الآباء الشويريّون الذين رقدوا برائحة القداسة

المطران ناوفيطوس نصري

من كبار أحبار كنيستنا

المتوفى برائحة القداسة برومة بتاريخ 24/2/1731

الأرشمندريت إغناطيوس ديك

(حلب)

توفي في رومة حيث لجأ هربًا من الاضطهاد الذي لحق به، وتهافت المؤمنون للتبرّك منه بعد أن رشح جسمه عرقًا وأجريت شفاءات بملامسته. ودفن في معبد مجمع ٱنتشار الإيمان، وكتب على ضريحه «المكرّم».

مضى على وفاته ٢٨٠ عامًا ولفّ ذكرَه النسيانُ مع أنّه من كبار رجالات كنيستنا ويمثّل الأصالة الملكيّة، إذ ترهّب في دير البلمند ورسمه أسقفًا البطريرك أثناسيوس دباس قبل الانقسام، وهو الذي ٱستُدعي ليرسم كيرلّس طاناس بطريركًا بعد أن ٱنتخبه إكليروس وشعب دمشق، وكان مثالًا للراعي الصالح في أبرشيّته صيدنايا، وقاسى الكثير ليبقى أمينًا لما ٱعتبرَه واجبَ ضمير، لما خُيّر بين الشركة مع الكرسي الرومانيّ والشركة مع البطريرك سلفستروس المعترَف به من قِبل البطاركة الأرثوذكس، وكان بودّه أن يحافظ على الشركتَين كما في عهد سلفه أثناسيوس. وهو يستحقُّ أن تُعلن رسميًّا قداسته.

ورد ذكرُه عدّة مرّات في تاريخ الرهبانيّة الشويريّة المخطوط، وهناك عدّة وثائق تتعلّق به في محفوظات الڤاتيكان (مجمع ٱنتشار الإيمان)، وتحدّث عنه العلّامة يوسف السمعاني الذي عرفه في رومة. لٰكنّ المصدر الأهمّ لمعرفة سيرة حياته هو المذكّراتُ التي كتبها تلميذُه ومرافقُه طيلة حياته الأسقفيّة الأب إغناطيوس قندلفت، وهي محفوظةٌ في مخطوط وُجد في مكتبة المعهد المارونيّ برومة برقم ٣٢١، وهي بلهجة حلب العاميّة. مطلعها :

«نبتدي في كتابة حياة سيّدنا كير ناوفيطوس مطران صيدنايا المطوّب الذكر من مدينة حلب. هذا الرجل من شبوبيّته صار راهبًا في دير البلمند قبل ان يبلغ من العمر عشرين سنة».

وهٰذه خاتمتها: «أنا الحقير القس إغناطيوس ابن الشماس نعمه مدبر الحلبيّ تلميذ سيدنا المطران كير ناوفيطوس مطران صيدنايا المطوّب الذكر، أشهد بذلك لأنّي من يوم الذي ارتسم مطران ما فارقته حتى إلى اليوم الذي تنيّح فيه. وهذا الشيء صار قدامي وقشعته بعيني ولمسته بيدي، ويسوع يشهد بذلك أنّي ما نقلت شيئًا زايد بل كثيرًا أشياء صغار ما كتبتها لأجل الطوله. تمّ بعون الله تعالى. آمين».

والمخطوط يشتمل على 19 صفحة، وتاريخ تأليفه عام 1741. وقد نشر عام 1905 في مجموعة الأب رباط : «وثائق تتعلق بتاريخ المسيحية في الشرق». أما المؤلّف إغناطيوس قندلفت فقد رسمه المطران ناوفيطوس نصري شمّاسًا ليكون في معيّته وخدمته وذٰلك قبل أن يتوجّه إلى صيدنايا بعد رسامته الأسقفيّة في حلب. وقد بقي في رومة بعد وفاة المطران ناوفيطوس وٱرتسم كاهنًا في هٰذه الفترة. وٱضطرّ إلى مغادرة رومة عام 1749 إذ قطعت عنه الإمدادات فذهب إلى مصر وتوفي هناك.

