤٩-١٩٤٧)
انتخب رئيسا عاما في ١٥ كانون الأول ١٩٤٨، فرقاه البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ إلى رتبة «الأرشمندريت» الكبير للكرسي الأنطاكي ، وأعيد انتخابه رئيسًا عاما في ٢٠ أيلول ١٩٥٦ ، سافر إلى أميركا الشمالية والجنوبية في ١٤ تشرين الأول ١٩٥٩ للقيام بالزيارة القانونية لأبناء الرهبانية في المهجر ، وعاد في تموز ١٩٦٠ .
خلال فترة رئاسته العامة حصلت تحولات هامة في الرهبانية :
– فقد انتقلت ، بعد الاستفتاء العام الذي جرى سنة ١٩٥٤، من رهبانية
توحدية إلى منظمة رهبانية .
– تثبيت الفرائض الجديدة ، بنصها الفرنسي ، سنة ١٩٥٧ .
– حصلت الراهبات الباسيليات الشويريات على الاستقلالية الذاتية، عن سلطة الرئيس العام .
– شهدت الرهبانية ازدهارا كبيرا وازداد عدد الدعوات فيها، وتم تأسيس مراكز وإرساليات جديدة في كوردوبا – الأرجنتين، وإربد في الأردن، ومرجعيون وطرابلس في لبنان، وقد اشترى بعض العقارات في تلك الأماكن.
– الاحتفال بيوبيل الشرقية الذهبي في زحلة ، وتجديد الكلية ، وإضافة جناح جديد ، وتشييد ملعب رياضي فيها .
– وضع الحجر الأساس لكنيسة السيدة الكبرى في مدرسة دير الصابغ سنة ١٩٥٢ ، والانتهاء من بنائها .
انتُخب مطرانا على طرابلس في ٧ آذار ١٩٦١، ونال السيامة الأسقفية في ١٨ حزيران، في كاتدرائية مار الياس – بيروت ، بوضع يد البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ والمطرانين فيليبس نبعة (بيروت) وأثناسيوس الشاعر (مرجعيون)
حقق في أبرشية طرابلس إنجازات عمرانية عديدة، منها : الاهتمام بكاتدرائية القديس جاورجيوس، فسوى أرضها بالرخام الأبيض، وحسّن إنارتها، وأقام الإيقونستاز الرخامي وزينه بالإيقونات، وهي من وضع الأخت ميلاني حسواني، الراهبة الباسيلية الشويرية، وفي دار المطرانية جدّد المكتبة فأغناها بالمؤلفات اللاهوتية والفلسفية والطقسية. وبنى مدرسة في منيارة قامت بإدارتها الراهبات الشويريات، وأعاد فتح مدرسة الشيخ محمد بعد أن حسّنها، وعهد بها إلى الراهبات الشويريات أيضا، وبنى مستوصفاً في تلك البلدة؛ ورقم كنيسة عدبل وبنى فيها بيتا للكاهن؛ كما شيّد كنيسة في شدرا على اسم الصليب؛ وأصلح بناء كنيسة عيدمون؛ إضافة إلى ذلك قد قام بشراء ثلاثة عقارات : قطعة أرض في بولفار طرابلس، على المدخل الجنوبي للمدينة، مساحتها حوالي ستة آلاف متر مربع؛ قطعة أرض في منيارة مساحتها أربعة آلاف واربعاية متر مربع؛ قطعة أرض في دوما مساحتها خمسماية متر مربع ، بغية بناء دار صيفية للمطرانية. ونقل إلى كرسي زحلة في ٢٥ آب سنة ١٩٧٧.
شارك في أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) وعينه البابا بولس السادس في إحدى اللجان المجمعية ، انتخبه سينودس الكنيسة الملكية رئيسا للجنة السينودسية اللاهوتية ، وعيّن ، من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ، مشرفا على كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس في الكسليك. وفي زحلة أنشأ مجلسا لأساقفة المدينة، بدعم من المطران الأرثوذكسي سبيريدون خوري ، والمطران الماروني جورج إسكندر.
رقد ، برائحة القداسة، على إثر مرض عضال، يوم خميس الأسرار، في ٣١ آذار ١٩٨٣ ، ودفن تحت المائدة الكبرى في كاتدرائية سيدة النجاة بزحلة ، بعد أن أقيم له مأتم مهيب وحاشد ، لم تشهد له المدينة مثيلا من قبل.
إضافة إلى تقواه وغيرته وتجرده ، غرف المطران فرح بحضوره المحبب وقربه من الناس، کا بعلمه الغزير وفن الخطابة اللذين اشتهر بها.
وكان له دور هام خلال الأحداث التي عصفت بزحلة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وارتبط اسمه بصمودها، واعتبر كبير شهدائها.
5 – جبرائيل ابي شديد (۱۸۹۰+١٩٥٥)
هو الياس بن خطار أبي شديد، ماروني، من مواليد بسوس سنة ١٨٩٠ . لبس ثوب الابتداء بتاريخ الأول من تشرين الأول سنة 1905 وأبرز نذوره المؤبدة في ٢٨ أيار سنة 1908 رسم شتاشا إنجيليا، في دير الصابغ ، بتاريخ 3 تموز سنة ١٩١٢ ، بوضع يد المطران فلابيانوس كفوري ، متروبوليت حمص ، ثم كاهنًا في ٢٠ تموز سنة ١٩١٦ قضى السنوات الأولى من حيث مارس التعليم والترتيل وإرشاد الأخويات. خدمته الكهنوتية في يبرود، وفي مدينة زحلة.
وقضى القسم الأكبر من حياته في خدمة النفوس في أبرشية بيروت . فقد عيّن لخدمة الرعية في زوق مكايل سنة ١٩٢٢، ثم قضى نحوا من عشرة أعوام خادما لرعية الخنشارة (١٩٢٢-١٩٢٦، ١٩٢٩ – ١٩٣٥) ، وكاهنا، لرعية السيدة في بتغرين (۱۹۲۷-۱۹۲۸)، وبعدها في الشوير سنة ١٩٢٩، وتم تعيينه كاهنا لرعية سيدة المعونات في بولونيا (١٩٣٥-١٩٣٦)، ثمّ انتقل إلى خدمة رعية المخلص في بيروت وبقي فيها حوالي ثماني عشرة سنة حتى سنة 1955 تاريخ وفاته في 7 آذار ، على إثر نشاف في عروق القلب، وشلل قاسى منه شهورا عديدة ، ودفن في دير القديس باسيليوس الكبير في خلال شهر آب ۱۹۲۲ تبرع بعشرين ليرة سورية لطرش وتزيين كنيسة القديس نيقولاوس وبيت المائدة في دير الصابغ.
وفي العام ١٩٣٤ قدم كراسي الخورض لكنيسة القديس نيقولاوس. كان رجلا بارا صالحا قديسًا ، اشتهر بصلاحه ومحبته للصلاة” . کا اشتهر بطيبة قلبه ومحبته للسلام، وبصوته الرخيم وعلمه الواسع في الموسيقى الكنسية، وله فيها مؤلفات لا يزال أغلبها مخطوطا ومحفوظا ، مع مكتبته الموسيقية الهامة ، في المكتبة العامة بدير الصابغ .
6 – يوسف إيليان (۱۸۳۹+١٩١٤)
هو الياس بن يوسف توما إيليان ، من مواليد زحلة العام ١٨٣٩ ، لبس ثوب الابتداء في ٢٠ كانون الأول سنة ١٨٧٩ ، ودعي ثاوفانوس. أبرز نذوره في ۲۳ نیسان سنة ١٨٨١، ودعي الياس، ارتسم شتاسًا ، في دير الصابغ ، عن يد كير ملاتيوس فكاك ، في ٢٢ آب سنة ١٨٨٢ ، ثم قشا، عن يد السيد المذكور ، في دير مار سمعان ، في أول أيلول سنة ١٨٨٢ ، وسُمّي يوسف.
توفي، في دير زحلة، بمرض ضيق الصدر، وذلك في ١٥ حزيران سنة ١٩١٤ ، وكان مشهورا بتقواه وصلاحه وغيرته وتجرّده.
لقد توارث الرهبان تقليدا شفويا يخبر عن قداسة سيرة هذا الطيب الذكر ،وكثيرا ما كان الآباء الشيوخ يتحدثون عن فضائله ، كمضرب مثل ، ولما كان الأب بطرس الكفوري ، أحد تلاميذ الأب يوسف ، قد دون حياته ، كشاهد عيان ، في كتابه : «الغرر الدرية في تاريخ الأسرة الكفورية» ، في الصفحات ١٢١-١٢٦ ، رأينا أن ننقلها ، حرفيا ، من أجل التبرك والمنفعة الروحية.
أولا – إن هذا الأب البار الخوري يوسف إيليان مع شقيقه الخوري بولص إيليان هما من أفاضل الكهنة وأجلهم فضيلة وغيرة رسولية. فالخوري بولص كان من الإكليروس الأسقفي الزحلاوي مشهودا له بالوعظ والإرشاد . والغيرة على خلاص الأنفس ومن مشاهير الكهنة. لأنه كان يقضي الليالي بزيارة المرضى واستماع اعترافاتهم ومناولتهم القربان المقدس أيام البرد والثلج والحر على السواء.
ثانيا – أما الخوري يوسف فكان من أفضل الرهبان . اعتنق الدعوة الرهبانية في دير مار يوحنا سنة 1875. وقضى حياته بالصلاح حتى إنه قبل أن يدخل الرهبانية . كان عند الآباء اليسوعيين مستلها أشغالهم الخارجية في زحلة. ومنذ صغره كان متصفا بصفات الزهد والتجرد التام. وعندما كان في بيت أهله. كان له غرفة خصوصية فلا يدخلها أحد . واضعا فيها الكتب الروحية بأنواعها. كالكتاب المقدس. وأخبار القديسين واستعداد الموت .وكتاب الإقتداء بالمسيح. وكتاب زيارة القربان. وكتاب قوت
النفس. وغيرها من الكتب الروحية. وفي عام ١٨٧٥ في عهد رئاسة الأب العام الخوري فلابيانوس دخل الرهبانية ولبس الثوب الرهباني وبما أنه كان متقدما بالعمر ومشهودا له بالفضيلة والصفات الحميدة ابتدأ سنة واحدة ودرس العلوم اللاهوتية اللازمة وسيم شتاسًا إنجيليا، ثم قسّا. وتعين مرشدا ومعرفا لتلاميذ المدرسة الرهبانية . ثم تعين وكيلا على أملاك دير مار يوحنا . وفي تلك السنة وزع على الشركاء صورة قلبَيّ يسوع ومريم. لأجل التبرك بالعبادة التقوية. وبحسن نواياه الصالحة. قد أقبل موسم (الشرانق) (الفيالج) وزاد ألف وخمسماية إقة عن الموسم الذي قبله . حتى تعجب الرهبان والشركاء من ذلك الإقبال العظيم . ومنذ ذلك الوقت قد ازداد شيوعا خبر فضيلته . ولما انتقلت المدرسة من دير الصابغ إلى القرقفي . . . ذهب هو أيضا مع باقي التلاميذ . وفيما بعد لأجل حفظ ميزانية دير مار الياس الطوق بزحلة. بالرغم من إرادته تعين بأمر الطاعة وكيلًا على أملاك الدير المذكور ، وقضى كل أيام حياته فيه وهو بالقرب من أهله. ويوميا كان يذهب لإقامة القداس في دير الآباء اليسوعيين ولم يدخل بيت أحد. لا من أهله ولا من أقربائه . ولا خلافهم على الإطلاق . وقضى حياته البارّة في عمل الفضيلة الخالية من كل رياء . وكل يوم أربعاء وجمعة لا يأكل حلوا. ولا فاكهة أبدا. وفي أكثر الأيام . كان يصوم إلى نصف النهار . ومنامته على طراحة يقعد عليها في النهار وينام عليها في الليل بالجهد في الايام الباردة جدا يتغطى باللحاف . أما ملبوسه فكان صاية من الخام المصبوغ. لا يستعمل فرشة خصوصية للنوم . غطاءه عباءته . أو شرشف قديم . والبياض من الخام أيضا . وعنده بدل واحد لا غير . وعندما يمرض لا يستعمل العقاقير الطبية إلا وقت الضرورة القصوى . وأغلب أوقاته يقضيها إما بزيارة القربان المقدس أو التأملات العقلية أو الصلوات اللفظية ، وساعات عديدة يبقى راكعا ومخطوفا بالروح إلى العالم الأعلى وأمامه الصليب المقدس.
ثالثا – مرة لما زار الرئيس العام الخوري يوسف الكفوري دير زحلة فالشيخ الجليل الطيب الذكر المرحوم أنطون البريدي المشهور بالفضل والمعروف ، أقام وليمة لحضرة الأب العام المذكور ولباقي الآباء وترجاه بأن يأخذ بمعيته الخوري يوسف إيليان . وعند وقت الذهاب قال له الرئيس العام، فاعتذر ولم يذهب ولما وصل الأب إلى بيت العازم الشيخ المذكور ولم يكن المترجم معه ترجي الأب العام أن يأمره بالطاعة لكي يحضر. فمراعاةً لخاطره أرسل له الأمر فحضر حالًا ولكن بعد أن دخل إلى تلك الدار العامرة استقبلوه بكل احترام واعتبار وبفرح وابتهاج عظيمين . وقد شمل السرور جميع أهل البيت كبارا وصغارا وتقدموا للتبرك من يديه . وأما هو فإنه بعد أن وصل واستراح قليلا تشكر من ذلك الشيخ والذات الكريمة ودعى له بالتوفيق وحفظ عائلته . ثم قال للرئيس العام . ها إنني تممت أمر الطاعة وحضرت فأرجوك الآن أن تسمح لي بالذهاب إلى الدير .
فأجابه الأب العام : اذهب بسلام والرب الإله يكون معك . فالحاضرون جميعا بصوت واحد هتفوا: تبارك الله الذي يعطي مثل هذه المواهب السامية للانتصار على الأميال البشرية . وقد يطول بنا الشرح إذا أردنا أن ندوّن كل أعماله ومحامده وصفاته الحسنة التي كان متصفا بها ولكننا نروي بعضا منها على سبيل الفائدة:
1 – كان مرة مناظرا على الفعلة في مزرعة القطين خاصة الدير حيث كانوا يقطعون الحجارة لبناء النزل الكبير (أوتيل قادري) فمر صدقة من فوق المقلع قطيع من الماعز وتدحرج عليه حجر فكسر يده . فقام ورجع إلى الدير واستدعى الطبيب المجبّر لعلاجها فأخرج له بعض عظام مكسّرة دون أن يظهر عليه أو يبدو منه أقل تذمر أو انزعاج .
فإذ ذاك قصد الأب الرئيس أن يقيم دعوى على راعي الماعز . فقال له المترجم لا يا أبانا أشكر الله الذي ما أصاب الحجر أحد أولئك الفعلة الفقراء الذي كان تعطل عن العمل ولكني أنا لا أعمل شيئا والله سمح بذلك كي يمتحن صبري .
٢ – في آخر حياته بقي أشد حنانًا على الفقراء . أكثر مما كان عليه قبلًا . وعيّن يوما خصوصيا ما عدا الأيام الأخرى كي يوزع الحسنات بسخاء على الفقراء . وما كان يرد أحدا دون نوال مرغوبه . فالبعض من الرهبان قد ثقل عليهم هذا العمل فعملوا مؤتمرا واتفقوا أن يمنعوه عن عمله هذا رغم أنهم كانوا كلهم يجلونه ويحترمونه (لكن روح السوء لا يحب عمل الخير) وحضر الواحد منهم بعد الآخر إلى غرفة المترجم . حيث كان حاضرا كاتب هذا الخبر صدفة . وعندما اكتمل عدد المؤتمرين طلب أحدهم الذي كان متقدما فيها بينهم أن ينظر في دفتر الدير. لأجل أن يطلع على بعض قيود فيه وبعد المطالعة حضر الباقون . فسأله أحدهم قائلا: نحن نشاهد أكثر الفقراء آتين من جهات متعددة والبعض ذاهبون وغيرهم آتون ونحن علينا ديون يجب أن نوفيها . فأجابه المترجم بكل رباطة جأش وكلام عذب : نعم إنني أعلم ذلك وهذا الأمر غير خاف علي ولكن من الذي قال لكم أنني أعطي الفقراء من مال الدير .
