في نهاية القرن 17 نشأت في كنيسة الروم الأنطاكية حركة ناشطة لإعادة الوحدة مع روما، ظهرت بوادرها في دير سيدة البلمند في أوساط بعض الإكليريكيين الوافدين من حلب وذلك بدعم من المرسلين الكاثوليك وبخاصة الآباء اليسوعيين. عندما أدرك بعض الحلبيين صعوبة عيش قناعاتهم الكاثوليكية في البلمند، تركوه وأتوا لبنان حيث إشترى الخوري سليمان والخوري جرجس، سنة 1710، ديرا صغيرا على إسم القديس يوحنا الصابغ، يقع في خراج قرية الشوير. كان الدير يتألف من كنيسة وثلاث قلالي ويعيش فيه كاهن متقدم في السن بدعى الخوري صوايا(1).
تم توسيع الدير ابتداء من 1717 مع تزايد عدد الوافدين للترهب حيث انعقد أول مجمع ووضعت قوانين الرهبانية سنة 1720، وعرفت بالرهبانية الباسيلية الشويرية نسبة إلى مكان تأسيسها. سنة 1722 زار الدير البطريرك أثناسيوس الدباس الذي ثبت قوانين الرهبانية(2).
نشأت في الدير منذ تأسيس الرهبانية نواة مكتبة ضمت بعض الكتب والمخطوطات الطقسية واللاهوتية وغيرها، أحضر الرهبان بعضها معهم من دير البلمند قبل انتقالهم إلى دير مار يوحنا، وأضيفت إليها المكتبة الخاصة بالمقدسي نقولا الصائغ، التي اشتراها من حلب سنة 1716 قبل دخوله الرهبانية الشويرية، وهي تضم حوالي الأربعين مخطوطة تتوزع مواضيعها
حول: اللغة العربية والأدب، لاهوت، ليتورجيا، روحانيات، إسلاميات، علم المنطق، علم الفلك ومتنوعات(3).
يظهر دفتر حسابات الرهبانية أن أسعار المخطوطات التي اشتراها المقدسي نقولا الصائغ تراوحت بين غرش واحد و 15 غرشا، وذلك حسب أهمية الموضوع، وحجم المخطوطة، والخطاط الذي نسخها.
لاحقا قام الرهبان الشويريون بشراء مخطوطات وكتب أغنوا بها المكتبة كما قام بعضهم بنسخ مخطوطات موجودة في مكتبة الدير أو خارجه، وبخاصة المخطوطات الدينية.
زار الرحالة الفرنسي ثولناي (Volney) دير مار يوحنا سنة 1784 ومكث فيه حوالي ثمانية أشهر (من آذار حتى تشرين الأول)، وكان قد زار معالم عديدة في بلاد الشام، فقال عن مكتبة الدير أنها، مع مكتبة أحمد باشا الجزار في عكا، الوحيدتان الجديرتان بالذكر في المنطقة. ولكن من المعروف أن دير المخلص في جون كان يضم آنذاك مكتبة غنية بالمخطوطات نهبها عسكر الجزار سنة 1777 وشكلت جزءا مهما من المكتبة التي أنشأها الجزار في عكا. أما نوع المخطوطات، فقد أشار قولناي إلى غنى مكتبة دير مار يوحنا بالمخطوطات الدينية المسيحية إلى جانب المخطوطات الإسلامية وتلك العائدة إلى قواعد اللغة العربية وآدابها.
تطور عدد المخطوطات في مكتبة دير مار يوحنا الخنشارة منذ تأسيس المكتبة في بداية القرن 18 وتزايد بالشراء وبالهبات، أو بتأليف ونسخ من قبل الرهبان الشويريين. إضافة إلى النواة الأولى التي تكونت من المخطوطات التي جلبها معهم الرهبان المؤسسون أو اشتراها الخوري نقولا الصائغ، أوقف الشماس عبدالله الزاخر مكتبته الخاصة إلى دير مار يوحنا قبل وفاته ببضعة أشهر سنة 1748.