عام ۱۹۱۲، وضع نبذة عن حياة ناوفيطوس نصري، مطران بيروت باسيليوس قطان (1921-1933) يوم كان وكيلًا للرهبانيّة الشويريّة في رومة في الفترة الممتدة من ١٩١٠ إلى ١٩٢١، وٱستند إلى السيرة التي وضعها الأب إغناطيوس قندلفت ونشرها بالإيطالية في مجلة الدراسات الشرقيّة، بساريون. وعمد الأبوان بولس نزها، الراهب الباسيليّ الشويريّ، ومكاريوس جبّور، العام ۲۰۰۱، فنقلاها إلى العربيّة وأعدّا لها حواشي وملحقاتٍ وفهارس.

وها نحن نقدّم لقرّاء «المسرّة» ملخّصًا عن هٰذه السيرة المليئة بالعبَر واضعين إيّاها في إطارها التاريخيّ.

نشأته

وُلد عام ١٦٧٠ في حلب وهو معاصر تمامًا لجرمانوس فرحات (١٦٧٠-۱۷۳۲)، وكانت حلب تنعم بنهضة ثقافيّة وروحيّة غذّاها المرسلون الغربيون وساندها الأساقفة المحليّون، والـكـهـنـة خـرّيـجـو المدارس الرومانيّة (مخايل بجع ، بطرس التولاوي ١٦٥٧-١٧٤٥).

ولما شب نصرالله (هٰذا ٱسمه قبل أسقفيّته)، كان قد ٱستقرّ في حلب ، عام ١٦٨٥، البطريرك أثناسيوس دباس وبطرس التولاوي. وكان معظم الملكيّين اعتنقوا المبادئَ الكاثوليكيّة، أي أقرّوا أن الغربيّين اللاتين ليسوا على ضلال، ولم يكن يعني ذٰلك ٱنفصالهم عن كنيستهم بل ظلّوا يمارسون شعائرهم الدينيّة فيها مع تردّدهم إلى كنائس اللاتين وسماع المواعظ فيها. وتاق العديدُ من الشبان إلى حياة الكمال المسيحيّ وٱعتنقوا الحياة الرهبانية. في الوقت الذي أوفد فيه جبرايل (جرمانوس) فرحات المارونيّ، رفاقه الثلاثة إلى لبنان لتأسيس حياة رهبانيّة نظاميّة، وٱلتحق بهم، توجّه العديدُ من الملكيّين الحلبيّين إلى دير البلمند قرب طرابلس الذي عادت الحياة الرهبانيّة إليه مطلع القرن السابع عشر، ومن بينهم نصرالله، وذٰلك أواخرَ الثمانينات. وكان الحلبيّون يشكّلون مجموعةً متميّزةً ولهم جناحٌ خاصٌّ عُرف برواق الحلبيّين. وكان للأب فرسو اليسوعيّ المقيمُ في طرابلس ٱتصالاتٌ مع الرهبان.

ولم يرُق النظامُ القائمُ في الدير لعدد من الرهبان الحلبيّين، فتاقوا إلى حياة أفضل وتجلّت هٰذه النزعة منذ عام ١٦٩٧. وعام ١٧٠٤ كتب خمسة من الرهبان من بينهم نصرالله (علاوة على جرجس الذي أصبح مطران حلب، ومكاريوس الذي أصبح مطران بعلبك) إلى رومة طالبين أن يُعَدَّ لهم دير هناك لممارسة حياة رهبانيّة أفضل. ولما لم يصل ردٌّ إيجابيّ، تمّ تأسيس دير مار يوحنّا الشوير عام ١٧١٠ بمباركة البطريرك كيرلّس الخامس زعيم. ولم يتمكّن نصرالله من الٱلتحاق بالدير الجديد لأنّ البطريرك كان أرسله إلى ديار بكر. إلّا أنّه ظلّ في مشاركة روحيّة وأخويّة مع الرهبانيّة الجديدة ويُعتبر كأحد أبنائها.