وأشار بيده إلى أحد المتقدمين الموجودين قائلا له : أما أنت الذي الحسابات والقيود كلها بيدك؟ فأجابه نعم . فسأله إذ ذاك أحدهم من أين إذا تعطي الفقراء ونحن فقراء . حينئذ جلس وأجابهم بكلام لطيف رقيق للغاية : أنا كل أيام حياتي وكل قداساتي مقيدة أمامكم وما صرفت منها بارة واحدة ولكن بما أنه قد طلب مني بعض المحسنين أن أوزع هذه الحسنات على الفقراء حسب نيتهم فلا يمكن أن أغير قصدهم . حينئذ ذهب كل واحد إلى موضعه بسلام .
وأخيرا في آخر حياته المملوءة بالإماتات والتقشفات وأعمال البر والصلاح وقد أنهكه الهرم ولم يعد بإمكانه أن ينزل إلى كنيسة الدير لإقامة الذبيحة الإلهية فاستأذن من الرئيس العام عمل (كابلة) بالقرب من غرفته حيث يوجد فيها نافذة تشرف على كنيسة الدير المصمود فيها القربان المقدس وزيّن ذلك المعبد الصغير أجمل زينة وكرسه على اسم قلب يسوع الأقدس .
وكان يقضي أكثر أوقاته راكعا هناك . ومتأملا في قلب يسوع المصور أمامه الملتهب حبا بالبشر . ويبقى مخطوفا بالروح ساعات عديدة . وكاتب هذه الحوادث كان واقفا ومشاهدا لها بذاته . وقبل وفاة المترجم بأربع سنوات كان مساعدا له على إتمام الذبيحة الإلهية يوميا في المعبد المذكور . وأخيرا في ٢٤ حزيران سنة ١٩١٤ (۱) قد انتقل من هذه الأرض الفانية إلى الديار الباقية . إلى الأخدار السماوية ليأخذ إكليل المجد المعد للأبرار والمجاهدين وله من العمر ٧٨ سنة . وأكثر آباء الرهبانية واقفون على كل أعماله وكان من الواجب أن يحافظوا على جثمانه مثل كنز ثمين ويبذلوا جهدهم في إثبات برارته . ولو كان بإمكاني لحفظت رفاته في صندوق خصوصي ولكن اليد قصيرة . والسبب الذي من أجله أردت تسطير حياة هذا الأب البار في هذا التاريخ هو أنه كان من أصدق وأخلص المحبين إلى جميع أفراد أسرة بني الكفوري وإلي بنوع خاص لأنه كان الواسطة لانتظامي في سلك الرهبانية وكان لي أبا روحيًا وله على أفضال كثيرة رحمه الله وجعل الجنة مثواه ومنحنا بركته الأبوية ].
7 – رومانس لوقا (١٨٠٤+١٧٧٤)
هو يني بن حنا لوقا ، كلداني ، من مواليد بغداد سنة ١٨٠٤ ، لبس ثوب الابتداء في ١٨ كانون الأول سنة ١٨٣٠ . أبرز نذوره سنة ١٨٣٢ ، تكرس شمّاسا في ٢٥ كانون الأول ١٨٣٦، ثم قسًّا. على أثر ذلك ، أرسلته السلطة إلى بغداد، على طلب من والديه ، لكي يبحث عن أخ له فقد ذات يوم، وانقطعت أخباره. في 17 أيلول 1838 ، قلده البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم الولاية على الروم الملكيين في تلك البلاد، وبينما هو يخدم الرعية بكل غيرة، ويواصل البحث، من حين إلى آخر، عن أخيه المفقود، إذا به ذات يوم يستلم كتابا من صديق في كلكوتا ، يخبره فيه أن أخاه حي يرزق في المدينة المذكورة، وهو يتاجر ويعيش بخير. بشر والديه بالخبر السعيد. ثم استأذن الرؤساء وسافر إلى الهند، في أواخر سنة ١٨٤٨، برفقة ولدين لقنصل فرنسا ، متوجهين إلى كلكوتا ، فقضى معها ثلاثة أشهر سفر ، ذاق في خلالها الأمرّين. وصل، أخيرا، إلى المدينة المذكورة، حيث نزل ضيفا على السيد فتح الله الأصفر الحلبي ، أحد أفراد الجالية المتاجرة فيها ، وكان شديد التعلق بطقسه وطائفته، فأسكن الأب لوقا معه في قصره، وشيّد له فيه معبدا خاصا ، متكفلًا بالقيام بجميع أكلاف معيشته، وقد بقي الأب نزيل السيد الأصفر إلى حين وفاته سنة ١٨٥٢ . في هذه الأثناء، عرف أسقف اللاتين فضيلة وغيرة هذا الراهب النادرتين، فكلفه مساعدة المرسلين بخدمة النفوس مهتها، خصوصا، بالجالية الحلبية، فقام بالمهمة على أكمل وجه ، وقد أفادها كثيرا بغيرته ومثله الصالح .
ومما هو جدير بالذكر أنه لما كان القس رومانس في كلكوتا، طلب إليه مطران المدينة أن يذهب إلى إحدى المستشفيات ، حيث يوجد مريض مدنف من أبناء العرب ، ليسمع اعترافه ويعطيه الزاد الأخير المقدس ، فما كان منه إلّا أن لبّى الطلب ، وذهب حالا إلى حيث المدنف، ولما دنا منه سأله اسمه وكنيته ومسقط رأسه وإذا هو أخوه، ولكنه لم يبد أدنى حركة إلى أن سمع اعترافه وزوده بالقربان المقدس وأعطاه المسحة الأخيرة، ثم تقدّم وعرّفه بذاته، وتعانقا معانقة اللقاء ومعانقة الوداع ، وهكذا لفظ المدنف نفسه الأخير بين يدي أخيه بعد مرور عشرات السنين على فراقها.
إن مطران اللاتين احتفظ بهذا الأب الصالح، بموافقة رؤسائه، الذين تركوه يتابع عمله الرسولي الخير في الهند ، مدة طويلة جمع خلالها استحقاقات جمة وإحسانات كثيرة، عدد بعضها سجل الرهبانية، منها إرساله لها ستة صناديق نيل سنة ١٨٤٢ ، حينها بلغه ما أصاب دير القرقفي من الأضرار ، إبان ثورة سنة ١٨٤١ ، وهذا النيل ، عند وصوله إلى بيروت ، وضع ثمنه في بناء الكاتدرائية ، بطلب من المطران أغابيوس الرياشي، ومنها قيمة ألف ليرة إنكليزية أنفق منها ، على إنشاء عقارات للرهبانية في مصر ، قيمة ٣٥ ألف غرش ، ومنها بدلات هندية وأواني قداس ومباخر وسطل ومرشة، وبعض فضيات ، وزع منها على ديري كفرشيها وزحلة ، والباقي لدير الصابغ.
وبعد رجوعه إلى لبنان، بعد غيابه الطويل، عينته السلطة رئيسا كفرشيما (١٨٦٢ – ۱۸۷۱) ، فكان مثال الرئيس المتواضع الخدوم المتزهد. وكان الرؤساء قد سمحوا له أن يحتفظ بصليب ذهبي حاو على ذخيرة مقدسة، فدفعته محبته للفقراء وتجرده الرهباني إلى أن يبيع ذلك الصليب، جاعلًا الذخيرة في صليب بسيط ، ويطعم بثمنه الفقراء .
أما وفاته فكانت في دير القرقفي ، في ٢٩ كانون الثاني سنة ١٨٧٤.
كان ذا سيرة حسنة كهنوتية موسومة بسمة القداسة، وحياة رهبانية فاضلة ، حتى إن كل من عرفه كان ينظر إليه نظره إلى أحد القديسين ، وقيل إن نورا عجيبا انبعث من قبره، وماء عجيبا تقطر منه مدة عدة أيام بعد وفاته، وتأكد، أيضا، بعد أن فتح الكومنتير ، مرارا ، أن جسده غير بال ، فأصبح ذلك القبر مزارا يقصده كل ذي مرض وعلة.
8 – الرئيس العام فلابيانوس (الأول) كفوري (١٨٨٦+۱۸۰۲)
أولا – إن هذا النابغة هو الذي يرجع إليه الفضل العظيم . وكان من الواجب أن تُدون أعمال حياته قبل كل أحد . وأن تكتب بماء الذهب . حتى عند ذكر اسمه نحني له الرأس احتراما ونردد ذكره الميمون بالفخر والمجد . كيف لا وهو ذلك الفرد الذي لم يسبق له مثيل بلطفه وحلمه وجوده وكالاته السامية وحسن إدارته الرائقة المقرونة بالحكمة والفطنة والهدوء والسكينة، ومهما به من الآلاء الجلى والأوصاف الحميدة المطبوعة فيه شرحت عمّا اتّصف من الفطرة الطبيعية . لا يكون جزءا مما كان هو عليه وفيه . والذين بعدهم أحياء ويعرفونه شخصيا يؤكدون هذا المقال . وأما الذين لا يعرفونه فعند مشاهدتهم مثاله ومن الاطلاع على سيرة حياته يقفون على شيء مما اتّصف به . واعلم أيها القارئ اللبيب أنك إذا نظرت إلى صورته ومثاله لا تتصور إلّا ملاكا أرضيًا وإنسانا ساويا ماثلا أمامك . لأنه كان كلي الاحتشام في جميع أعاله. له قوام كقضيب الخيزران ووجه طافح بالنور . البشر ظاهر منه . مطرق النظر إلى الأرض بلطف فائق الرقة. رصين جدا في مشيه. مهاب الطلعة، صبوح الوجه ، ومتبسم بلطف طبيعي. طويل الأناة ، أنيس الحديث. ورائق جدا في أطباعه. وديع ومتواضع القلب قد سحر الرهبان وكبار الرؤساء الروحيين والشعب أجمع بأعماله وأفعاله ومبرّاته التي لا يحصيها عدد. وهذه المحامد التي أهلته أن يتربع في منصّة الرئاسة العامة على الرهبانية وإدارة شؤونها، وفي مختلف الوظائف، فوق النصف قرن. وفي مدة رئاسته كلها. وأيام حياته بأجمعها. كان مثلًا للكمال
الرهباني مدققا صارما في حفظ القوانين . وكان الرهبان يتمّمون أوامره بكل طيبة خاطر وعن حبّ بنوي طبقا لإرادته تعالى . وهو كان يحبّهم محبة أبوية خالصة وما أحد من الفقراء والعيال المستورة قصده إلّا ونال مرغوبه وهو الذي أسس روح التقوى في نفوس رهبانه واتصلت إلى أفراد أسرته لاتباع أثر خطواته في مدارج الكمال الرهباني، ولذا وجب أن يقال فيه ما قاله أحد الشعراء :
بكت شجوها فهيج لي البكاء
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقد بخل الزمان أن يأتي بمثله
إن الـزمـان بمثله لبخيل.
ولذا نرى أكثر الذين عرفوا ما اتصف به من الفضائل وما تركه من حسن السمعة. رغبوا أن يتسمَّوا باسمه تيمّنًا بذكره. وكل الذين عرفوا المترجم شخصيا عند ذكر اسمه أمامهم تتحرك فيهم عواطف الاحترام وحب الفضيلة.
ثانيا – أما نسبه الطيب فهو:
يوسف بن منصور بن حنا بن يوسف بن نصر الله بن جرجس بن إبراهيم بن ميخايل الكفوري . ولد في حارة مار يوحنا في افتتاح سنة ۱۸۰۲ على حياة عم أبيه القس مرقص (الأول) الكفوري الذي هو أول راهب كفوري دخل الرهبانية من أبناء الأسرة الكفورية . فيكون المترجم هو الثاني من الذين دخلوا الرهبانية . فبعد أن تربى تربية صالحة والديه منصور وكتوره، التي هي ابنة نجم المعلوف”، الموصوفة بالكمال والجمال الأدبي والطبيعي نظير زوجها منصور الذي كان آية في الجمال والاقتدار . . . وبعد أن ترعرع وبلغ من العمر ثمانية عشر سنة . وكان من صغره ذا صوت شجي رخيم فتعلم على أيادي الرهبان الألحان الكنسية والأنغام اليونانية . فإذ ذاك تاقت نفسه إلى اعتناق الدعوة المقدسة ولمّا عرف الرئيس العام والرهبان مراده . قبلوه بكل ترحاب . فكأنّ ملاكا سماويًّا دخل الدير . وفي ٢٥ آب سنة ١٨٢٠ لبس الثوب الرهباني الابتدائي في دير مار يوحنا من رئيس الدير القس برثلماوس ، ودعي باسم مرقص (الثاني) . في أيام رئاسة الأب العام الخوري ميخايل التركماني . ثم أخذ في الدرس والتحصيل على الآباء الرهبان الأفاضل الذين كانوا يتسابقون على تعليمه، وخاصة لما شاهدوه مجتهدا. وراغبا. ومتصفا بالوداعة والاتضاع ، ولاسيما لأجل رخامة صوته. وكان ميالا كثيرا إلى الموسيقى الكنسية والألحان الطقسية والأوزان المرتبة على الموسيقى اليونانية ، فأتقن هذا الفن حتى أصبح أستاذا ماهرا، وفي كل أيام حياته كان يعلمها للرهبان الأحداث .
بعد أن أكمل الزمان الابتدائي نذر النذور الاحتفالية في ٢٣ نيسان سنة ١٨٢٢ ودعي باسم فلابيانوس، وبقي مثابرا على الدرس والمطالعة وعلم اللاهوت وباقي العلوم الأخرى . وفي ٢٣ نيسان ١٨٢٤ ذهب بأمر الرئيس العام إلى زحلة فارتسم شمّاسًا إنجيليا ، عن يد أسقفها سيادة المطران إغناطيوس عجوري . وفي ٢٦ كانون الأول سنة ١٨٢٦ سُيّم قًّا عن يد السيد البطريرك إغناطيوس (الخامس) قطان . وبعد رسامته أرسله إلى بيروت لاستلام مدرستها الأسقفية، فقام بهذه الوظيفة سنة كاملة كان بخلالها موضوع اعتبار جميع الشعب البيروتي . وفي عام ١٨٢٧ أقامه المغبوط نائبا بطريركيا على الأبرشية المذكورة التي لم تزل مترملة من أسقفها المطران أثناسيوس دهان ق .ب . وكان القصد أن يدرجه إلى الأسقفية فلما علم المترجم بهذا القصد اعتذر إليه ولفت نظره إلى الخوري يعقوب الرياشي وهكذا بعد مدة استدعى غبطته الخوري يعقوب الرياشي المذكور وسقّفه على أبرشية بيروت وذلك عام ١٨٢٨ . وبقي المترجم في بيروت مسموع الكلمة وحائزا على ثقة عموم الطائفة ومحبوبا من جميع الشعب.
إلى سنة ١٨٣٥ التي فيها اجتمع الرهبان في دير الصابغ ، فوقع اختيارهم لرئاسة الرهبان العامة على الخوري فلابيانوس المترجم . ومن حيث أن آباء المجمع كانوا عارفين بها هو منطبع عليه وترفعه عن الوظائف . استعانوا عليه بالمطران المذكور الذي حكم عليه أن يقبل الوظيفة لأن الله يدعوه إليها . فتظاهر أولا بالقبول وذهب سرا من بيروت إلى دير مار سمعان العامودي بدلا من ذهابه إلى دير مار يوحنا الصابغ ، وأخيرا لما رأى أن الرهبان مصمّمين النية على انتخابه فقبل الوظيفة. وهذه كانت أول رئاسته وذلك في ١٢ تشرين الأول سنة ١٨٣٥ ولما استلم زمام الرئاسة ابتدأ أولا بإصلاح النظام الرهباني غير سامح لأحد بأدنى تقصير يقع في حفظ القانون من أي كان كبيرا أم صغيرا حتى أذهل الجميع في تدابيره الحازمة المقرونة بالوداعة والصرامة معًا.
رابعا – وبهذه الأثناء طلبت الطائفة الموجودة في القطر المصري من غبطة البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم السعيد الذكر في معروض ممضي من أرخندوس الملة المصرية. في طلب المترجم أن يكون مطرانا عليهم وأن انتخابهم وقع عليه باجتماع الكلمة، فالمغبوط عقد مجمعا في عين تراز وخابر المطارنة بهذا الأمر وقرر أن الانتخاب هو غير قانوني لأنه من دون علمه، والقطر المصري خاضع له رأسًا . فبعد المخابرة مع المطارنة قرر المجمع أن أن يرسمه مطرانا . ويكون نائبا بطريركيًا ويبقى تحت رئاسة المغبوط .