الجدير ذكره أن دور عبدالله الزاخر كان فاعلا في تنمية مكتبة دير مار يوحنا، إلى جانب المخطوطات التي أهداها للدير وبعضها من تأليفه أو من نسخه، فقد أوصى أيضا بمجموعة الكتب الصادرة عن مطبعته والتي لا تقل أهمية لكونها أولى الكتب المطبوعة بالحرف العربي في لبنان. أما مؤلفاته المخطوطة فجلها ديني الطابع وهي تزيد عن الأربعين، أقدمها يعود إلى سنة 1714 وهو يضم ثلاثة أفاشين توسلات إلى الثالوث الأقدس قبل تناول القربان، وإفشين شكر إلى السيد المسيح بعد التناول. أما آخر تأليفه فمؤلفان كتبهما سنة وفاته 1748،
الأول: كتاب جدلي “ضد الروم” حول منع الإشتراك في القدسيات، وهو مسودة جواب لأبناء الرعية الملكيين الكاثوليك في الشوير المحتجين على منعهم الإشتراك في الجنازات مع إخوتهم الروم. وقد وضع الزاخر هذه المسودة لصالح مطران بيروت الملكي أثناسيوس دهان (1736-1761). والثاني لم يتمكن الزاخر من إنجازه كاملاً قبل وفاته، وعنوانه: “شرح الأصول المنطقية على الرسالة الأبهرية”، وهو كتاب يشرح فيه إيساغوجي “أثير الدين الأبهري”. ولكن وافاه الأجل في 30 أب 1748 قبل إتمامه، فأكمله من بعده تلميذه الأب يواكيم مطران.
إن إنشاء عبدالله الزاخر مطبعته في دير الخنشارة ساعد الرهبان على إغناء مكتبتهم بالمخطوطات، وذلك من ربع الكتب المطبوعة التي كان يتم تسويتها في لبنان وخارجه. تدل دفاتر حسابات الرهبانية الشويرية أن الرهبانية كانت تؤمن للزاخر كل ما يحتاجه من مواد أولية للطباعة: ورق، كرتون، جلد، حبر، مقابل تقاسم مداخيل بيع الكتب. وتشير هذه الدفاتر أنه كان للرهبانية وكلاء تجاريون في الشام وحلب وحمص وعكا ويافا ومصر، كانوا يبيعون كتب المطبعة في هذه المراكز ويشترون بالمقابل مخطوطات لمكتبة دير مار يوحنا، وبخاصة من مصر، كما ذكر الرحالة ثولناي على لسان الرهبان أنفسهم. والمخطوطات التي اشتراها الرهبان من مصر يدور معظمها حول الإسلاميات وعلم الفلك والأدب.
إلى جانب مصدر الشراء، اغتنت المكتبة بالمخطوطات التي كان يملكها بعض الرهبان الشويريين الذين برعوا في ميدان التأليف واقتنوا المخطوطات الثمينة فأهدوا مكتبتهم الخاصة لدير مار يوحنا. أمثال يواكيم مطران، حنانيا المنير وفيليبس صوايا. كما أن المكتبة اغتنت بما وهبها من مخطوطات وكتب بعض المطارنة الذين كانوا قبل رسامتهم ينتمون إلى الرهبانية الشويرية.
تلقت المكتبة أيضا هبات من بعض العلمانيين وأبرزهم: السيد جبران نحاس الذي أهدى مكتبته الثمينة إلى دير مار يوحنا في أواخر القرن التاسع عشر. والمعروف أن هذه المكتبة كانت تحوي بعض المخطوطات والكتب التي كانت تخص الشيخ ناصيف اليازجي الذي أقام في دير القديس أنطونيوس القرقفة كفرشيما، التابع للرهبانية الشويرية وعلم في مدرسته.