رسالة ديار بكر

عام ۱۷۰٨، طلب البطريرك كيرلس من الخوري نصرالله التوجّه إلى ديار بكر، حيث كانت مجموعة من الملكيّين على رأسها المطران برثانيوس. والطائفة الكبرى هي الكلدانيّة وكان على رأسها إذ ذاك في ديار بكر البطريرك يوسف الثالث، وعمل الخوري نصر الله هناك ١٤ سنة بنشاط وٱكتسب قلوب الجميع. وتمكّن من إقناع مطران الروم برثانيوس ليوقّع على دستور الإيمان الكاثوليكيّ وإرساله إلى روما. وهو محفوظٌ في وثائق المجمع، يُرى بآخره توقيعُ المطران «الحقير في رؤساء الكهنة برثانيوس مطران الروم في آمد» وتحته ختمه بالعربيّة واليونانيّة، وبجانبه شهادة مار يوسف بطريرك الكلدان وشهادة الراهب الكبُّوشيّ جوان باطيستا، ويليها أخيرًا شهادة الخوري نصرالله كتب فيها :

«أنا الحقير الخوري نصرالله من رهبان الروم التابع لكنيسة مار بطرس أشهد بذلك». وتحتها ختمه القديم «نصرالله خوري بالمندي».

وٱنتشر الإيمان الكاثوليكي في ديار بكر بفضله كما يشهد شماسه وأمين سرّه:

«فلما وصل إلى ديار بكر قشع الرعيّة كلّهم معاندين، فبدأ يبشّر بالإيمان المقدّس فـيـهـم. بـفـضـل يسـوع انتشـر الإيمان المقدّس في ذلك البلاد لمّا قشعوا سيرته الصالحة طاعوا إلى تعليمه».

على رأس أبرشية صيدنايا

بعد أربعة عشر عامًا من إقامته في ديار بكر عرض عليه بطريرك الكلدان يوسف الثالث  الذهابَ إلى رومة في مهمّة من قِبَله حاملًا بعض الرسائل الرسميّة، فقبل الخوري نصرالله إذ كان يتوق لزيارة رومة. وفي طريقه مرّ على حلب وقابل البطريرك أثناسيوس دباس. وقال له البطريرك:

«مريم العدرى جابتك إلى حلب لأنّي محتاج إليك كثيرًا إذ أتاني في هذا اليوم مكتوب من صيدنايا وأخبروني أن مطرانهم مات. وحطو على ذمتي حتّى أختار لهم مطران يكون واحد قاتوليقيّ وهم راضيين فيه، وأنا اخترتك أنت لتكون مطرانًا عليهم».

فتمنع لأنه كان راغبًا في التوجّه إلى رومه. إلّا أن البطريرك أصرّ ورسمه بعد ثمانية أيام مطرانًا على صيدنايا وسمّاه ناوفيطوس. وكان سلفه جراسيموس الدمشقيّ أقرّ بالإيمان الكاثوليكيّ مع البطريرك كيرلّس زعيم عام ١٧١٧، وطالب سكّان صيدنايا أن يكون مطرانهم الجديد كاثوليكيًّا. ولم يكن هٰذا يتعارض مع الأرثوذكسيّة قبل أن تشنّ القسطنطينية حملتها العنيفة على الكاثوليك.

«بعد كم يوم أمره البطريرك أثناسيوس بالعجل يروح إلى كرسيه. بقا بدو شماس فلحّ علي كثيرًا وأنا من محبّته ما خالفته لأنّي رأيت سيرته الصالحة. رحت معه إلى صيدنايا وفي يوم عيد العدرا الذي نصف آب رسمني شماس إنجيلي وادخرني له ابنًا».

وكان ذٰلك على الأرجح عام ١٧٢٢.