وفي ٦ كانون الأول سنة ١٨٣٥ وصل المترجم إلى عين تراز وأبلغه غبطة البطريرك قرار السينودس برسامته أسقفا ونائبا بطريركيا على القطر المصري فاعتذر إلى المغبوط والمجمع فأجابه البطريرك أنه غير ممكن إلا إرضاء الشعب المصري برسامته مطرانا لهم لأنهم يطلبونه رسميا . فالمترجم تعهّد إلى المغبوط والمجمع في أن يرسم لهم نسيبه الخوري يوسف الموجود إذ ذاك في مصر الذي دعي باسيليوس . . . وتعهد لهم في إقناع أرخندوس الطائفة بذلك. وهكذا صار فأرسل إلى الشعب المصري وأرخندوس الطائفة مكاتيب أقنعهم بما تقدّم وأن هذه هي إرادة الله وإرادة البطريرك وكلما رسمه لهم قد تمّموه بكل تدقيق.
خامسا – سنة ١٨٣٨ تجددت له الرئاسة العامة رغم استعفائه ، وبقي إلى غاية ٣١ آذار سنة ١٨٤٢ حيث عقد المجمع العام، فاستعفى من كل الوظائف، ولكنه قبل فقط أن يبقى يعلم أحداث الرهبان التراتيل الكنسية والموسيقى اليونانية.
وفي عام ١٨٤٥ انتخب مدبرا أولا ، وبقي معلّها كما كان. في عام ١٨٤٨ ذهب للتبرك بزيارة الأراضي المقدسة وشاهد فيها المجمع الأورشليمي المنعقد تحت رئاسة البطريرك مكسيموس مظلوم .
وبعد نهاية المجمع عاد إلى بيروت. وكان عالما بما كانت عليه الرهبانية من ضيق المعيشة والعسر المالي . فقصد السفر إلى أميركا لجمع الإحسانات الضرورية لقيام الإصلاحات التي كان يرغب إدخالها في الرهبانية لأجل نجاحها الأدبي والمعنوي وخصوصا لتأسيس مدرسة عالية للرهبانية كي يتخرج فيها أبناؤها على العلوم اللازمة لأجل سياسة وتعليم الشعب .
وقد استحصل على إذن من صاحب الغبطة والرؤساء القانونيين . وسافر في ٨ أيلول سنة ١٨٤٩ إلى أميركا، وهو أول كاهن شرقي كاثوليكي دخل إلى الولايات المتحدة، وبقي فيها سنتان فقط . وكان برفقته ترجمانا ناصيف شدودي ، فنجح بعض النجاح لأن قسما كبيرا قد اختلس منه ولم يرد أن يرافع الغريم ، وفي رجوعه من أميركا عرج على روما العظمى . وحظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس التاسع الذي باركه وأنعم عليه وعلى ذويه ورهبانيته بالبركة الرسولية . وزار ضريحي القديسين بطرس وبولس وباقي المقامات الرسمية في البلاط البابوي ، وحصل على اعتبار عظيم جدا لدى أرباب الفاتيكان. ولما وصل إلى ميناء الإسكندرية زار القطر المصري لمشاهدة نسيبه المطران باسيليوس الكفوري وأصدقائه المصريين الذين كانوا يجلّونه جدا .
ولما وصل إلى لبنان عام 1851 وجد أن المغبوط مراده أن يرسمه مطرانا على أبرشية بعلبك فاعتذر لديه وذهب إلى دير الصابغ. وحينئذ باشر في بناء الرواق القبلي الذي بقي مدة يدعى الرواق الجديد (رواق الرئيس العام).
سادسا – في المشاريع والإنشاءات التي أجراها في الرهبانية بعد ما أنهى بناء الرواق المذكور أعلاه في دير مار يوحنا الصابغ ، شرع في بناء الرواق الغربي المحاذي كنيسة دير مار أنطونيوس القرقفي ، وأصلح أملاك الأديرة التي كانت بحاجة زائدة إلى الإصلاح، واشترى مائة كدنة كرم من أراضي جديتا وأراضي عين العسل . وخصص الرواق الشمالي من دير مار يوحنا لتعليم المبتدئين . وبقي مثابرا على العمل إلى سنة ١٨٥٩ في ٨ تشرين الثاني حين اجتمع المجمع العام وانتخب رئيسًا عاما. ولما حضر إلى مدينة زحلة شرع بعمار تلحيقة إلى كنيسة الدير للجهة الغربية ، وأصلح الطاحون التي باسم الوظيفة في زحلة . وزاد عليها حجرا حتى صارت بثلاثة أحجار . ثم بعده شرع بعمار الرواق الغربي في دير مار الياس الطوق بعد أن احترق في سنة الستين (١٨٦٠) من الدروز سنة الحركة التي حدثت بين النصارى والدروز. ثم عمر كنيسة النبي الياس في الخنشارة وكنيسة السيدة في الجوار، وعمر حارة شبرى في مصر . واشترى كرم زيتون ومعصرة للزيت في كفرشيها لوظيفة الرئاسة العامة . واستمر مّدة بعد مدة تتجدد له الرئاسة العامة . وتتجدد فيه العزيمة على العمل إلى عام ١٨٦٨ فإنه قد ألحّ على آباء المجمع العام أن يتركوه مدة كي يستريح من عناء الأتعاب فانتخبوا الخوري ديمتريوس الجامد رئيسًا عامًا وإنها ترجوه أن يبقى مدبرا أولا ومساعدا للرئيس العام . (وبالحقيقة إن هذا الأب المفضال الخوري ديمتريوس جامد كان له غيرة أبوية مع فلابيانوس والإيكونومس يوسف كفوري أيضا على خير الرهبانية وبقي وإياهما كل أيام حياته محافظا على الوداد المسيحي الحقيقي ومتفقين على خير الرهبانية أدبيا وماديا).
سابعا – سنة ١٨٧١ انعقد المجمع العام في أوائل أيلول واتفقت أصوات آباء المجمع على انتخاب المترجم دون أن يقبلوا له عذرا. فرجع إلى ما كان عليه من العمل والجد والسهر على خير الرهبانية إلى عام ١٨٨٠ التي فيها قرر معآباء الرهبانية عمار مدرسة خاصة للرهبانية بعد أن كان من زمان مديد يهتم في بنائها وكان عزم سابقا بعد عودته من أميركا، وعمر الرواق الجديد القبلي، وخصص الرواق الشمالي في نفس دير مار يوحنا لتعليم الرهبان الذين هم أهل إلى تلقى العلوم العالية وكانوا قبلا يرسلون إلى مدرسة عين تراز لأنها كانت مخصصة لتربية الناشئة الإكليريكية وعموم إكليروس الطائفة ، وكانت لا تفي بالمراد، حينئذ باشر في بناء المدرسة المذكورة . ولما انتهى البناء نقل التلاميذ الرهبان إليها ولم تزل حتى الآن سائرة على ما كانت عليه . هذا ما قدرنا أن نعرفه من مشاريعه والأعمال والآثار التي أحدثها في الرهبانية مختصرين عما تبقى.
ثامنا – نروي بعض أخبار من أعمال المترجم ، مختارين ذكر جزء من ألف . قد روى لنا الآباء الأقدمون المعاصرون لحياة المترجم أخبارا عديدة ، قد اخترنا منها ما هو أكثر فائدة لأجل الإشارة إلى ما تبقى.
الخبر الأول:
إنه في عام ١٨٦٤ لما تفشى الهواء الأصفر الكبير في أكثر جهات مصر وسوريا وبيروت والشام ما عدا جبل لبنان وبالأخص المحلات العالية التي بقيت سالمة من هذا الوباء. فهرب إلى جهات لبنان كبار العيال من مصر وبيروت والشام للتخلص من ذاك الوباء المشؤوم الذي كان يفتك فتكا ذريعا
حتى هلعت قلوب الناس من شدة وطأته فذهب قسم كبير من علية الطائفة إلى جهات الخنشارة خصوصا لأن ماءها عذب وينابيعها صافية ومناخها ينعش الفؤاد لكونها محاطة بأنواع أشجار الصنوبر الجميل وبالإجماع أن مناخها يشفي العليل وهي بالقرب من دير مار يوحنا. وأكثر أملاك البلدة للرهبانية وفي ذلك الوقت كانت أغراس الكرمة قريبة جدا من بيوت السكن .
ولما نضج العنب والتين وشاهد شبان المهاجرين ذلك الثمر أمامهم على أمّه شرعوا يدخلون إلى الكروم بغير علم الشركاء المستلمين تلك الكروم . فلما بلغ الخبر إلى المترجم أرسل من قبله أناسا مقدرين إلى الكروم المذكورة واستدعى الشركاء ودفع لهم ما خصهم من ثمن العنب والتين وأبقاها معهم كالسابق .
وإنها اشترط عليهم قائلا : ها قد أخذتم ثمن العنب الذي لكم نقدا والآن صارت مقدمة إلى المصطافين مع ما يخص الدير أيضا فمن الآن وصاعدا هي خاصة. لا تمنعوا أحدا من الدخول إلى الكروم المذكورة وهكذا فعل في أمر الخضرة التي كان الشركاء يزرعونها في أراضي الدير ومثل ذلك يوجد بستنة تُسمى (السميط) مشهورة بجودة خضراواتها وكانت مضمنة إلى أحد الأشخاص فاستدعاه ودفع له كل الأكلاف التي صرفها وأبقاها معه وأوصاه بأن كل ما يطلبه أولئك الأنام من مصريين وغيرهم يقدمه لهم وإما إلى غيرهم فالذي يبيعه يكون له خصوصي ومثل ذلك فعل في باقي اللوازم الضرورية كالحطب والفحم فكان يرسل إلى كل عائلة حاجتها اللازمة ووكل أحد الرهبان والناطور بالسهر على كل ما يلزم لكل عائلة . وكل مدة بعد مدة . كان يفتقدهم بأنواع الحلوى والكعك المشهور من صنع الراهبات الذي يرسله مثل بركة أبوية .
وفي أواخر الصيف المذكور عندما عرف أن المرض الوبائي قد زال وأكثرهم مستعدون للرجوع إلى منازلهم عمل لهم وليمة فاخرة تجلت فيها تلك العواطف الأبوية من تلك الذات الكريمة . والشيخ الجليل الطاهر القلب والسخي الكف فذبح لهم كمية من رؤوس الغنم على منتزه عين القلعة تحت أشجار السنديان المشهورة . التي كانت موجودة في ذاك الوقت قبل تأسيس الدير وذاك المنتزه البديع والفسيح للغاية . ولا تسل عمّا صنعه وجلبه من الخيرات لأجل راحة المدعوين . ثم قال لهم : يا أولادي يقتضي أن تأخذوا الحرية للنزهة مع بعضكم وأنا أذهب إلى الدير وآخذ حريتي مع إخوتي وأولادي . وفي نهاية الوليمة اجتمع أولئك الذوات وتخابروا فيما بينهم فقال المتقدم فيهم إن الرئيس العام قد غمرنا بأفضاله وملك قلوبنا بمحبته ومحبة الرهبانية الحناوية التي لا يمكن أن ننسى أفضالها . وشرع في جمع قيمة معتبرة قدموها له وطلبوا منه أن يقبلها كفلس الأرملة لأجل بناء كنيسة في الخنشارة
لأنه لم يكن فيها سوى كنيسة صغيرة وهي كنيسة القديس أنطونيوس القديمة وكنيسة القديس جاورجيوس . غير أنهم اختلفوا على اسم الكنيسة . فقام إذ ذاك أحدهم المدعو الياس النحاس وقال أنا أرجو أن يكون اسم الكنيسة على اسم النبي الياس وها إنني أقدم علاوة عن الاكتتاب عشرين ليرة مساعدة فصادق الجميع على هذا الاقتراح . وذهب وفد من الحاضرين إلى المترجم ورجوا منه أن يقبل تقدمتهم هذه كمساعدة لبناء الكنيسة . وأنه ليس هذا كل ما يرغبون تقدمته ، واعتذروا لديه على هذه التقدمة الصغيرة .
وبالحقيقة إن إجراءات وأعمالا كهذه جعلت الشعب مع الرهبان أطوع له من بنائه في أيام رئاسته وكل أطوار حياته حتى بعدما ذهب المصريون استأنس بأنهم يحبون الجبنة اللبنانية الطرية والبرغل الرفيع (لأجل عمل الكبة) فبعد وصولهم أرسل لهم كمية من الجبن الفاخر والبرغل الزحلاوي المعروف بجودته . وأما هم فأرسلوا له عوضا عن ذلك مؤونة الدير من الأرز وكمية من الجوخ والخام وبالة من الجلد لأجل كسوة الرهبان وقيمة معتبرة من الدراهم مساعدة إلى الدير وطلبوا منه أن يذكرهم في صلاته المقبولة عند الله . فوكيل الرهبانية في بيروت المرسلة هذه الأشياء عن يده فعوضا من أن يرسل الدراهم مع أحد الأشخاص وضع الصرة في أحد أكياس الأرز وكتب إلى المترجم أنها مرسلة في كيس نمره (كذا) وإنها فعل هذا احترازا من ضياع الصرة على الطريق وعندما وصلت أكياس الأرز قد فرغ الكرارجي (أي وكيل الخرج) كل أكياس الأرز حتى يضعها في العنبر المخصص لها فلها وجد الصرة رفعها ووضعها في الخزانة عنده وهو غير عارف بشيء من أمرها ولما قرأ المترجم المكتوب المرسل من وكيل بيروت سأل وكيل الخرج : ” هل استلمت أكياس الأرز تماما؟ ” فأجاب : ” نعم “. فسأله أيضا : ” كيف وجدت أنواع الأرز هل هو جيد أم لا؟ ” فأجاب : ” إنه جيد جدا “. فكرر عليه أيضا بلطف : ” هل وجدت فيه شيئا؟ ” أجاب وكيل الخرج : ” نعم وجدت هذه الضرة “. سأله أيضا: ” ماذا وجدت فيها؟ ” فرد عليه الوكيل بقوله: ” لا أعلم “. حينئذ أمره بأن يأتيه بها إلى غرفته ولما وصل إليه ابتسم المترجم كعادته وقال له من كون الله تعالى بحسن نيتك أرسل لنا مساعدة مالية وأنت تشتغل لأجل الجمهور . فيلزم أن نكافئك على أتعابك . فأعطاه صاية جديدة وملبوسات غيرها وصرفه بكل وداعة ولطف وهو من أصغر رهبانه.
خبر ثان:
ومن جملة حبه إلى رهبانه والرهبانية بوجه الإجمال وهذان الأمران صيّرا الرهبان أن يجمعوا الكلمة على انتخابه رئيسًا عاما ومستلها زمام الرهبانية مدة مديدة من السنين ودونك الخبر الثاني عن مصدر ثقة وهو الشاهد العياني ومن جملة الأشخاص الواقفين على حدوثه لما كان المترجم زائرا دير مار الياس الطوق بزحلة حصل في مدة وجوده ما يأتي :
أن أحد الآباء من شيوخ الرهبان في الدير المذكور طلب من العشي أن يصلح له بيضتين من كونه عاجزا ولا يقدر أن يأكل من أكل الجمهور فرفض العشي إجابة طلبه ولم يقبل عمل ذلك. فعرف المترجم بالأمر فسأل العشي عن سبب عدم إجابة طلب الأب المذكور . أجاب أن رئيس الدير مانع هذا العمل . فسأل رئيس الدير أجاب لا نقدر أن نعمل شكلين في معيشة الدير .
فقال له المترجم إن النظام العمومي واجب أن يحفظ . ولكن المرضى والعجزة يجب ملاحظتهم . وهذا أيضا مما يفرضه النظام والقانون . لأن الراهب الذي ترك أهله وبيت أبيه فأصبحت الرهبانية أمه والرئيس أبوه فأتأمل من الآن وصاعدا أن تلاحظوا الرهبان المرضى والعجزة بنوع خصوصي ولا تدعو أحدا يتذمر . وعلى هذه الصورة كان مثال الأب الحنون سهرانا على راحة الجميع روحيًا وجسديا .
ثم إنه مرة قرر مع المدبرين أنه ممنوع شرب الدخان من غير إذن وأنه بعد قرع جرس النوم الساعة التاسعة مساء يجب على جميع الرهبان أن يطفئوا الأضوية في الغرف . وكان من عادة المترجم بعد أن يقرع جرس النوم يتفقد قلالي الرهبان بذاته . فليلة ما مرّ صدفة من أمام باب إحدى القلالي فشاهد الدخان خارجا من محل المفتاح في غال الباب فقرع الباب بلطف وقال :
“بصلوات آبائنا القديسين كما هي العادة وذهب من دون أن يدخل القلاية”.
فذاك الراهب ذاب خجلًا. والسبب في ذلك هو أن الراهب المذكور كان ممنوعا عن الدخان . وفي تلك الليلة ذاتها استحصل له الإذن أحد المدبرين بعد صلاة النوم فذهب ذاك الراهب إلى قلايته وشرع بالتدخين (الشبق) على حسب عادة ذاك العصر فداهمه فرع جرس النوم قبل نهاية شرب الغليون.