عندما تفرعت الرهبانية الشويرية إلى فرعين حلبي وشويري، سنة 1829، جرى تقاسم الأديار والأرزاق بين الرهبان الحلبيين والشويريين. إحتفظ الرهبان الشويريون بدير مار يوحنا الخنشارة وبمطبعة عبدالله الزاخر الموجودة فيه. لكن لم تسلم من القسمة مكتبة الدير إذ كان من نصيب الرهبان الحلبيين عددا من المخطوطات المهمة بعضها نادر الوجود، نقلوها معهم إلى مكتبة دير الشير الذي أصبح مقر رئاستهم العامة، قد تم نقلها مؤخرا إلى دير المخلص (صربا). وقد أشار إلى ذلك المطران ميشال أبرص في مقالته عن مكتبة دير الشير فقال: “تعتبر مكتبة الشير حتى أيامنا هذه جزءا من مكتبة الرهبانية الشويرية الموجودة حاليا في مكتبة القديس يوحنا الصابغ “.
أول من أشار إلى محفوظات مكتبة دير مار يوحنا في القرن الثامن عشر هو الرحالة فولناي الذي أورد أنها كانت تضم سنة 1784، 15 مخطوطة و13 كتابا مطبوعا، لكن هذا العدد غير دقيق ولا يتطابق مع الواقع إذ أن سجلات الدير تشير إلى أن مكتبة نقولا الصائغ لوحدها التي جلبها معه سنة 1716 من حلب إلى دير الخنشارة كانت تضم حوالي الأربعين مخطوطة.
وقد أشار الأب جوزيف نصر الله إلى عدم دقة الرقم الذي أورده فولناي مبررا ذلك بكرهه للدين وميوله العلمانية التي برزت في أوروبا مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية(11). وما يجعلنا نرجح ذلك هو ما كتبه ثولناي نفسه عن المخطوطات ذات المواضيع الدينية في مكتبة دير مار يوحنا: “إنها كتب دينية خاصة بالمسيحيين، ومن شأنها أن تروج للأفكار الكارهة للمجتمع البشري ولكل العلوم، حتى تلك الكارهة للحياة.
من المعروف أن مكتبة دير مار يوحنا، قبل تقاسمها بين الرهبان الحلبيين والشويريين سنة 1829، كانت تحوي مخطوطات مهمة متنوعة المواضيع، أبرزها المواضيع الدينية في اللاهوت النظري والأدبي والروحيات والليتورجيا والموسيقى البيزنطية وسير القديسين،
بالإضافة إلى مواضيع أخرى كعلم الطب والجدل والمنطق والفلك، وقواعد اللغة والبيان والأدب والتاريخ، إلى جانب مخطوطات دينية إسلامية. بعض هذه المخطوطات كان يرقى إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر: مخطوطة بستان الرهبان، من سنة 1258 م.، وكتاب في الطب للشيخ إبراهيم بن علي بن محمد البصري، تم نسخه في 13 صفر 659 هـ. (1262). وموجز في الطب (مختصر قانون ابن سينا) تم نسخه في شوال 701 هـ. (1302 م.)، كتاب كليلة ودمنة، تم نسخه سنة 739 هـ. (1339 م.)، التحفة الوردية في علم العربية لعمر إبن الوردي، سنة 742 هـ. (1344 م.)، مقامات الحريري، سنة 759 هـ. (1358 م.).
في فهرس مكتبات الشرقين الأدنى والأوسط الذي أصدره يوسف داغر سنة 1951 أحصى في مكتبة دير مار يوحنا الشوير 500 مخطوطة(14). أما الأب جوزيف نصر الله الذي أصدر فهرسا لهذه المكتبة سنة 1961 فلم يصنف فيه إلا 216 مخطوطة لها علاقة بتاريخ الكنيسة الملكية بينما أهمل المخطوطات الأخرى، لذلك لا يمكن الاعتماد على ما نشره لمعرفة
محفوظات المكتبة من المخطوطات كاملة. فهرس يوسف داغر في منتصف القرن الماضي 500 مخطوطة في مكتبة دير مار يوحنا بينما لم يورد الأب نصر الله في الفهرس الذي وضعه عشر
سنوات بعد صدور فهرس داغر إلا أقل من نصف ما فهرسه داغر (216 من أصل 500 مخطوطة).