وسكن ناوفيطوس في صيدنايا مع شماسه إغناطيوس في بيت خارج دير السيّدة خلافًا لمن سبقه من أساقفة الكرسي. وٱقتصرت سلطته على الدير في الشؤون النظاميّة والإدارية. يقول كاتب السيرة:

«أوّلاً قشع أن في دير الراهبات واحد وستين راهبة وهم بغير قانون وفالتات على روسهم والدير فالت. فبدا يصلح أمور الدير وعمل لهم قانون وترتيب. وكلّهم على مايده واحده ياكلو والقراية على المائدة. ولا وحدة تقتني شيئًا، وسكّر أبواب الدير. وضع حرم على الرجال أنّهم لا يدخلوا إلى عند الراهبات، والراهبات لا يخالطوا الرجال ولا الرهبان. وعمّر ديـر آخر تحت إلى الرهبان. وجمع ما يحتاجون الراهبات إليه، أوقف ناس يقدّموا لهم حوايجهم وصار نظام في الغاية بنعمة يسوع».

ويورد صاحب السيرة عدّة حوادث تظهر تقوى المطران وقوة صلاته التي أجرت المعجزات. ولمّا كان البطريرك يستأثر بواردات الدير وأرزاقه، ولم يكن مدخول بلدة صيدنايا كافيًا، فوّض البطريرك المطران ناوفيطوس بالٱهتمام بأبرشية معلولا وأخذ نوريتها. وكان الخوري جبرائيل فينان التابع لدير المخلص ينشط في بلدة المعرة المجاورة لصيدنايا. ولما لقي هٰذا مضايقات من البطريرك أثناسيوس الذي لم يكن راضيًا عن المطران أفتيميوس صيفي وتلاميذه، استأذن بالمغادرة ومنحه المطران ناوفيطوس شهادة تزكية.

نشاطه في إطار الكرسي الأنطاكي

توفي أفتيميوس صيفي مطران صور وصيدا في ٢٧ تشرين الثاني ١٧٢٣، وٱنتخب لخلافته الراهب المخلصيّ إغناطيوس البيروتي، فأرسل البطريرك أثناسيوس الدباس منشورًا إلى ناوفيطوس نعمه الحلبيّ مطران بيروت، وناوفيطوس نصري أسقف صيدنايا يسألهما الصلاة على المطران الجديد، إذ كان هو طريح الفراش. وكان وقتئذٍ ناوفيطوس نصري متجوّلًا في رأس بعلبك يجمع فيها بعض الصدقات لأبرشيّته. فٱنطلق إلى حلب حيث تم الاحتفال في كنيسة السيدة. ويُستدلُّ من منشور آخرَ أرسله البطريرك أن ناوفيطوس بيروت وناوفيطوس صيدنايا عمدا أولًا إلى رسامة مكاريوس الباياسي اسقفًا على بعلبك، ثم ٱحتفل الثلاثة بإقامة مطران صور وصيدا. وفي سجلات الرهبانيّة الشويريّة أن ناوفيطوس نصري ٱشترك أيضًا في رسامة إغناطيوس ٱبن الخوري سليمان الحلبي أسقفًا على حمص. وجرت هٰذه الرسامات عام ١٧٢٤.

بعد هٰذه الٱحتفالات ٱستدعى البطريرك اثناسيوس ناوفيطوس نصري وسائر أحبار الكنيسة الأنطاكية وعقدوا لديه في حلب مجمعًا أثبتوا فيه ٱختصار صوم الرسل القديسين والاقتصار منه على ٱثني عشر يومًا، وتم ذٰلك بعد ٱستشارة بطاركة القسطنطينيّة والإسكندريّة وأورشليم. وصدر عقب المجمع منشورٌ بٱسم البطريرك أثناسيوس ممهورًا بتواقيع كل من أساقفة صيدنايا وصور وصيدا وبعلبك وحلب وحمص وبيروت وعكا واللاذقية وباياس. نستدلّ من كل هٰذا أنّ المطران ناوفيطوس نصري كانت له مكانته بين أساقفة الكرسيّ الأنطاكيّ ولم يحُل دون ذٰلك موقفُه من روما وإرسالُه إلى الكرسيّ الرومانيّ بُعيد رسامته الأسقفيّة، صورة إيمانه الكاثوليكيّ.