تاسعا – أمّا من جهة احتشامه وآدابه العمومية وصبره وطول أناته واحتماله وثباته على الجهاد في العمل لأجل خير الرهبانية ونجاحها أدبيا وماديا، فإنه كان سهرانا السهر الشديد على حفظ الآداب والكمال الرهباني التي كان هو صورته ط. لأنه عاهد على نفسه أن لا يبين نواجذه (أسنانه) أبدا . وكان عندما يضطر إلى التبسّم يضع يده على فمه النحيف الذي هو بحجم الزبيبة . وعند تناوله الطعام لا يقدر أحد أن يعرف إذا كان يحرك فمه أم لا . ومع ما كان عليه من الجلال والكمال لا يستنكف عن عمل أدنى الوظائف الديرية والخدم الدنية للدلالة على اتضاعه الفائق الوصف .
حلّة الطهر ملبوسة بأكمام تغطي يديه . متجلببا بالثوب الرهباني الكامل – ومجمل بالوقار. ونغمة صوته كان لها رنة عذبة في الآذان والساع . ولاسيما في أوقات الاحتفالات الكنسية التي كان يمثلها ويرتبها ويعلّمها إلى الرهبان. وعند ترتيله ترى الملائكة مرفرفة فوق رأسه والخشوع مالئ قلوب الحاضرين كأنّ على رؤوسهم الطير . وكلهم شاخصون في حركته المقرونة بالنظام البديع . وكان من أخص تلاميذه الذين أخذوا عنه بعض هذه الصفات الجميلة هم المرحومين الخوري جرجس عيسى الشهير الذي له اليد البيضاء في تأسيس المدرسة البطريركية وهو أول من أنشأها والإيكونومس يوسف الكفوري والمطران أغابيوس معلوف. فهؤلاء الثلاثة هم من أخص تلاميذه.
وأخيرا بقي مثابرًا على العمل في كرم الرهبانية والرئاسة العامة تتجدد له حتى عام ١٨٨٣ الذي فيه التأم المجمع العام . وقد أنهكه التعب والهرم وما عاد بإمكانه أن يزاول أعمال الوظيفة الكثيرة الأعباء التي خدمها زهاء نصف قرن .
فطلب رسميا من آباء المجمع أن يوجهوا انتخابهم إلى غيره وبمشورته انتخبوا الخوري سليمان الشامي رئيسًا عامًا والخوري يوسف كفوري مدبرا أولا وثانيا أغابيوس معلوف الذي صار فيها بعد مطرانا على بعلبك والمترجم ترك كل ما كان يمتلكه حتى بدلاته الكهنوتية فإنه وزعها على الرهبان الكهنة ولم يترك لنفسه سوى بدلة بسيطة وجرد قلبه من كل حطامات الدنيا . حتى إنه احتاج في آخر حياته إلى ثمن أوقية حليب فلم يكن معه وهكذا قضى حياته البارة في خدمة الرب مواظبا على الصلوات والتأملات إلى ٣٠ تشرين الثاني ١٨٨٦ التي فيها دنا وقت انتقاله . فاستدعى الرهبان الذين رباهم في الدير . وطلب منهم المسامحة قائلًا لهم : اغفروا لي يا أولادي وسامحوني عن زلّاتي التي صدرت مني في حقكم . والمثال المشكك الذي فعلته أمامكم . وبعد أن اقتبل الأسرار الإلهية شرع يقبل الصليب المقدس ويطلب من الرب يسوع المعونة على احتمال الآلام كما احتملها هو حبا بخلاصنا وكان يترنم بالمزامير والتراتيل الروحية والنوافذ السهمية . وبينا الرهبان يصلون طلبة العذراء ويتضرعون طارت تلك النفس الطاهرة إلى الأخدار الساوية كي تأخذ الإكليل المعد لها من الله تعالى . وعندما اشتهر خبر وفاته تقاطرت الجماهير الغفيرة من جميع الأنسباء والقرى المجاورة إلى الدير المذكور الذين أخذهم الأسف الشديد على فقد ذاك الملاك الأرضي والإنسان السماوي . وبعد ما عملوا له مناحة عظيمة حضرها علية القوم من علمانيين وإكليريكيين ابّنه تأبينا بليغا البروتوسنكلوس إكليمنضوس فرح المدبر الثاني . ودفن في المدفن المخصص لمشاهير الرهبانية، المدفون فيه البطريرك مكسيموس (الثاني) حكيم والشبّاس عبد الله زاخر والثالث هذا البار المترجم .
فليكن تذكاره مؤبدا مستحق الطوبي ودائم الذكر ، كانت وفاته، في دير الصابغ ، في عام ١٨٨٦ في ٣٠ تشرين الثاني عن ٨٤ عاما. )
9 – جرجس عيسى (1827 + 1875)
هو إيلياس بن إبراهيم بن الياس عيسى السكاف ، من مواليد المعلَّقة – زحلة العام 1827 ، لبس ثوب الابتداء في الثاني من تشرين الثاني 1845 ، ودُعي جرجس . أبرز نذوره في السادس من تمّوز 1947 .
ارتسم شمّاسًا إنجيليًّا ، في 7 كانون الثاني 1857 ، عن يد المطران أغابيوس الرياشي ، متروبوليت بيروت ، في كنيسة النبي الياس الكاتدرائيّة ، وكاهنًا ، بتاريخ 30 آذار 1858 ، عن يد المطران المذكور ، ثمّ خوريًّا ، في 14 تشرين 1859 ، عن يد سيادة المذكور .
انتُخب مدبّرًا رابعًا (1859 - 1962) ، اشتهر بمعارفه وتقواه ، فنُصّب قاضيًا للنصارى ، بزمن الأمير بشير الأحمد اللمعي ، نحو سنة 1859 ، وقام بمهمّته إلى أن شُكّلت المتصرفيّة الجديدة ، وأُلغيت قائميّة المقام في 17 تشرين الثاني سنة 1860 .
سافر إلى أوربة ، بإذن الرؤساء ، في 18 حزيران 1860 ، فوصل إلى باريس ومنها سافر إلى إيرلندا ، فصرف هنالك بعض سنوات يجمع الإحسان ، ثمّ عاد إلى بيروت في 31 أيلول 1865 ، وشرع ببناء المدرسة البطريركيّة ، حسب رغبة البطريرك غريغوريوس يوسف ، وكان يناظر بناءها وأكمل تجهيزها ، ولم تكن سنة 1866 حتّى فتحت أبوابها للطلبة ، وكان أوّل رؤسائها وقد وضع لها رسومًا وقوانين ، وأسّس فيها أخوية القربان المقدّس للطلبة . وتقديرًا لجهوده وخدمته الوطنيّة ، كافأه البطريرك فمنحه رتبة أرشمندريت الكرسي الأنطاكي ، وكرّسه بهذه الرتبة في كنيسة المدرسة ذاتها ، بتاريخ الأوّل من شباط 1866 ، وكذلك منحته الدولة العثمانيّة ، بواسطة وزيرها راشد باشا ، والي سورية الأسبق ، الوسام المجيدي الخامس .
بَيد أنه ، بعد مرور بضع سنين ، ونظرًا للأتعاب التي عانى منها ، طلب إعفاءه وعاد إلى دير الصابغ ، حيث انقطع لتعليم الرهبان وعمل الرياضات الروحيّة في القرى ، لا سيّما أيام الصوم الأربعيني .
ولمّا كانت سنة 1870 دعاه المطران أغابيوس الرياشي إليه وسمّاه وكيله العام في بيروت ، فاستلم مهام الوكالة في 15 شباط ، وشرع في تجديد المدارس وتولّى التدريس وأكبّ على الوعظ والإرشاد ، وأسّس أوّل أخوية للبتول ، للرجال والنساء ، في 15 آب 1870 ، وقد ثبّتها المطران في 25 آذار 1871 ، وقد انتُخب مدبّرًا ثالثًا (1874 - 1875) .
وهكذا صرف حياته بجهاد وغيرة حتّى ذاع شهرة في مدينة بيروت وغيرها ، وكان تقيًّا جدًّا ومثالًا للطهارة .
أمّا آخر أعماله الرعوية فكان أنه بقي في بيروت ، لمّا انتشر وباء الهواء الأصفر ، وقد نزح معظم سكّانها وأكثر الكهنة . فكان يطوف المدينة حاملًا أدوية وقوتًا ليوزّعها على الفقراء والمصابين ومعها الزاد الإلهي مخفّفًا أوجاعهم بالتعزيات الروحيّة ومساعدًا إيّاهم على الميتة الصالحة ، وكان يهتّم بتجهيز ونقل الموتى ، وعندما لا يوجد من يدفنهم ، كان هو ذاته يحملهم على كتفه ويواريهم في مثواهم الأخير ، الأمر الذي أدهش حتّى غير المسيحيّين .
وبقي على ذلك أشهرًا حتّى أنه ، بعد زيارته لأحد المصابين ، أحسّ بدنّو أجله . وممّا يُروى عنه أنه مرّ في طريقه على نجّار من المسلمين وأوصاه على تابوت مدّعيًا أنه لأحد المرضى ، قائلًا له : إن المريض مثلي تمامًا ، فأخذ قياسه ، وما إن وصل إلى الدار الأسقفيّة حتّى اشتدّ عليه الداء ، فقضى نحبه في مساء يوم السبت الواقع في 8 آب سنة 1875 ، فذهب الخادم إلى النجّار المجاور للدار الأسقفيّة وأوصاه على تابوت ، فقال له : إنه جاهز ، فأين الكاهن ليأخذه ، فقال له : إنه تُوفّي ، فتعجّب وبقي يروي ذلك لكثيرين .
كان مشهورًا بتقواه وتعبّده للأم البتول ، خطيبًا بليغًا ، محبًّا للفقراء والمرضى ، غيورًا على الخدمة الروحيّة ، وقد ترك للرهبانيّة والفقراء مالًا ، كما ورد في سجل الرهبانيّة ، واقتنى مكتبة تنيف على مائتي مجلّد ، وكان فقيهًا بارعًا ، متقنًا العربيّة ، عارفًا بالإنكليزيّة والفرنسيّة ، شاعرًا مجيدًا ، وكان مصابًا بالجدري ، في وجهه أثر ندوب منها ، وقد أشاد به الشعراء الكبار أمثال سليم بك تقلا والشيخ خليل اليازجي ، وقد وَرَدَ تقريظه في قصيدة بعنوان : «نَفير الوطنيّة» ، جاء فيها :
أليس جرجس عيسى كاهنًا ورعًا
قد طاف أوربة حشدًا لدينارِ
والبطركيّة بيت العلم شيّده
في ثغر بيروت مشهورٌ بآثارِ
وأنشأ الأخويّات التي اشتهرت
كلجنة البِرّ فيها نَيل أوطارِ
تلقّى العلوم ومبادئ العربيّة على بعض الآباء ، اتّصل بالعلّامة الشيخ ناصيف اليازجي ودرس عليه العلوم العربيّة بفروعها فأتقنها ، ثمّ الفقه الشريف على العلّامة الشيخ يوسف الأسير ، فتضلّع به . مال إلى نظم الشعر فأحرز منه نصيبًا وافرًا .
الرئيس العام فلابيانوس (الأول) كفوري (1802 م – 1886 م)
أولا – إن هذا النابغة هو الذي يرجع إليه الفضل العظيم . وكان من الواجب أن تُدون أعمال حياته قبل كل أحد . وأن تكتب بماء الذهب . حتى عند ذكر اسمه نحني له الرأس احتراما ونردد ذكره الميمون بالفخر والمجد . كيف لا وهو ذلك الفرد الذي لم يسبق له مثيل بلطفه وحلمه وجوده وكالاته السامية وحسن إدارته الرائقة المقرونة بالحكمة والفطنة والهدوء والسكينة، ومهما به من الآلاء الجلى والأوصاف الحميدة المطبوعة فيه شرحت عمّا اتّصف من الفطرة الطبيعية . لا يكون جزءا مما كان هو عليه وفيه . والذين بعدهم أحياء ويعرفونه شخصيا يؤكدون هذا المقال . وأما الذين لا يعرفونه فعند مشاهدتهم مثاله ومن الاطلاع على سيرة حياته يقفون على شيء مما اتّصف به . واعلم أيها القارئ اللبيب أنك إذا نظرت إلى صورته ومثاله لا تتصور إلّا ملاكا أرضيًا وإنسانا ساويا ماثلا أمامك . لأنه كان كلي الاحتشام في جميع أعاله. له قوام كقضيب الخيزران ووجه طافح بالنور . البشر ظاهر منه . مطرق النظر إلى الأرض بلطف فائق الرقة. رصين جدا في مشيه. مهاب الطلعة، صبوح الوجه ، ومتبسم بلطف طبيعي. طويل الأناة ، أنيس الحديث. ورائق جدا في أطباعه. وديع ومتواضع القلب قد سحر الرهبان وكبار الرؤساء الروحيين والشعب أجمع بأعماله وأفعاله ومبرّاته التي لا يحصيها عدد. وهذه المحامد التي أهلته أن يتربع في منصّة الرئاسة العامة على الرهبانية وإدارة شؤونها، وفي مختلف الوظائف، فوق النصف قرن. وفي مدة رئاسته كلها. وأيام حياته بأجمعها. كان مثلًا للكمال
الرهباني مدققا صارما في حفظ القوانين . وكان الرهبان يتمّمون أوامره بكل طيبة خاطر وعن حبّ بنوي طبقا لإرادته تعالى . وهو كان يحبّهم محبة أبوية خالصة وما أحد من الفقراء والعيال المستورة قصده إلّا ونال مرغوبه وهو الذي أسس روح التقوى في نفوس رهبانه واتصلت إلى أفراد أسرته لاتباع أثر خطواته في مدارج الكمال الرهباني، ولذا وجب أن يقال فيه ما قاله أحد الشعراء :
بكت شجوها فهيج لي البكاء
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقد بخل الزمان أن يأتي بمثله
إن الـزمـان بمثله لبخيل.
ولذا نرى أكثر الذين عرفوا ما اتصف به من الفضائل وما تركه من حسن السمعة. رغبوا أن يتسمَّوا باسمه تيمّنًا بذكره. وكل الذين عرفوا المترجم شخصيا عند ذكر اسمه أمامهم تتحرك فيهم عواطف الاحترام وحب الفضيلة.
ثانيا – أما نسبه الطيب فهو:
يوسف بن منصور بن حنا بن يوسف بن نصر الله بن جرجس بن إبراهيم بن ميخايل الكفوري . ولد في حارة مار يوحنا في افتتاح سنة ۱۸۰۲ على حياة عم أبيه القس مرقص (الأول) الكفوري الذي هو أول راهب كفوري دخل الرهبانية من أبناء الأسرة الكفورية . فيكون المترجم هو الثاني من الذين دخلوا الرهبانية . فبعد أن تربى تربية صالحة والديه منصور وكتوره، التي هي ابنة نجم المعلوف”، الموصوفة بالكمال والجمال الأدبي والطبيعي نظير زوجها منصور الذي كان آية في الجمال والاقتدار . . . وبعد أن ترعرع وبلغ من العمر ثمانية عشر سنة . وكان من صغره ذا صوت شجي رخيم فتعلم على أيادي الرهبان الألحان الكنسية والأنغام اليونانية . فإذ ذاك تاقت نفسه إلى اعتناق الدعوة المقدسة ولمّا عرف الرئيس العام والرهبان مراده . قبلوه بكل ترحاب . فكأنّ ملاكا سماويًّا دخل الدير . وفي ٢٥ آب سنة ١٨٢٠ لبس الثوب الرهباني الابتدائي في دير مار يوحنا من رئيس الدير القس برثلماوس ، ودعي باسم مرقص (الثاني) . في أيام رئاسة الأب العام الخوري ميخايل التركماني . ثم أخذ في الدرس والتحصيل على الآباء الرهبان الأفاضل الذين كانوا يتسابقون على تعليمه، وخاصة لما شاهدوه مجتهدا. وراغبا. ومتصفا بالوداعة والاتضاع ، ولاسيما لأجل رخامة صوته. وكان ميالا كثيرا إلى الموسيقى الكنسية والألحان الطقسية والأوزان المرتبة على الموسيقى اليونانية ، فأتقن هذا الفن حتى أصبح أستاذا ماهرا، وفي كل أيام حياته كان يعلمها للرهبان الأحداث .