إعادة ترتيب المخطوطات ووضع فهرسا جديدا لها، وكان قد صنف فيه حتى وفاته سنة 1985 حوالي 700 مخطوط.
بعد وفاة الأب نقولا القادري تسلم الأرشمندريت بولس نزها المسؤولية عن المكتبة وكان لا يزال شماسا مساعدا للأب القادري، ولا تزال مكتبة المخطوطات بعهدته حتى اليوم. ساهم
الأرشمندريت نزها في تنمية مكتبة دير مار يوحنا وصيانة مخطوطاتها والإشراف على تصويرها منعا من الضياع والتلف.
كان الرئيس العام الأسبق للرهبانية الأرشمندريت أثناسيوس الحاج قد بدأ بجمع المخطوطات المتواجدة في مختلف الأديار والرعايا التابعة للرهبانية وذلك منذ خمسينات القرن الماضي. وقد تابع الأرشمندريت بولس نزها ما بدأه أسلافه وذلك قبل انتخابه رئيسا عاما في بداية القرن الحالي، عمل منذ توليه مهام المكتبة في 1985 على تجميع ما بقي من مخطوطات في أديار الرهبانية والقناطيش والكنائس التابعة لها، وبالشراء من مصادر أخرى حتى أصبح عدد المخطوطات المحفوظة اليوم في مكتبة دير مار يوحنا يزيد عن 1000 مخطوطة.
من أقدم المخطوطات المحفوظة في المكتبة، مخطوطة إسلامية تعود إلى بداية القرن الثالث عشر: “كتاب تلخيص الأدلة في أصول الدين وتوحيد رب العالمين” لأبو إسحق إبراهيم بن
إسحق العقاد البخاري، سنة 592 هـ. (1214 م.).
من أهم النساخ في أواخر القرن السابع عشر ميخائيل اللباد الحموي الذي أورث صناعة الخط إلى إبنه جبرائيل اللباد في بداية القرن الثامن عشر. ذاع صيت هذا الأخير لروعة خطه،
وكان من سكان حلب ومن أشهر خطاطي القرن الثامن عشر فاستعان به عبدالله الزاخر ليرسم الأحرف العربية قبل تقديمها للصب في مطبعته. وقد طارت شهرة جبرائيل بن ميخائيل اللباد
حتى أصبح خطه مضرب مثل فيقال: “خط لبادي”.
تتلمذ العديد من النساخ على أيدي ميخائيل اللباد وابنه، فبين مخطوطات مكتبة دير مار يوحنا بعضها يذكر أنها منسوخة بيد رزق الله تلميذ جبرائيل اللباد الكاتب.
اشتهر أيضا بالنسخ العديد من الرهبان الشويريين ومن أبرزهم في أواخر القرن الثامن عشر الخوري أرسانيوس كرامه المتوفي سنة 1795(16)، وفي القرن التاسع عشر الأب العام ديمتري جامد.
تم حتى الآن صيانة وترميم قسم كبير من المخطوطات التي يجري تعقيمها بشكل متواصل. كان مقر المكتبة في معهد مار يوحنا المجاور للدير، وقد تم نقلها إلى دير مار يوحنا في ستينات القرن الماضي في عهد الرئيس العام أثناسيوس الحاج.
يعمل حاليا حافظ المكتبة الأرشمندريت بولس نزها على تحضير مقر خاص في الدير، مجهز بتقنيات حديثة، وعلى وضع فهرس جديد يشمل أرقام المخطوطات المفهرسة قبلا وتلك التي لم تتم فهرستها حتى الآن.
البث المباشر |
1688980276677_1688980276678 (2)
|