المطران ناوفيطوس نصري يرسم البطريرك كيرلس طاناس

تُوفي البطريرك أثناسيوس دباس في ٢٤ تموز ١٧٢٤ وٱنقسم الملكيّون بشأن خلافته كما حدث كثيرًا في تاريخ الملكيّين المعاصر، إلّا أنّ هٰذا الٱنقسام أخذ، هٰذه المرة ، طابعا مذهبيًّا إذ قضى على التعايش الذي كان قائمًا بين الكاثوليك والمتشدّدين في البطريركيّة الأنطاكيّة الواحدة.

كان أثناسيوس دباس، بعد أن استقرّ وحدَه في البطريركية عام ١٧٢٠ إثرَ وفاة البطريرك كيرلّس زعيم، عملًا بالٱتفاق الذي جرى بينهما، قد آثر البقاءَ في حلب ولم يستقرَّ في دمشق مركز الكرسيّ الأنطاكيّ منذ القرن الرابع عشر. وٱمتعض لكون الحلبيّين طلبوا أن يُقيم لهم مطرانًا أصيلًا، فأقرّ بذٰلك على مضض ورسم لهم عام ۱۷۲۱ المطران جراسيموس سمان أحد مؤسّسي الرهبانيّة الشويريّة، ثمّ عمل على إبعاده. ولمّا طلب الحلبيّون بإرجاعه، إشترط عليهم أن يرشّحوا لخلافته تلميذه سلفستروس. وإثـر وفـاتـه قـدّمـوا عـريـضـة مطالبين بسلفستروس، دعمها الكرسيّ القسطنطينيّ فرُسم بطريركًا في القسطنطينيّة في ٢٧ أيلول ١٧٢٤ وٱعترفت به السلطة العثمانيّة.

أما ملكيّو دمشق الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أصحابَ الشأن في ٱنتخاب راعيهم فٱختاروا سيرافيم كيرلّس طاناس. ووقّع العريضة كهنة الأبرشيّة الدمشقيّة الثلاثون وثلاثمئة من الوجهاء . وكانوا يستندون إلى دعم عثمان باشا والي دمشق، إلّا أنّه ما عتّم أن عُزل.

وبعد الانتخاب جرت المفاوضة بين المنتخبين مع بعض مطارنة الأبرشيّة الأنطاكيّة بشأن رسامة الأب المنتخب لأنه كان كاهنًا بسيطًا. إلّا أن أساقفة بيروت وصور وصيدا وبعلبك تلكأوا عن المجيء لأسباب عديدة وبخاصة تخوّفًا من البطاركة اليونان. وأسرع ناوفيطوس أسقف صيدنايا بالحضور وٱلتحق به المطران باسيليوس فينان الذي كان مقيمًا في دير المخلّص. ورأى الأسقفان من الصواب أن يستعينا بثالث لتصحّ الصلاة على البطريرك، فوقع الاختيار على راهب مخلّصيّ من بيت «الفاضل» من معلولا، فرسماه على كرسيّ الفرزل ودُعي أفتيميوس. وٱحتفل الثلاثة برسامة كيرلّس طاناس وتنصيبه في ٢٠ أيلول ١٧٢٤ في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. وكان الراسم الأوّل المطران ناوفيطوس نصري .

كان ٱنتخاب كيرلس طاناس قانونيًّا من الوجهة الكنسيّة. أما السلطة العثمانيّة فلم تكن تعترف إلّا بمن يوافق عليه البطريرك القسطنطينيّ الذي جعلته مهيمنًا على كلّ الأرثوذكس في السلطنة العثمانية.