بعد أن أكمل الزمان الابتدائي نذر النذور الاحتفالية في ٢٣ نيسان سنة ١٨٢٢ ودعي باسم فلابيانوس، وبقي مثابرا على الدرس والمطالعة وعلم اللاهوت وباقي العلوم الأخرى . وفي ٢٣ نيسان ١٨٢٤ ذهب بأمر الرئيس العام إلى زحلة فارتسم شمّاسًا إنجيليا ، عن يد أسقفها سيادة المطران إغناطيوس عجوري . وفي ٢٦ كانون الأول سنة ١٨٢٦ سُيّم قًّا عن يد السيد البطريرك إغناطيوس (الخامس) قطان . وبعد رسامته أرسله إلى بيروت لاستلام مدرستها الأسقفية، فقام بهذه الوظيفة سنة كاملة كان بخلالها موضوع اعتبار جميع الشعب البيروتي . وفي عام ١٨٢٧ أقامه المغبوط نائبا بطريركيا على الأبرشية المذكورة التي لم تزل مترملة من أسقفها المطران أثناسيوس دهان ق .ب . وكان القصد أن يدرجه إلى الأسقفية فلما علم المترجم بهذا القصد اعتذر إليه ولفت نظره إلى الخوري يعقوب الرياشي وهكذا بعد مدة استدعى غبطته الخوري يعقوب الرياشي المذكور وسقّفه على أبرشية بيروت وذلك عام ١٨٢٨ . وبقي المترجم في بيروت مسموع الكلمة وحائزا على ثقة عموم الطائفة ومحبوبا من جميع الشعب.
إلى سنة ١٨٣٥ التي فيها اجتمع الرهبان في دير الصابغ ، فوقع اختيارهم لرئاسة الرهبان العامة على الخوري فلابيانوس المترجم . ومن حيث أن آباء المجمع كانوا عارفين بها هو منطبع عليه وترفعه عن الوظائف . استعانوا عليه بالمطران المذكور الذي حكم عليه أن يقبل الوظيفة لأن الله يدعوه إليها . فتظاهر أولا بالقبول وذهب سرا من بيروت إلى دير مار سمعان العامودي بدلا من ذهابه إلى دير مار يوحنا الصابغ ، وأخيرا لما رأى أن الرهبان مصمّمين النية على انتخابه فقبل الوظيفة. وهذه كانت أول رئاسته وذلك في ١٢ تشرين الأول سنة ١٨٣٥ ولما استلم زمام الرئاسة ابتدأ أولا بإصلاح النظام الرهباني غير سامح لأحد بأدنى تقصير يقع في حفظ القانون من أي كان كبيرا أم صغيرا حتى أذهل الجميع في تدابيره الحازمة المقرونة بالوداعة والصرامة معًا.
رابعا – وبهذه الأثناء طلبت الطائفة الموجودة في القطر المصري من غبطة البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم السعيد الذكر في معروض ممضي من أرخندوس الملة المصرية. في طلب المترجم أن يكون مطرانا عليهم وأن انتخابهم وقع عليه باجتماع الكلمة، فالمغبوط عقد مجمعا في عين تراز وخابر المطارنة بهذا الأمر وقرر أن الانتخاب هو غير قانوني لأنه من دون علمه، والقطر المصري خاضع له رأسًا . فبعد المخابرة مع المطارنة قرر المجمع أن أن يرسمه مطرانا . ويكون نائبا بطريركيًا ويبقى تحت رئاسة المغبوط .
وفي ٦ كانون الأول سنة ١٨٣٥ وصل المترجم إلى عين تراز وأبلغه غبطة البطريرك قرار السينودس برسامته أسقفا ونائبا بطريركيا على القطر المصري فاعتذر إلى المغبوط والمجمع فأجابه البطريرك أنه غير ممكن إلا إرضاء الشعب المصري برسامته مطرانا لهم لأنهم يطلبونه رسميا . فالمترجم تعهّد إلى المغبوط والمجمع في أن يرسم لهم نسيبه الخوري يوسف الموجود إذ ذاك في مصر الذي دعي باسيليوس . . . وتعهد لهم في إقناع أرخندوس الطائفة بذلك. وهكذا صار فأرسل إلى الشعب المصري وأرخندوس الطائفة مكاتيب أقنعهم بما تقدّم وأن هذه هي إرادة الله وإرادة البطريرك وكلما رسمه لهم قد تمّموه بكل تدقيق.
خامسا – سنة ١٨٣٨ تجددت له الرئاسة العامة رغم استعفائه ، وبقي إلى غاية ٣١ آذار سنة ١٨٤٢ حيث عقد المجمع العام، فاستعفى من كل الوظائف، ولكنه قبل فقط أن يبقى يعلم أحداث الرهبان التراتيل الكنسية والموسيقى اليونانية.
وفي عام ١٨٤٥ انتخب مدبرا أولا ، وبقي معلّها كما كان. في عام ١٨٤٨ ذهب للتبرك بزيارة الأراضي المقدسة وشاهد فيها المجمع الأورشليمي المنعقد تحت رئاسة البطريرك مكسيموس مظلوم .
وبعد نهاية المجمع عاد إلى بيروت. وكان عالما بما كانت عليه الرهبانية من ضيق المعيشة والعسر المالي . فقصد السفر إلى أميركا لجمع الإحسانات الضرورية لقيام الإصلاحات التي كان يرغب إدخالها في الرهبانية لأجل نجاحها الأدبي والمعنوي وخصوصا لتأسيس مدرسة عالية للرهبانية كي يتخرج فيها أبناؤها على العلوم اللازمة لأجل سياسة وتعليم الشعب .
وقد استحصل على إذن من صاحب الغبطة والرؤساء القانونيين . وسافر في ٨ أيلول سنة ١٨٤٩ إلى أميركا، وهو أول كاهن شرقي كاثوليكي دخل إلى الولايات المتحدة، وبقي فيها سنتان فقط . وكان برفقته ترجمانا ناصيف شدودي ، فنجح بعض النجاح لأن قسما كبيرا قد اختلس منه ولم يرد أن يرافع الغريم ، وفي رجوعه من أميركا عرج على روما العظمى . وحظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس التاسع الذي باركه وأنعم عليه وعلى ذويه ورهبانيته بالبركة الرسولية . وزار ضريحي القديسين بطرس وبولس وباقي المقامات الرسمية في البلاط البابوي ، وحصل على اعتبار عظيم جدا لدى أرباب الفاتيكان. ولما وصل إلى ميناء الإسكندرية زار القطر المصري لمشاهدة نسيبه المطران باسيليوس الكفوري وأصدقائه المصريين الذين كانوا يجلّونه جدا .
ولما وصل إلى لبنان عام 1851 وجد أن المغبوط مراده أن يرسمه مطرانا على أبرشية بعلبك فاعتذر لديه وذهب إلى دير الصابغ. وحينئذ باشر في بناء الرواق القبلي الذي بقي مدة يدعى الرواق الجديد (رواق الرئيس العام).
سادسا – في المشاريع والإنشاءات التي أجراها في الرهبانية بعد ما أنهى بناء الرواق المذكور أعلاه في دير مار يوحنا الصابغ ، شرع في بناء الرواق الغربي المحاذي كنيسة دير مار أنطونيوس القرقفي ، وأصلح أملاك الأديرة التي كانت بحاجة زائدة إلى الإصلاح، واشترى مائة كدنة كرم من أراضي جديتا وأراضي عين العسل . وخصص الرواق الشمالي من دير مار يوحنا لتعليم المبتدئين . وبقي مثابرا على العمل إلى سنة ١٨٥٩ في ٨ تشرين الثاني حين اجتمع المجمع العام وانتخب رئيسًا عاما. ولما حضر إلى مدينة زحلة شرع بعمار تلحيقة إلى كنيسة الدير للجهة الغربية ، وأصلح الطاحون التي باسم الوظيفة في زحلة . وزاد عليها حجرا حتى صارت بثلاثة أحجار . ثم بعده شرع بعمار الرواق الغربي في دير مار الياس الطوق بعد أن احترق في سنة الستين (١٨٦٠) من الدروز سنة الحركة التي حدثت بين النصارى والدروز. ثم عمر كنيسة النبي الياس في الخنشارة وكنيسة السيدة في الجوار، وعمر حارة شبرى في مصر . واشترى كرم زيتون ومعصرة للزيت في كفرشيها لوظيفة الرئاسة العامة . واستمر مّدة بعد مدة تتجدد له الرئاسة العامة . وتتجدد فيه العزيمة على العمل إلى عام ١٨٦٨ فإنه قد ألحّ على آباء المجمع العام أن يتركوه مدة كي يستريح من عناء الأتعاب فانتخبوا الخوري ديمتريوس الجامد رئيسًا عامًا وإنها ترجوه أن يبقى مدبرا أولا ومساعدا للرئيس العام . (وبالحقيقة إن هذا الأب المفضال الخوري ديمتريوس جامد كان له غيرة أبوية مع فلابيانوس والإيكونومس يوسف كفوري أيضا على خير الرهبانية وبقي وإياهما كل أيام حياته محافظا على الوداد المسيحي الحقيقي ومتفقين على خير الرهبانية أدبيا وماديا).
سابعا – سنة ١٨٧١ انعقد المجمع العام في أوائل أيلول واتفقت أصوات آباء المجمع على انتخاب المترجم دون أن يقبلوا له عذرا. فرجع إلى ما كان عليه من العمل والجد والسهر على خير الرهبانية إلى عام ١٨٨٠ التي فيها قرر معآباء الرهبانية عمار مدرسة خاصة للرهبانية بعد أن كان من زمان مديد يهتم في بنائها وكان عزم سابقا بعد عودته من أميركا، وعمر الرواق الجديد القبلي، وخصص الرواق الشمالي في نفس دير مار يوحنا لتعليم الرهبان الذين هم أهل إلى تلقى العلوم العالية وكانوا قبلا يرسلون إلى مدرسة عين تراز لأنها كانت مخصصة لتربية الناشئة الإكليريكية وعموم إكليروس الطائفة ، وكانت لا تفي بالمراد، حينئذ باشر في بناء المدرسة المذكورة . ولما انتهى البناء نقل التلاميذ الرهبان إليها ولم تزل حتى الآن سائرة على ما كانت عليه . هذا ما قدرنا أن نعرفه من مشاريعه والأعمال والآثار التي أحدثها في الرهبانية مختصرين عما تبقى.
ثامنا – نروي بعض أخبار من أعمال المترجم ، مختارين ذكر جزء من ألف . قد روى لنا الآباء الأقدمون المعاصرون لحياة المترجم أخبارا عديدة ، قد اخترنا منها ما هو أكثر فائدة لأجل الإشارة إلى ما تبقى.
الخبر الأول:
إنه في عام ١٨٦٤ لما تفشى الهواء الأصفر الكبير في أكثر جهات مصر وسوريا وبيروت والشام ما عدا جبل لبنان وبالأخص المحلات العالية التي بقيت سالمة من هذا الوباء. فهرب إلى جهات لبنان كبار العيال من مصر وبيروت والشام للتخلص من ذاك الوباء المشؤوم الذي كان يفتك فتكا ذريعا
حتى هلعت قلوب الناس من شدة وطأته فذهب قسم كبير من علية الطائفة إلى جهات الخنشارة خصوصا لأن ماءها عذب وينابيعها صافية ومناخها ينعش الفؤاد لكونها محاطة بأنواع أشجار الصنوبر الجميل وبالإجماع أن مناخها يشفي العليل وهي بالقرب من دير مار يوحنا. وأكثر أملاك البلدة للرهبانية وفي ذلك الوقت كانت أغراس الكرمة قريبة جدا من بيوت السكن .
ولما نضج العنب والتين وشاهد شبان المهاجرين ذلك الثمر أمامهم على أمّه شرعوا يدخلون إلى الكروم بغير علم الشركاء المستلمين تلك الكروم . فلما بلغ الخبر إلى المترجم أرسل من قبله أناسا مقدرين إلى الكروم المذكورة واستدعى الشركاء ودفع لهم ما خصهم من ثمن العنب والتين وأبقاها معهم كالسابق .
وإنها اشترط عليهم قائلا : ها قد أخذتم ثمن العنب الذي لكم نقدا والآن صارت مقدمة إلى المصطافين مع ما يخص الدير أيضا فمن الآن وصاعدا هي خاصة. لا تمنعوا أحدا من الدخول إلى الكروم المذكورة وهكذا فعل في أمر الخضرة التي كان الشركاء يزرعونها في أراضي الدير ومثل ذلك يوجد بستنة تُسمى (السميط) مشهورة بجودة خضراواتها وكانت مضمنة إلى أحد الأشخاص فاستدعاه ودفع له كل الأكلاف التي صرفها وأبقاها معه وأوصاه بأن كل ما يطلبه أولئك الأنام من مصريين وغيرهم يقدمه لهم وإما إلى غيرهم فالذي يبيعه يكون له خصوصي ومثل ذلك فعل في باقي اللوازم الضرورية كالحطب والفحم فكان يرسل إلى كل عائلة حاجتها اللازمة ووكل أحد الرهبان والناطور بالسهر على كل ما يلزم لكل عائلة . وكل مدة بعد مدة . كان يفتقدهم بأنواع الحلوى والكعك المشهور من صنع الراهبات الذي يرسله مثل بركة أبوية .
وفي أواخر الصيف المذكور عندما عرف أن المرض الوبائي قد زال وأكثرهم مستعدون للرجوع إلى منازلهم عمل لهم وليمة فاخرة تجلت فيها تلك العواطف الأبوية من تلك الذات الكريمة . والشيخ الجليل الطاهر القلب والسخي الكف فذبح لهم كمية من رؤوس الغنم على منتزه عين القلعة تحت أشجار السنديان المشهورة . التي كانت موجودة في ذاك الوقت قبل تأسيس الدير وذاك المنتزه البديع والفسيح للغاية . ولا تسل عمّا صنعه وجلبه من الخيرات لأجل راحة المدعوين . ثم قال لهم : يا أولادي يقتضي أن تأخذوا الحرية للنزهة مع بعضكم وأنا أذهب إلى الدير وآخذ حريتي مع إخوتي وأولادي . وفي نهاية الوليمة اجتمع أولئك الذوات وتخابروا فيما بينهم فقال المتقدم فيهم إن الرئيس العام قد غمرنا بأفضاله وملك قلوبنا بمحبته ومحبة الرهبانية الحناوية التي لا يمكن أن ننسى أفضالها . وشرع في جمع قيمة معتبرة قدموها له وطلبوا منه أن يقبلها كفلس الأرملة لأجل بناء كنيسة في الخنشارة
لأنه لم يكن فيها سوى كنيسة صغيرة وهي كنيسة القديس أنطونيوس القديمة وكنيسة القديس جاورجيوس . غير أنهم اختلفوا على اسم الكنيسة . فقام إذ ذاك أحدهم المدعو الياس النحاس وقال أنا أرجو أن يكون اسم الكنيسة على اسم النبي الياس وها إنني أقدم علاوة عن الاكتتاب عشرين ليرة مساعدة فصادق الجميع على هذا الاقتراح . وذهب وفد من الحاضرين إلى المترجم ورجوا منه أن يقبل تقدمتهم هذه كمساعدة لبناء الكنيسة . وأنه ليس هذا كل ما يرغبون تقدمته ، واعتذروا لديه على هذه التقدمة الصغيرة .
وبالحقيقة إن إجراءات وأعمالا كهذه جعلت الشعب مع الرهبان أطوع له من بنائه في أيام رئاسته وكل أطوار حياته حتى بعدما ذهب المصريون استأنس بأنهم يحبون الجبنة اللبنانية الطرية والبرغل الرفيع (لأجل عمل الكبة) فبعد وصولهم أرسل لهم كمية من الجبن الفاخر والبرغل الزحلاوي المعروف بجودته . وأما هم فأرسلوا له عوضا عن ذلك مؤونة الدير من الأرز وكمية من الجوخ والخام وبالة من الجلد لأجل كسوة الرهبان وقيمة معتبرة من الدراهم مساعدة إلى الدير وطلبوا منه أن يذكرهم في صلاته المقبولة عند الله . فوكيل الرهبانية في بيروت المرسلة هذه الأشياء عن يده فعوضا من أن يرسل الدراهم مع أحد الأشخاص وضع الصرة في أحد أكياس الأرز وكتب إلى المترجم أنها مرسلة في كيس نمره (كذا) وإنها فعل هذا احترازا من ضياع الصرة على الطريق وعندما وصلت أكياس الأرز قد فرغ الكرارجي (أي وكيل الخرج) كل أكياس الأرز حتى يضعها في العنبر المخصص لها فلها وجد الصرة رفعها ووضعها في الخزانة عنده وهو غير عارف بشيء من أمرها ولما قرأ المترجم المكتوب المرسل من وكيل بيروت سأل وكيل الخرج : ” هل استلمت أكياس الأرز تماما؟ ” فأجاب : ” نعم “. فسأله أيضا : ” كيف وجدت أنواع الأرز هل هو جيد أم لا؟ ” فأجاب : ” إنه جيد جدا “. فكرر عليه أيضا بلطف : ” هل وجدت فيه شيئا؟ ” أجاب وكيل الخرج : ” نعم وجدت هذه الضرة “. سأله أيضا: ” ماذا وجدت فيها؟ ” فرد عليه الوكيل بقوله: ” لا أعلم “. حينئذ أمره بأن يأتيه بها إلى غرفته ولما وصل إليه ابتسم المترجم كعادته وقال له من كون الله تعالى بحسن نيتك أرسل لنا مساعدة مالية وأنت تشتغل لأجل الجمهور . فيلزم أن نكافئك على أتعابك . فأعطاه صاية جديدة وملبوسات غيرها وصرفه بكل وداعة ولطف وهو من أصغر رهبانه.