كان كلٌّ من البطريركين قد ٱنتُخب من قبل الكاثوليك والأرثوذكس. والأغلبيّة العظمى من الملكيّين في حلب من الكاثوليك، وقد صوّتوا لسلفستروس. إلّا أنّهم لما رشق زعماءّهم بالحرم وفرض عليهم إدانة المبادئ الكاثوليكيّة، تخلَّوا عن سلفستروس، وكثيرون من الذين ٱنتَخبوا كيرلّس تخلَّوا عنه لأنه لم يحظَ بالتأييد الرسميّ وٱضطرّ إلى الهرب من دمشق.

الأسقف الطريد

لمّا تثبّتت البطريركيّة لسلفستروس، ٱجتمع مع البطريركَين القسطنطينيّ والأورشليميّ وأحدَ عشرَ أسقفًا يونانيًّا وأصدروا منشورًا نادَوا به بالحرم واللعنات على كلّ من يقوم بالدعوة الكاثوليكية ، وفي مقدمتهم ناوفيطوس مطران صيدنايا.

إضافة إلى هٰذا الحرم، ٱستخرج سلفستروس أمرًا سلطانيًّا بنفي ناوفيطوس وحصل على إذن بتوقيفه. ودَريَ بالأمر المرسلون وطلبوا إليه أن يهرب في الحال لأنّه في اليوم التالي سيأتي من يقبض عليه، وذٰلك قبيل عيد الغطاس ١٧٢٥. ويقول مؤرّخ المطران ناوفيطوس:

«في الحال طلعنا إلى الدير وعملنا باركليسيّ إلى مريم العدري وطلبنا منها أن لا تسلّمنا في أيدي أعداء الإيمان. وعند المساء رحت أنا وحدي إلى الدير ودخلت إلى عند راهبة عجوز اسمها حنّة من حلب. قلت لها في لنا مكان حتّى نتخبا فيه وما أحد يعرف فينا؟ قالت لي: ولأيّ سبب؟ قلت لها الأمر كله. قالت هذا أمر صعب قوي لأن العسكر يفتش في كلّ مكان. قلت لها: كيف العمل؟ قالت: في عندي قنّ الجاج ما في أحسن منه لأن ما حدا يفتّش القن. اسمع مني، نصف الليل تعال إلى الدير ودق الباب دقة واحدة وأنا أنتظركم وأفتح لكم وتدخلوا وما حدا يعرف فيكم. فأخبرت المطران بذلك. قال: قوي مليح. نصف الليل رحنا ودخلنا إلى قن الجاج بالغصب حتى وسعنا. فضلّينا ثلاثة عشر يومًا. ثاني يوم الذي دخلنا إلى القن وصلوا الأعداء وفتشوا علينا بكلّ جهدهم، ما قشعوا أحدًا ولا أحد أخبرهم عنّا لأنّ ما مع حدا خبر فين نحن غير الله وحنّة الراهبة. بعد عشرة أيّام وهم يفتّشوا علينا ما قشعوا أحدًا، كسروا باب بيتنا ونهبوا جميع الموجودات في البيت وخرجوا من البلد. بعدما سافروا إلى الشام، أجت حنّة الراهبة وأخبرتنا عن جميع الأحوال. المساء خرجنا من القن الذي نحن فيه، رحنا إلى البيت ما وجدنا فيه شيء. قال المطران: «الرب أعطانا والرب أخذ، يكون اسمه مباركًا» .

وبعد النجاة من هٰذا الخطر، ذهب المطران وشمّاسُه فورًا إلى جبل لبنان. إلّا أنّ الوشاة تكلّموا، فأرسل باشا دمشق جنودَه إلى جبل لبنان كي يمسكوهما، ففرَّا من قرية إلى أخرى. ويتدخل رئيس الفرنسيسكان بدمشق لدى الباشا إسماعيل باشا العظم، فسمح لناوفيطوس بالعودة إلى أبرشيته وكان ذٰلك أواخر عام ١٧٢٧. وكتب إلى المجمع المقدّس في رومة ليثبّتوا ٱنتخاب كيرلّس طاناس ويسعَوا لإعادته إلى كرسيّه.