خبر ثان:
ومن جملة حبه إلى رهبانه والرهبانية بوجه الإجمال وهذان الأمران صيّرا الرهبان أن يجمعوا الكلمة على انتخابه رئيسًا عاما ومستلها زمام الرهبانية مدة مديدة من السنين ودونك الخبر الثاني عن مصدر ثقة وهو الشاهد العياني ومن جملة الأشخاص الواقفين على حدوثه لما كان المترجم زائرا دير مار الياس الطوق بزحلة حصل في مدة وجوده ما يأتي :
أن أحد الآباء من شيوخ الرهبان في الدير المذكور طلب من العشي أن يصلح له بيضتين من كونه عاجزا ولا يقدر أن يأكل من أكل الجمهور فرفض العشي إجابة طلبه ولم يقبل عمل ذلك. فعرف المترجم بالأمر فسأل العشي عن سبب عدم إجابة طلب الأب المذكور . أجاب أن رئيس الدير مانع هذا العمل . فسأل رئيس الدير أجاب لا نقدر أن نعمل شكلين في معيشة الدير .
فقال له المترجم إن النظام العمومي واجب أن يحفظ . ولكن المرضى والعجزة يجب ملاحظتهم . وهذا أيضا مما يفرضه النظام والقانون . لأن الراهب الذي ترك أهله وبيت أبيه فأصبحت الرهبانية أمه والرئيس أبوه فأتأمل من الآن وصاعدا أن تلاحظوا الرهبان المرضى والعجزة بنوع خصوصي ولا تدعو أحدا يتذمر . وعلى هذه الصورة كان مثال الأب الحنون سهرانا على راحة الجميع روحيًا وجسديا .
ثم إنه مرة قرر مع المدبرين أنه ممنوع شرب الدخان من غير إذن وأنه بعد قرع جرس النوم الساعة التاسعة مساء يجب على جميع الرهبان أن يطفئوا الأضوية في الغرف . وكان من عادة المترجم بعد أن يقرع جرس النوم يتفقد قلالي الرهبان بذاته . فليلة ما مرّ صدفة من أمام باب إحدى القلالي فشاهد الدخان خارجا من محل المفتاح في غال الباب فقرع الباب بلطف وقال :
“بصلوات آبائنا القديسين كما هي العادة وذهب من دون أن يدخل القلاية”.
فذاك الراهب ذاب خجلًا. والسبب في ذلك هو أن الراهب المذكور كان ممنوعا عن الدخان . وفي تلك الليلة ذاتها استحصل له الإذن أحد المدبرين بعد صلاة النوم فذهب ذاك الراهب إلى قلايته وشرع بالتدخين (الشبق) على حسب عادة ذاك العصر فداهمه فرع جرس النوم قبل نهاية شرب الغليون.
تاسعا – أمّا من جهة احتشامه وآدابه العمومية وصبره وطول أناته واحتماله وثباته على الجهاد في العمل لأجل خير الرهبانية ونجاحها أدبيا وماديا، فإنه كان سهرانا السهر الشديد على حفظ الآداب والكمال الرهباني التي كان هو صورته ط. لأنه عاهد على نفسه أن لا يبين نواجذه (أسنانه) أبدا . وكان عندما يضطر إلى التبسّم يضع يده على فمه النحيف الذي هو بحجم الزبيبة . وعند تناوله الطعام لا يقدر أحد أن يعرف إذا كان يحرك فمه أم لا . ومع ما كان عليه من الجلال والكمال لا يستنكف عن عمل أدنى الوظائف الديرية والخدم الدنية للدلالة على اتضاعه الفائق الوصف .
حلّة الطهر ملبوسة بأكمام تغطي يديه . متجلببا بالثوب الرهباني الكامل – ومجمل بالوقار. ونغمة صوته كان لها رنة عذبة في الآذان والساع . ولاسيما في أوقات الاحتفالات الكنسية التي كان يمثلها ويرتبها ويعلّمها إلى الرهبان. وعند ترتيله ترى الملائكة مرفرفة فوق رأسه والخشوع مالئ قلوب الحاضرين كأنّ على رؤوسهم الطير . وكلهم شاخصون في حركته المقرونة بالنظام البديع . وكان من أخص تلاميذه الذين أخذوا عنه بعض هذه الصفات الجميلة هم المرحومين الخوري جرجس عيسى الشهير الذي له اليد البيضاء في تأسيس المدرسة البطريركية وهو أول من أنشأها والإيكونومس يوسف الكفوري والمطران أغابيوس معلوف. فهؤلاء الثلاثة هم من أخص تلاميذه.
وأخيرا بقي مثابرًا على العمل في كرم الرهبانية والرئاسة العامة تتجدد له حتى عام ١٨٨٣ الذي فيه التأم المجمع العام . وقد أنهكه التعب والهرم وما عاد بإمكانه أن يزاول أعمال الوظيفة الكثيرة الأعباء التي خدمها زهاء نصف قرن .
فطلب رسميا من آباء المجمع أن يوجهوا انتخابهم إلى غيره وبمشورته انتخبوا الخوري سليمان الشامي رئيسًا عامًا والخوري يوسف كفوري مدبرا أولا وثانيا أغابيوس معلوف الذي صار فيها بعد مطرانا على بعلبك والمترجم ترك كل ما كان يمتلكه حتى بدلاته الكهنوتية فإنه وزعها على الرهبان الكهنة ولم يترك لنفسه سوى بدلة بسيطة وجرد قلبه من كل حطامات الدنيا . حتى إنه احتاج في آخر حياته إلى ثمن أوقية حليب فلم يكن معه وهكذا قضى حياته البارة في خدمة الرب مواظبا على الصلوات والتأملات إلى ٣٠ تشرين الثاني ١٨٨٦ التي فيها دنا وقت انتقاله . فاستدعى الرهبان الذين رباهم في الدير . وطلب منهم المسامحة قائلًا لهم : اغفروا لي يا أولادي وسامحوني عن زلّاتي التي صدرت مني في حقكم . والمثال المشكك الذي فعلته أمامكم . وبعد أن اقتبل الأسرار الإلهية شرع يقبل الصليب المقدس ويطلب من الرب يسوع المعونة على احتمال الآلام كما احتملها هو حبا بخلاصنا وكان يترنم بالمزامير والتراتيل الروحية والنوافذ السهمية . وبينا الرهبان يصلون طلبة العذراء ويتضرعون طارت تلك النفس الطاهرة إلى الأخدار الساوية كي تأخذ الإكليل المعد لها من الله تعالى . وعندما اشتهر خبر وفاته تقاطرت الجماهير الغفيرة من جميع الأنسباء والقرى المجاورة إلى الدير المذكور الذين أخذهم الأسف الشديد على فقد ذاك الملاك الأرضي والإنسان السماوي . وبعد ما عملوا له مناحة عظيمة حضرها علية القوم من علمانيين وإكليريكيين ابّنه تأبينا بليغا البروتوسنكلوس إكليمنضوس فرح المدبر الثاني . ودفن في المدفن المخصص لمشاهير الرهبانية، المدفون فيه البطريرك مكسيموس (الثاني) حكيم والشبّاس عبد الله زاخر والثالث هذا البار المترجم .
فليكن تذكاره مؤبدا مستحق الطوبي ودائم الذكر ، كانت وفاته، في دير الصابغ ، في عام ١٨٨٦ في ٣٠ تشرين الثاني عن ٨٤ عاما. )
نقولا قادري (1985+1914)
هو نقولا بن يوسف قادري، والدته وديعه صباغ، من مواليد زحلة في 13 تشرين الثاني١٩١٤ ، نال سر العماد في 1 كانون الثاني 1915 ،دخل الرهبانية في ٢٤ تشرين الأول 1930 ، لبس ثوب الابتداء في 14 شباط 1931 ودعي أناطوليوس. أبرز نذوره الموقتة في ٢٩ أيار۱۹۳۲، وارتبط بالنذور المؤبدة في ٢٩ آب1936. دخل مدرسة الصابغ وأكمل فيها علومه الابتدائية والثانوية ، وقد نال شهادة البكالوريا اللبنانية، القسم الأول – الفرع الأدبي، في دورة حزيران ١٩٤٠ . درس الفلسفة واللاهوت عند الآباء اليسوعيين ، في جامعة القديس يوسف في بيروت، وحصل على شهادة الليسانس في اللاهوت في 1 تموز ١٩٤٦، ثم باشر بإعداد أطروحة ، لنيل شهاد الدكتوراه في الليثرجيا من باريس، بعنوان : «يسوع الملك في الليثرجيا البيزنطية» ، إلا أن ظروفا حالت دون سفره وإكمال مسعاه .قبل الرسامات المقدسة سنة 1945، بوضع يد المطران مكسيموسالصائغ ، متروبوليت بيروت ، فنال درجة الشموسية، في 18 آذار، في كنيسة المطرانية(1)، والكهنوت ، في ٢٩ تموز ، في كنيسة دير الصابغ ، ودعي نقولاوس تولى مسؤوليات عديدة في الرهبانية وخارجها ، منها
أولا : مسؤوليات رهبانية :
مدرس اللغات القديمة في مدرسة الصابغ (1946-1947، 1954-1959) أمين السر العام (1953-1959)، رئيس الرسالة في الأردن (1965-1959)، رئيس الإكليريكية الصغرى في الخنشارة (1965-
١٩٦٨)، معلم المبتدئين (1950 مساعد، 1975-۱۹۷۷، ۱۹۸۰-۱۹۸۳) ، رئيس دير مار الياس الطوق في زحلة (١٩٨٤ – ١٩٨٥)
ثانيا : مسؤوليات راعوية
خدمة الرعايا : عين الصفصاف (1946-1947، ١٩٨٠-١٩٨٤)، المخلص في بيروت (1947-1950 مساعد، ۱۹۷۷-۱۹۸۰)، كفرعقاب (1950-1951)، الخنشارة (1954-1959، 1968- 1969، 1975-1974)، إربد (1951-1953، ١٩٥٩-١٩٦٥)، بولونيا (١٩٤٦ مساعد ، ١٩٨٠-١٩٨٤)، البربارة في زحلة (1969-۱۹۷۲)، منيارة (١٩٧٢-١٩٧٤)
٢ – نيابة أسقفية :
– إربد، الأردن (١٩٥٩-١٩٦٥). وقد نال رتبة «أرشمندريت» من المطران ميخائيل عساف ، في ٢٧ آذار 1960 ، في كنيسة سيدة البشارة في إربد .
– طرابلس (۱۹۷۲ – ١٩٧٤).
الوفاة :
توفي، بمرض القلب ، في ٢٥ حزيران 1985 ، في دير الصابغ ، ودفن ، في مسقط رأسه ، بمقابر الرهبان في دير مار الياس الطوق.
مزاياه :
يعتبر الأب نقولا من كوكبة الآباء الأفاضل المشهود لهم بالفضيلة والتقوى والعلم . فقد اتسمت حياته بطابع القداسة والزهد : ببساطة وفرح حياته الرهبانية المشتركة ، بفقره وعفته وطاعته المميزة : فكانت حقائبه دائها جاهزة لتلبية أوامر السّلطة، في تنقلاته الكثيرة والسريعة ، بحرية وطيبة خاطر (قيل : إنه، في 3 سنوات ، نقل 13 مرة!)؛ وكان محبا للطقوس وبارعا في التيبكون والموسيقى البيزنطية واللغة اليونانية . وكان غيورا على الكنائسية الرهبانية وحريصا على سمعتها ومصالحها .
اشتهر بحبه للكتب والمطالعة وكان له الفضل بشراء الكثير من الكتب ، من مدخوله الخاص ، بإذن الرؤساء ، لاهتمامه بمكتبة دير الصابغ ، وخصوصا بالمخطوطات ، التي عمل على تدوین ثبت خاص بها. وإلى جانب اهتماماته الكثيرة ، اهتمامه بألبسة الرهبان : وقد كان يجيد مهنة الخياطة ، فيخيط 4 الأثواب ، ويفضل ويخيط البدلات الليثرجية للآباء ويصنع لهم القلانس.
جاورجيوس السكاف (1895-1962)
هو مراد بن موسى السكاف ، والدته منّة حبيب أبو صعب المعلوف، من مواليد زحلة ١٨٩٥، لبس ثوب الابتداء في ١٨ شباط ۱۹۲۸ ودعي أفرام . أبرز نذوره الاحتفالية ، عن يد الأب المدبر فلابيانوس كفوري ، في ٢٢ نیسان ۱۹۲۹ ودعي جاورجيوس.
ارتسم شتاشا إنجيليا، في 6 آب ١٩٣٠، بوضع يد المطران باسيليوس قطان، متروبوليت بيروت ، في كنيسة المخلص – ضهور الشوير، وكاهنًا، في ٣١ آب ، من السنة ذاتها ، بوضع يد السيد إفثيميوس يواكيم، مطران زحلة ، في كنيسة دير مار الياس الطوق .
خدم رعية السيدة في بولونيا (١٩٤١ – ١٩٤٢)، وقضى الشطر الكبير من حياته في دير الصابغ نائبا لرئيس الدير ومساعدا لمعلم الابتداء ومرشدا روحيا للنفوس، حيث كان يقضي أكثر أوقاته في كرسي الاعتراف ، ثم عيّن رئيسا في دير كفرشيها مدة تسع سنوات (١٩٤٦-١٩٥٥)، وفي القسم
الأخير من حياته ، كان مرشدا في دير السيدة في بقعتوتة ، أي منذ ٢٦ تشرين الأول ١٩٦١ ، وحتى وفاته لبّى نداء ربه، في الثامن من شهر آب ١٩٦٢، على إثر انفجار دماغي لم يمهله إلا خمسة أيام ، وكانت الوفاة في مستشفى تلشيحا بزحلة، وأقيم له مأتم مهيب ، في اليوم التالي ، في كنيسة دير الطوق قبل دخوله إلى الدير ، عرف عنه بأنه الشاب المهذب اللطيف ، النشيط في شغله والأمين في معاملاته ، المحتشم في متجره، والمنخفض العينين في طريقه ، والمطأطئ الرأس إلى اليمين والتقي الورع في الكنيسة . وهو لم يغب أبدا عن حضور أي احتفال ديني، وكان عضوا في عدة أخويات ، وربما فيها كلها. وقد اشتهر بطاعته وفقره ومحافظته على القوانين، وبحياة قانونية رهبانية ملآی بالتضحيات والتقوى والفضائل والقداسة.
أغسطينوس فرح (1910-1983)
هو نقولا بن يوسف داود فرح، والدته سلمى، من مواليد قارة في ٤ أيار سنة ١٩١٠، دخل الرهبانية في ٢ تشرين الثاني سنة ١٩٢٢، ولبس ثوب الابتداء في ٢١ نيسان سنة ١٩٢٣ ودعي أغسطينوس . أبرز نذوره الاحتفالية في ١٤ أيلول سنة ١٩٢٧ .
رقاه الأب العام إستفانوس سماحة إلى درجة الشمّاس المعاون في ١٦ أيار ١٩٣٧، والمطران ديونيسيوس كفوري، النائب البطريركي في مصر، إلى درجة الشمّاس الإنجيلي في ٢٢ آب من السنة ذاتها، ورقاه المطران
مكسيموس الصائغ ، متوبوليت بيروت، إلى درجة الكهنوت في ٨ أيلول السنة ذاتها، وقد نال تلك الدرجات المقدسة في كنيسة دير الصابغ في الخنشارة.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الصابغ ، وأنهى دروسه الثانوية سنة ١٩٣٢ ، والفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف ، للآباء اليسوعيين، في بيروت ، مدة سبع سنوات ، وقد نال ، في ٢٥ شباط ١٩٤٢ ، شهادة الدكتوراه في اللاهوت عن إطروحته :
«الروح القدس حسب تعليم القديس باسيليوس»
عُيّن مديرا للطلاب في مدرسة الصابغ (١٩٣٩-١٩٤٠) ثم رئيسا للمدرسة (١٩٤٠-١٩٤٦)، شغل مهمة معلم الفلسفة في الكلية الشرقية وفيما فيها (١٩٤٦)، ورئيسا بالوكالة لدير مار الياس الطوق في أثناء تغيب رئيسه الأب ديمتري حاطوم في أميركا، وتسلم رئاسة الدير المذكور (١٩٤٩-١٩٤٧)
انتخب رئيسا عاما في ١٥ كانون الأول ١٩٤٨، فرقاه البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ إلى رتبة «الأرشمندريت» الكبير للكرسي الأنطاكي ، وأعيد انتخابه رئيسًا عاما في ٢٠ أيلول ١٩٥٦ ، سافر إلى أميركا الشمالية والجنوبية في ١٤ تشرين الأول ١٩٥٩ للقيام بالزيارة القانونية لأبناء الرهبانية في المهجر ، وعاد في تموز ١٩٦٠ .
خلال فترة رئاسته العامة حصلت تحولات هامة في الرهبانية :
– فقد انتقلت ، بعد الاستفتاء العام الذي جرى سنة ١٩٥٤، من رهبانية
توحدية إلى منظمة رهبانية .
– تثبيت الفرائض الجديدة ، بنصها الفرنسي ، سنة ١٩٥٧ .
– حصلت الراهبات الباسيليات الشويريات على الاستقلالية الذاتية، عن سلطة الرئيس العام .
– شهدت الرهبانية ازدهارا كبيرا وازداد عدد الدعوات فيها، وتم تأسيس مراكز وإرساليات جديدة في كوردوبا – الأرجنتين، وإربد في الأردن، ومرجعيون وطرابلس في لبنان، وقد اشترى بعض العقارات في تلك الأماكن.
– الاحتفال بيوبيل الشرقية الذهبي في زحلة ، وتجديد الكلية ، وإضافة جناح جديد ، وتشييد ملعب رياضي فيها .
– وضع الحجر الأساس لكنيسة السيدة الكبرى في مدرسة دير الصابغ سنة ١٩٥٢ ، والانتهاء من بنائها .
انتُخب مطرانا على طرابلس في ٧ آذار ١٩٦١، ونال السيامة الأسقفية في ١٨ حزيران، في كاتدرائية مار الياس – بيروت ، بوضع يد البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ والمطرانين فيليبس نبعة (بيروت) وأثناسيوس الشاعر (مرجعيون)
حقق في أبرشية طرابلس إنجازات عمرانية عديدة، منها : الاهتمام بكاتدرائية القديس جاورجيوس، فسوى أرضها بالرخام الأبيض، وحسّن إنارتها، وأقام الإيقونستاز الرخامي وزينه بالإيقونات، وهي من وضع الأخت ميلاني حسواني، الراهبة الباسيلية الشويرية، وفي دار المطرانية جدّد المكتبة فأغناها بالمؤلفات اللاهوتية والفلسفية والطقسية. وبنى مدرسة في منيارة قامت بإدارتها الراهبات الشويريات، وأعاد فتح مدرسة الشيخ محمد بعد أن حسّنها، وعهد بها إلى الراهبات الشويريات أيضا، وبنى مستوصفاً في تلك البلدة؛ ورقم كنيسة عدبل وبنى فيها بيتا للكاهن؛ كما شيّد كنيسة في شدرا على اسم الصليب؛ وأصلح بناء كنيسة عيدمون؛ إضافة إلى ذلك قد قام بشراء ثلاثة عقارات : قطعة أرض في بولفار طرابلس، على المدخل الجنوبي للمدينة، مساحتها حوالي ستة آلاف متر مربع؛ قطعة أرض في منيارة مساحتها أربعة آلاف واربعاية متر مربع؛ قطعة أرض في دوما مساحتها خمسماية متر مربع ، بغية بناء دار صيفية للمطرانية. ونقل إلى كرسي زحلة في ٢٥ آب سنة ١٩٧٧.
شارك في أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) وعينه البابا بولس السادس في إحدى اللجان المجمعية ، انتخبه سينودس الكنيسة الملكية رئيسا للجنة السينودسية اللاهوتية ، وعيّن ، من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ، مشرفا على كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس في الكسليك. وفي زحلة أنشأ مجلسا لأساقفة المدينة، بدعم من المطران الأرثوذكسي سبيريدون خوري ، والمطران الماروني جورج إسكندر.
رقد ، برائحة القداسة، على إثر مرض عضال، يوم خميس الأسرار، في ٣١ آذار ١٩٨٣ ، ودفن تحت المائدة الكبرى في كاتدرائية سيدة النجاة بزحلة ، بعد أن أقيم له مأتم مهيب وحاشد ، لم تشهد له المدينة مثيلا من قبل.
إضافة إلى تقواه وغيرته وتجرده ، غرف المطران فرح بحضوره المحبب وقربه من الناس، کا بعلمه الغزير وفن الخطابة اللذين اشتهر بها.
وكان له دور هام خلال الأحداث التي عصفت بزحلة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وارتبط اسمه بصمودها، واعتبر كبير شهدائها.
جبرائيل ابي شديد (1890-1955)
هو الياس بن خطار أبي شديد، ماروني، من مواليد بسوس سنة ١٨٩٠ . لبس ثوب الابتداء بتاريخ الأول من تشرين الأول سنة 1905 وأبرز نذوره المؤبدة في ٢٨ أيار سنة 1908 رسم شتاشا إنجيليا، في دير الصابغ ، بتاريخ 3 تموز سنة ١٩١٢ ، بوضع يد المطران فلابيانوس كفوري ، متروبوليت حمص ، ثم كاهنًا في ٢٠ تموز سنة ١٩١٦ قضى السنوات الأولى من حيث مارس التعليم والترتيل وإرشاد الأخويات. خدمته الكهنوتية في يبرود، وفي مدينة زحلة.
وقضى القسم الأكبر من حياته في خدمة النفوس في أبرشية بيروت . فقد عيّن لخدمة الرعية في زوق مكايل سنة ١٩٢٢، ثم قضى نحوا من عشرة أعوام خادما لرعية الخنشارة (١٩٢٢-١٩٢٦، ١٩٢٩ – ١٩٣٥) ، وكاهنا، لرعية السيدة في بتغرين (۱۹۲۷-۱۹۲۸)، وبعدها في الشوير سنة ١٩٢٩، وتم تعيينه كاهنا لرعية سيدة المعونات في بولونيا (١٩٣٥-١٩٣٦)، ثمّ انتقل إلى خدمة رعية المخلص في بيروت وبقي فيها حوالي ثماني عشرة سنة حتى سنة 1955 تاريخ وفاته في 7 آذار ، على إثر نشاف في عروق القلب، وشلل قاسى منه شهورا عديدة ، ودفن في دير القديس باسيليوس الكبير في خلال شهر آب ۱۹۲۲ تبرع بعشرين ليرة سورية لطرش وتزيين كنيسة القديس نيقولاوس وبيت المائدة في دير الصابغ.
وفي العام ١٩٣٤ قدم كراسي الخورض لكنيسة القديس نيقولاوس. كان رجلا بارا صالحا قديسًا ، اشتهر بصلاحه ومحبته للصلاة” . کا اشتهر بطيبة قلبه ومحبته للسلام، وبصوته الرخيم وعلمه الواسع في الموسيقى الكنسية، وله فيها مؤلفات لا يزال أغلبها مخطوطا ومحفوظا ، مع مكتبته الموسيقية الهامة ، في المكتبة العامة بدير الصابغ .
يوسف إيليان (1839-1914)
هو الياس بن يوسف توما إيليان ، من مواليد زحلة العام ١٨٣٩ ، لبس ثوب الابتداء في ٢٠ كانون الأول سنة ١٨٧٩ ، ودعي ثاوفانوس. أبرز نذوره في ۲۳ نیسان سنة ١٨٨١، ودعي الياس، ارتسم شتاسًا ، في دير الصابغ ، عن يد كير ملاتيوس فكاك ، في ٢٢ آب سنة ١٨٨٢ ، ثم قشا، عن يد السيد المذكور ، في دير مار سمعان ، في أول أيلول سنة ١٨٨٢ ، وسُمّي يوسف.
توفي، في دير زحلة، بمرض ضيق الصدر، وذلك في ١٥ حزيران سنة ١٩١٤ ، وكان مشهورا بتقواه وصلاحه وغيرته وتجرّده.
لقد توارث الرهبان تقليدا شفويا يخبر عن قداسة سيرة هذا الطيب الذكر ،وكثيرا ما كان الآباء الشيوخ يتحدثون عن فضائله ، كمضرب مثل ، ولما كان الأب بطرس الكفوري ، أحد تلاميذ الأب يوسف ، قد دون حياته ، كشاهد عيان ، في كتابه : «الغرر الدرية في تاريخ الأسرة الكفورية» ، في الصفحات ١٢١-١٢٦ ، رأينا أن ننقلها ، حرفيا ، من أجل التبرك والمنفعة الروحية.
أولا – إن هذا الأب البار الخوري يوسف إيليان مع شقيقه الخوري بولص إيليان هما من أفاضل الكهنة وأجلهم فضيلة وغيرة رسولية. فالخوري بولص كان من الإكليروس الأسقفي الزحلاوي مشهودا له بالوعظ والإرشاد . والغيرة على خلاص الأنفس ومن مشاهير الكهنة. لأنه كان يقضي الليالي بزيارة المرضى واستماع اعترافاتهم ومناولتهم القربان المقدس أيام البرد والثلج والحر على السواء.
ثانيا – أما الخوري يوسف فكان من أفضل الرهبان . اعتنق الدعوة الرهبانية في دير مار يوحنا سنة 1875. وقضى حياته بالصلاح حتى إنه قبل أن يدخل الرهبانية . كان عند الآباء اليسوعيين مستلها أشغالهم الخارجية في زحلة. ومنذ صغره كان متصفا بصفات الزهد والتجرد التام. وعندما كان في بيت أهله. كان له غرفة خصوصية فلا يدخلها أحد . واضعا فيها الكتب الروحية بأنواعها. كالكتاب المقدس. وأخبار القديسين واستعداد الموت .وكتاب الإقتداء بالمسيح. وكتاب زيارة القربان. وكتاب قوت
النفس. وغيرها من الكتب الروحية. وفي عام ١٨٧٥ في عهد رئاسة الأب العام الخوري فلابيانوس دخل الرهبانية ولبس الثوب الرهباني وبما أنه كان متقدما بالعمر ومشهودا له بالفضيلة والصفات الحميدة ابتدأ سنة واحدة ودرس العلوم اللاهوتية اللازمة وسيم شتاسًا إنجيليا، ثم قسّا. وتعين مرشدا ومعرفا لتلاميذ المدرسة الرهبانية . ثم تعين وكيلا على أملاك دير مار يوحنا . وفي تلك السنة وزع على الشركاء صورة قلبَيّ يسوع ومريم. لأجل التبرك بالعبادة التقوية. وبحسن نواياه الصالحة. قد أقبل موسم (الشرانق) (الفيالج) وزاد ألف وخمسماية إقة عن الموسم الذي قبله . حتى تعجب الرهبان والشركاء من ذلك الإقبال العظيم . ومنذ ذلك الوقت قد ازداد شيوعا خبر فضيلته . ولما انتقلت المدرسة من دير الصابغ إلى القرقفي . . . ذهب هو أيضا مع باقي التلاميذ . وفيما بعد لأجل حفظ ميزانية دير مار الياس الطوق بزحلة. بالرغم من إرادته تعين بأمر الطاعة وكيلًا على أملاك الدير المذكور ، وقضى كل أيام حياته فيه وهو بالقرب من أهله. ويوميا كان يذهب لإقامة القداس في دير الآباء اليسوعيين ولم يدخل بيت أحد. لا من أهله ولا من أقربائه . ولا خلافهم على الإطلاق . وقضى حياته البارّة في عمل الفضيلة الخالية من كل رياء . وكل يوم أربعاء وجمعة لا يأكل حلوا. ولا فاكهة أبدا. وفي أكثر الأيام . كان يصوم إلى نصف النهار . ومنامته على طراحة يقعد عليها في النهار وينام عليها في الليل بالجهد في الايام الباردة جدا يتغطى باللحاف . أما ملبوسه فكان صاية من الخام المصبوغ. لا يستعمل فرشة خصوصية للنوم . غطاءه عباءته . أو شرشف قديم . والبياض من الخام أيضا . وعنده بدل واحد لا غير . وعندما يمرض لا يستعمل العقاقير الطبية إلا وقت الضرورة القصوى . وأغلب أوقاته يقضيها إما بزيارة القربان المقدس أو التأملات العقلية أو الصلوات اللفظية ، وساعات عديدة يبقى راكعا ومخطوفا بالروح إلى العالم الأعلى وأمامه الصليب المقدس.
ثالثا – مرة لما زار الرئيس العام الخوري يوسف الكفوري دير زحلة فالشيخ الجليل الطيب الذكر المرحوم أنطون البريدي المشهور بالفضل والمعروف ، أقام وليمة لحضرة الأب العام المذكور ولباقي الآباء وترجاه بأن يأخذ بمعيته الخوري يوسف إيليان . وعند وقت الذهاب قال له الرئيس العام، فاعتذر ولم يذهب ولما وصل الأب إلى بيت العازم الشيخ المذكور ولم يكن المترجم معه ترجي الأب العام أن يأمره بالطاعة لكي يحضر. فمراعاةً لخاطره أرسل له الأمر فحضر حالًا ولكن بعد أن دخل إلى تلك الدار العامرة استقبلوه بكل احترام واعتبار وبفرح وابتهاج عظيمين . وقد شمل السرور جميع أهل البيت كبارا وصغارا وتقدموا للتبرك من يديه . وأما هو فإنه بعد أن وصل واستراح قليلا تشكر من ذلك الشيخ والذات الكريمة ودعى له بالتوفيق وحفظ عائلته . ثم قال للرئيس العام . ها إنني تممت أمر الطاعة وحضرت فأرجوك الآن أن تسمح لي بالذهاب إلى الدير .
فأجابه الأب العام : اذهب بسلام والرب الإله يكون معك . فالحاضرون جميعا بصوت واحد هتفوا: تبارك الله الذي يعطي مثل هذه المواهب السامية للانتصار على الأميال البشرية . وقد يطول بنا الشرح إذا أردنا أن ندوّن كل أعماله ومحامده وصفاته الحسنة التي كان متصفا بها ولكننا نروي بعضا منها على سبيل الفائدة:
1 – كان مرة مناظرا على الفعلة في مزرعة القطين خاصة الدير حيث كانوا يقطعون الحجارة لبناء النزل الكبير (أوتيل قادري) فمر صدقة من فوق المقلع قطيع من الماعز وتدحرج عليه حجر فكسر يده . فقام ورجع إلى الدير واستدعى الطبيب المجبّر لعلاجها فأخرج له بعض عظام مكسّرة دون أن يظهر عليه أو يبدو منه أقل تذمر أو انزعاج .
فإذ ذاك قصد الأب الرئيس أن يقيم دعوى على راعي الماعز . فقال له المترجم لا يا أبانا أشكر الله الذي ما أصاب الحجر أحد أولئك الفعلة الفقراء الذي كان تعطل عن العمل ولكني أنا لا أعمل شيئا والله سمح بذلك كي يمتحن صبري .
٢ – في آخر حياته بقي أشد حنانًا على الفقراء . أكثر مما كان عليه قبلًا . وعيّن يوما خصوصيا ما عدا الأيام الأخرى كي يوزع الحسنات بسخاء على الفقراء . وما كان يرد أحدا دون نوال مرغوبه . فالبعض من الرهبان قد ثقل عليهم هذا العمل فعملوا مؤتمرا واتفقوا أن يمنعوه عن عمله هذا رغم أنهم كانوا كلهم يجلونه ويحترمونه (لكن روح السوء لا يحب عمل الخير) وحضر الواحد منهم بعد الآخر إلى غرفة المترجم . حيث كان حاضرا كاتب هذا الخبر صدفة . وعندما اكتمل عدد المؤتمرين طلب أحدهم الذي كان متقدما فيها بينهم أن ينظر في دفتر الدير. لأجل أن يطلع على بعض قيود فيه وبعد المطالعة حضر الباقون . فسأله أحدهم قائلا: نحن نشاهد أكثر الفقراء آتين من جهات متعددة والبعض ذاهبون وغيرهم آتون ونحن علينا ديون يجب أن نوفيها . فأجابه المترجم بكل رباطة جأش وكلام عذب : نعم إنني أعلم ذلك وهذا الأمر غير خاف علي ولكن من الذي قال لكم أنني أعطي الفقراء من مال الدير .