إلّا أن وكيل البطريرك سلفستروس في دمشق لاونديوس، لمّا فشل في تأليب باشا دمشق ضدّ ناوفيطوس، أوعز إلى سلفستروس أن يستعين بالبطريرك القسطنطينيّ ليستحصل من السلطان على أمرٍ بالقبض على ناوفيطوس وقطع رأسه. وصدر الأمر بذٰلك. وأُعلم ناوفيطوس بما دبّر له، فهرب مجدّدًا إلى لبنان. وٱستقرّ في دير مار الياس بجوار رشميا (قرب عين تراز). وكتب مجدّدًا إلى رومة لتعترف بالبطريرك كيرلّس. وكانت رومة متردّدة. أخيرًا أقرّت رومة الٱعتراف بكيرلّس طاناس بطريركًا أنطاكيًّا عام ١٧٢٩. وفي ٢٥ نيسان 1730، تمّ رسميًّا تنصيبه في المخلّص بحضور الموفد البابويّ والمطران ناوفيطوس نصري وباسيليوس فينان، بعد أن أقسم بعدم المساس دیر بالطقوس الشرقيّة.

ولمّا رأى البطريرك سلفستروس أنّ الأساليب القمعيّة لم تنل من عزيمة المطران ناوفيطوس، قرّر تحرير رسالة إغراء إلى الأسقف طالبًا منه ٱعتناق الأرثوذكسيّة، وجاء فيها :

«ما ترحم حالك وأنت قاعد في الجبال مثل الوحوش، عدّي عن كفرك وتوب وأنا أغفر لك».

وجاء جواب المطران :

«أنا راضي في الجبال أخيَر من أن أنكر إيماني وأروح إلى الجحيم».

وبعد شهر عاد سلفستروس إلى محاولته مُقسمًا ومؤكّدًا أنّه لن يمسّه بأذى. ومع خَتم البطريرك وقّع وختَم أعيانٌ من طرابلس، أضافوا :

«نحن كفلا البطرك لا تخافوا يضركم بل تكونوا طائعين له، وتقروا صورة الاعتقاد وتحرموا البابا ولا تعودوا تكرزوا باسمه، لأنكم ما تحـسنوا تخلصوا من يد البطرك، فين ما رحتوا يحصلكم. وإن كان ما تطيعوا ما في غير القتل وقطع الراس قدامكم».

فأجاب المطران ناوفيطوس:

«أن له ستين سنة من العمر وهو يخدم هذا الإيمان المقدّس الكاثوليكيّ، فغير ممكن أن ينكره. وهو راضي بالعيش بالقلة في الجبال وهو لا يخشى الموت، والبابا وكيل الله على الأرض وخليفة مار بطرس هامة الرسل وعلى البطريرك أن يكف عن اضطهاد الكنيسة ويخضع لرأسها الحبر الأعظم. إذ ذاك حالاً أجي وأقبّل أقدامك وأكون طايعًا. وإن كان ما تعمل هذا، أنا ما أعرفك بطرك وأنت في حالك وأنا في حالي».

اللجوء إلى رومة

ولما أدرك المطران ناوفيطوس أنّه لم يعد هناك مجالٌ لعودته إلى أبرشيّته وأصبحت حياته في خطر، قرّر الهرب واللجوء إلى رومة، ففاتح اليسوعيّين بذٰلك، فٱتّصلوا بالقنصل الفرنسيّ في صيدا وترجّوه أن يركب المطران ناوفيطوس وأمين سرّه في مركب فرنسيّ كان مزمعًا أن يُبحر إلى مرسيليا. وٱغتنم القنصل فرصة غياب الوالي العثمانيّ عن المدينة، فٱستدعاهما سرًّا إلى صيدا وأركبهما السفينة وأوعز إلى القبطان أن يسافر فورًا قبل عودة الوالي.

أثناء الطريق توقف المركب في قبرس. وٱقترب ستة رجال بقارب من المركب وصعدوا على متنه وقالوا للأسقف:

«أنزلوا معنا إلى قبرص حتّى تباركوا علينا».