وأشار بيده إلى أحد المتقدمين الموجودين قائلا له : أما أنت الذي الحسابات والقيود كلها بيدك؟ فأجابه نعم . فسأله إذ ذاك أحدهم من أين إذا تعطي الفقراء ونحن فقراء . حينئذ جلس وأجابهم بكلام لطيف رقيق للغاية : أنا كل أيام حياتي وكل قداساتي مقيدة أمامكم وما صرفت منها بارة واحدة ولكن بما أنه قد طلب مني بعض المحسنين أن أوزع هذه الحسنات على الفقراء حسب نيتهم فلا يمكن أن أغير قصدهم . حينئذ ذهب كل واحد إلى موضعه بسلام .
وأخيرا في آخر حياته المملوءة بالإماتات والتقشفات وأعمال البر والصلاح وقد أنهكه الهرم ولم يعد بإمكانه أن ينزل إلى كنيسة الدير لإقامة الذبيحة الإلهية فاستأذن من الرئيس العام عمل (كابلة) بالقرب من غرفته حيث يوجد فيها نافذة تشرف على كنيسة الدير المصمود فيها القربان المقدس وزيّن ذلك المعبد الصغير أجمل زينة وكرسه على اسم قلب يسوع الأقدس .
وكان يقضي أكثر أوقاته راكعا هناك . ومتأملا في قلب يسوع المصور أمامه الملتهب حبا بالبشر . ويبقى مخطوفا بالروح ساعات عديدة . وكاتب هذه الحوادث كان واقفا ومشاهدا لها بذاته . وقبل وفاة المترجم بأربع سنوات كان مساعدا له على إتمام الذبيحة الإلهية يوميا في المعبد المذكور . وأخيرا في ٢٤ حزيران سنة ١٩١٤ (۱) قد انتقل من هذه الأرض الفانية إلى الديار الباقية . إلى الأخدار السماوية ليأخذ إكليل المجد المعد للأبرار والمجاهدين وله من العمر ٧٨ سنة . وأكثر آباء الرهبانية واقفون على كل أعماله وكان من الواجب أن يحافظوا على جثمانه مثل كنز ثمين ويبذلوا جهدهم في إثبات برارته . ولو كان بإمكاني لحفظت رفاته في صندوق خصوصي ولكن اليد قصيرة . والسبب الذي من أجله أردت تسطير حياة هذا الأب البار في هذا التاريخ هو أنه كان من أصدق وأخلص المحبين إلى جميع أفراد أسرة بني الكفوري وإلي بنوع خاص لأنه كان الواسطة لانتظامي في سلك الرهبانية وكان لي أبا روحيًا وله على أفضال كثيرة رحمه الله وجعل الجنة مثواه ومنحنا بركته الأبوية ].
رومانس لوقا (1774-1804)
هو يني بن حنا لوقا ، كلداني ، من مواليد بغداد سنة ١٨٠٤ ، لبس ثوب الابتداء في ١٨ كانون الأول سنة ١٨٣٠ . أبرز نذوره سنة ١٨٣٢ ، تكرس شمّاسا في ٢٥ كانون الأول ١٨٣٦، ثم قسًّا. على أثر ذلك ، أرسلته السلطة إلى بغداد، على طلب من والديه ، لكي يبحث عن أخ له فقد ذات يوم، وانقطعت أخباره. في 17 أيلول 1838 ، قلده البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم الولاية على الروم الملكيين في تلك البلاد، وبينما هو يخدم الرعية بكل غيرة، ويواصل البحث، من حين إلى آخر، عن أخيه المفقود، إذا به ذات يوم يستلم كتابا من صديق في كلكوتا ، يخبره فيه أن أخاه حي يرزق في المدينة المذكورة، وهو يتاجر ويعيش بخير. بشر والديه بالخبر السعيد. ثم استأذن الرؤساء وسافر إلى الهند، في أواخر سنة ١٨٤٨، برفقة ولدين لقنصل فرنسا ، متوجهين إلى كلكوتا ، فقضى معها ثلاثة أشهر سفر ، ذاق في خلالها الأمرّين. وصل، أخيرا، إلى المدينة المذكورة، حيث نزل ضيفا على السيد فتح الله الأصفر الحلبي ، أحد أفراد الجالية المتاجرة فيها ، وكان شديد التعلق بطقسه وطائفته، فأسكن الأب لوقا معه في قصره، وشيّد له فيه معبدا خاصا ، متكفلًا بالقيام بجميع أكلاف معيشته، وقد بقي الأب نزيل السيد الأصفر إلى حين وفاته سنة ١٨٥٢ . في هذه الأثناء، عرف أسقف اللاتين فضيلة وغيرة هذا الراهب النادرتين، فكلفه مساعدة المرسلين بخدمة النفوس مهتها، خصوصا، بالجالية الحلبية، فقام بالمهمة على أكمل وجه ، وقد أفادها كثيرا بغيرته ومثله الصالح .
ومما هو جدير بالذكر أنه لما كان القس رومانس في كلكوتا، طلب إليه مطران المدينة أن يذهب إلى إحدى المستشفيات ، حيث يوجد مريض مدنف من أبناء العرب ، ليسمع اعترافه ويعطيه الزاد الأخير المقدس ، فما كان منه إلّا أن لبّى الطلب ، وذهب حالا إلى حيث المدنف، ولما دنا منه سأله اسمه وكنيته ومسقط رأسه وإذا هو أخوه، ولكنه لم يبد أدنى حركة إلى أن سمع اعترافه وزوده بالقربان المقدس وأعطاه المسحة الأخيرة، ثم تقدّم وعرّفه بذاته، وتعانقا معانقة اللقاء ومعانقة الوداع ، وهكذا لفظ المدنف نفسه الأخير بين يدي أخيه بعد مرور عشرات السنين على فراقها.
إن مطران اللاتين احتفظ بهذا الأب الصالح، بموافقة رؤسائه، الذين تركوه يتابع عمله الرسولي الخير في الهند ، مدة طويلة جمع خلالها استحقاقات جمة وإحسانات كثيرة، عدد بعضها سجل الرهبانية، منها إرساله لها ستة صناديق نيل سنة ١٨٤٢ ، حينها بلغه ما أصاب دير القرقفي من الأضرار ، إبان ثورة سنة ١٨٤١ ، وهذا النيل ، عند وصوله إلى بيروت ، وضع ثمنه في بناء الكاتدرائية ، بطلب من المطران أغابيوس الرياشي، ومنها قيمة ألف ليرة إنكليزية أنفق منها ، على إنشاء عقارات للرهبانية في مصر ، قيمة ٣٥ ألف غرش ، ومنها بدلات هندية وأواني قداس ومباخر وسطل ومرشة، وبعض فضيات ، وزع منها على ديري كفرشيها وزحلة ، والباقي لدير الصابغ.
وبعد رجوعه إلى لبنان، بعد غيابه الطويل، عينته السلطة رئيسا كفرشيما (١٨٦٢ – ۱۸۷۱) ، فكان مثال الرئيس المتواضع الخدوم المتزهد. وكان الرؤساء قد سمحوا له أن يحتفظ بصليب ذهبي حاو على ذخيرة مقدسة، فدفعته محبته للفقراء وتجرده الرهباني إلى أن يبيع ذلك الصليب، جاعلًا الذخيرة في صليب بسيط ، ويطعم بثمنه الفقراء .
أما وفاته فكانت في دير القرقفي ، في ٢٩ كانون الثاني سنة ١٨٧٤.
كان ذا سيرة حسنة كهنوتية موسومة بسمة القداسة، وحياة رهبانية فاضلة ، حتى إن كل من عرفه كان ينظر إليه نظره إلى أحد القديسين ، وقيل إن نورا عجيبا انبعث من قبره، وماء عجيبا تقطر منه مدة عدة أيام بعد وفاته، وتأكد، أيضا، بعد أن فتح الكومنتير ، مرارا ، أن جسده غير بال ، فأصبح ذلك القبر مزارا يقصده كل ذي مرض وعلة.
جرجس عيسى (1827 + 1875)
هو إيلياس بن إبراهيم بن الياس عيسى السكاف ، من مواليد المعلَّقة – زحلة العام 1827 ، لبس ثوب الابتداء في الثاني من تشرين الثاني 1845 ، ودُعي جرجس . أبرز نذوره في السادس من تمّوز 1947 .
ارتسم شمّاسًا إنجيليًّا ، في 7 كانون الثاني 1857 ، عن يد المطران أغابيوس الرياشي ، متروبوليت بيروت ، في كنيسة النبي الياس الكاتدرائيّة ، وكاهنًا ، بتاريخ 30 آذار 1858 ، عن يد المطران المذكور ، ثمّ خوريًّا ، في 14 تشرين 1859 ، عن يد سيادة المذكور .
انتُخب مدبّرًا رابعًا (1859 - 1962) ، اشتهر بمعارفه وتقواه ، فنُصّب قاضيًا للنصارى ، بزمن الأمير بشير الأحمد اللمعي ، نحو سنة 1859 ، وقام بمهمّته إلى أن شُكّلت المتصرفيّة الجديدة ، وأُلغيت قائميّة المقام في 17 تشرين الثاني سنة 1860 .
سافر إلى أوربة ، بإذن الرؤساء ، في 18 حزيران 1860 ، فوصل إلى باريس ومنها سافر إلى إيرلندا ، فصرف هنالك بعض سنوات يجمع الإحسان ، ثمّ عاد إلى بيروت في 31 أيلول 1865 ، وشرع ببناء المدرسة البطريركيّة ، حسب رغبة البطريرك غريغوريوس يوسف ، وكان يناظر بناءها وأكمل تجهيزها ، ولم تكن سنة 1866 حتّى فتحت أبوابها للطلبة ، وكان أوّل رؤسائها وقد وضع لها رسومًا وقوانين ، وأسّس فيها أخوية القربان المقدّس للطلبة . وتقديرًا لجهوده وخدمته الوطنيّة ، كافأه البطريرك فمنحه رتبة أرشمندريت الكرسي الأنطاكي ، وكرّسه بهذه الرتبة في كنيسة المدرسة ذاتها ، بتاريخ الأوّل من شباط 1866 ، وكذلك منحته الدولة العثمانيّة ، بواسطة وزيرها راشد باشا ، والي سورية الأسبق ، الوسام المجيدي الخامس .
بَيد أنه ، بعد مرور بضع سنين ، ونظرًا للأتعاب التي عانى منها ، طلب إعفاءه وعاد إلى دير الصابغ ، حيث انقطع لتعليم الرهبان وعمل الرياضات الروحيّة في القرى ، لا سيّما أيام الصوم الأربعيني .
ولمّا كانت سنة 1870 دعاه المطران أغابيوس الرياشي إليه وسمّاه وكيله العام في بيروت ، فاستلم مهام الوكالة في 15 شباط ، وشرع في تجديد المدارس وتولّى التدريس وأكبّ على الوعظ والإرشاد ، وأسّس أوّل أخوية للبتول ، للرجال والنساء ، في 15 آب 1870 ، وقد ثبّتها المطران في 25 آذار 1871 ، وقد انتُخب مدبّرًا ثالثًا (1874 - 1875) .
وهكذا صرف حياته بجهاد وغيرة حتّى ذاع شهرة في مدينة بيروت وغيرها ، وكان تقيًّا جدًّا ومثالًا للطهارة .
أمّا آخر أعماله الرعوية فكان أنه بقي في بيروت ، لمّا انتشر وباء الهواء الأصفر ، وقد نزح معظم سكّانها وأكثر الكهنة . فكان يطوف المدينة حاملًا أدوية وقوتًا ليوزّعها على الفقراء والمصابين ومعها الزاد الإلهي مخفّفًا أوجاعهم بالتعزيات الروحيّة ومساعدًا إيّاهم على الميتة الصالحة ، وكان يهتّم بتجهيز ونقل الموتى ، وعندما لا يوجد من يدفنهم ، كان هو ذاته يحملهم على كتفه ويواريهم في مثواهم الأخير ، الأمر الذي أدهش حتّى غير المسيحيّين .
وبقي على ذلك أشهرًا حتّى أنه ، بعد زيارته لأحد المصابين ، أحسّ بدنّو أجله . وممّا يُروى عنه أنه مرّ في طريقه على نجّار من المسلمين وأوصاه على تابوت مدّعيًا أنه لأحد المرضى ، قائلًا له : إن المريض مثلي تمامًا ، فأخذ قياسه ، وما إن وصل إلى الدار الأسقفيّة حتّى اشتدّ عليه الداء ، فقضى نحبه في مساء يوم السبت الواقع في 8 آب سنة 1875 ، فذهب الخادم إلى النجّار المجاور للدار الأسقفيّة وأوصاه على تابوت ، فقال له : إنه جاهز ، فأين الكاهن ليأخذه ، فقال له : إنه تُوفّي ، فتعجّب وبقي يروي ذلك لكثيرين .
كان مشهورًا بتقواه وتعبّده للأم البتول ، خطيبًا بليغًا ، محبًّا للفقراء والمرضى ، غيورًا على الخدمة الروحيّة ، وقد ترك للرهبانيّة والفقراء مالًا ، كما ورد في سجل الرهبانيّة ، واقتنى مكتبة تنيف على مائتي مجلّد ، وكان فقيهًا بارعًا ، متقنًا العربيّة ، عارفًا بالإنكليزيّة والفرنسيّة ، شاعرًا مجيدًا ، وكان مصابًا بالجدري ، في وجهه أثر ندوب منها ، وقد أشاد به الشعراء الكبار أمثال سليم بك تقلا والشيخ خليل اليازجي ، وقد وَرَدَ تقريظه في قصيدة بعنوان : «نَفير الوطنيّة» ، جاء فيها :
أليس جرجس عيسى كاهنًا ورعًا
قد طاف أوربة حشدًا لدينارِ
والبطركيّة بيت العلم شيّده
في ثغر بيروت مشهورٌ بآثارِ
وأنشأ الأخويّات التي اشتهرت
كلجنة البِرّ فيها نَيل أوطارِ
تلقّى العلوم ومبادئ العربيّة على بعض الآباء ، اتّصل بالعلّامة الشيخ ناصيف اليازجي ودرس عليه العلوم العربيّة بفروعها فأتقنها ، ثمّ الفقه الشريف على العلّامة الشيخ يوسف الأسير ، فتضلّع به . مال إلى نظم الشعر فأحرز منه نصيبًا وافرًا .
الشهيد الأب يوسف سماحة الخنشاري (†1920):
هو الياس بن يوسف غصوب سماحة، من مواليد الخنشارة العام 1886، لبس ثوب الابتداء في أول حزيران سنة 1902، ودُعي صفرونيوس، أبرز نذوره في العاشر من حزيران سنة 1904، تكرّس شمّاسًا إنجيليًّا في 25 آذار سنة 1911، وقسًّا، عن يد كير فلابيانوس (الثاني) كفوري، مطران حمص وحماه ويبرود، في 24 نيسان سنة 1911، ودعُي يوسف.
قضى معظم خدمته في يبرود (القلمون – سوريّة)، وكان في الفاكهة – بعلبك (1916-1917).
يبدو أنه كان يقرض الشعر ويُجيد الكتابة، ونثره له مسحة من الشفافيّة والرومانطيقيّة( ).
إضافة إلى ذلك، فقد كان شديد الغيرة على أبناء الرعية، مواظبًا على التعليم وتربية الناشئة، ومندفعًا في التبشير والوعظ، الأمر الذي لم يَرُق في أعين بعض السكّان من المسلمين المتعصّبين. فبادرت جماعةٌ منهم إلى اغتياله، وكان ذلك في أول حزيران سنة 1920.
عن طريقة هذه الوفاة، يُخبر “سجل أسماء الرهبان وابتدائهم ونذورهم”، رقم 1، بأن: ] كانت وفاته اغتيالًا، عن يد الأشقياء، رميًا بالرصاص، أثناء رجوعه إلى يبرود[( ).
وقد ورد في “سجل كتاب تاريخ الرهبنة وغيره”، في باب “علم أسماء الرهبان المتوفّين”، بأنه: ] توفّي الخوري يوسف سماحة، قتلًا، على طريق النبك، من يد الأشقياء، بالغًا من العمر الخامسة والثلاثين[ ( ).
البث المباشر |
1688980276677_1688980276678 (2)
|