فأجابهم الأسقف بعدم ٱستطاعته. وألحّوا عليه أكثر من ساعتين بدون جدوى. وبعد مغادرتهم أُوعز إليهما من قنصل فرنسا في قبرص بألّا ينزلا إلى الأرض لأنّ الباشا وجنودَه ينتظرونهما ليُلقوا القبض عليهما. وفي اليوم الثاني حضر لرؤية ناوفيطوس أشخاصٌ آخرون من بينهم وجهاءُ من قبرص وقالوا له:

«إنّنا من قبل مطران قبرص مرسلين إليكم وهو يسلّم عليكم كثيرًا، تفضلوا عنده لأنّه عازمكن عنده».

فأجابهم الأسقف:

«لا نستطيع أن نخرج من المركب لأنّنا لا نعلم أي وقت يسافر».

فأردفوا قائلين:

«المطران ينتظركم وعمل لكم عزومة، عيب نروح وما تروحوا معنا».

وألحّوا عليه طويلًا ثم غادروا يائسين. وما إن ابتعدوا قليلًا عن المركب حتّى رشقوا الأسقف وأمين سرّه بهٰذه التوعدات:

«يا أنجاس يا ملاعين، كنتو تنزلوا معنا وتقشعوا كيف موته تموتوا، يا ملاعين خربتوا البلاد وعملتوا الناس كلّهم إفرنج ونزعتوا الإيمان وهربتوا يا كلاب، إن وقعتوا نفرّجكم».

في الثلاثين من شهر آب سنة 1730، وصل ناوفيطوس ورفيقه إلى رومة ونزلا في دير القدّيس استفانوس عند الإخوة الصغار.

موته

دامت إقامة المطران في رومة أقل من ستة أشهر. فبينما كان متّجهًا لزيارة الآباء اليسوعيّين، تعرّض هو ورفيقه لحادث سیر إذ كان هناك ٱزدحامٌ من العربات بمناسبة ٱستقبال سفير مالطة. فداسته إحدى العربات وكسرت له أضلاعه، بينما كانت إصابة رفيقه أخفّ. ونُقلا إلى مشفى الروح القدس. وهناك طلب المطران أن يمسح بالزيت المقدّس. ثمّ أوصى أمين سرّه أن يدفن في كنيسة ٱنتشار الإيمان وطلب منه أن يتلو قانون يسوع الحلو.

«فحطيت البطرشيل وقريت القانون وهو يقرا معي حتّى خلص، وهو ختم الصلاة. بعده قال: «اعترفنا وأخذنا الزيت المقدّس ما بقا لازمنا شي روح أنت تغدا». ولمّا عاد سأله: «أيش الوقت». قلت له نصف النهار، قال لي: «يا ابني أودعتك في يد يسوع وأنا رايح». فبديت أبكي. قال: «يا ابني لا تبكي صلّي منشاني واعمل قداديس على روحي». ثم قال: «قلبي ونفسي قد ابتهجا بالإله الحي». وأسلم الروح. والريس والكهنة واقفين ينظروا. قالوا: ما له؟ قلت لهم: مات. قالوا: عمال يلقش معك. قلت لهم تعالوا انظروا. تقدموا لعنده وجسّوا جسده لقوه مات. قالوا منحقة مات.

«فتكيناه على القماش وخليناه ساعتين. بعده لبسته البدلة مثل العادة وحطوه في الكنيسة. ضل في الكنيسة نصف يوم السبت ويوم الأحد المسا أخذناه إلى بروبوكندا. ويوم الاثنين عملوا له جنّاز مثل عادة المطارنة وقدّاس ترتيل. بعدما خلصوا القدّاس أجوا الناس حتّى يتباركوا منه كالعادة، لقوه عرقان كثيرًا. قالوا المطران ما مات لأنّه عرقان. قلت لهم: اليوم له ثلاثة أيام ميت. فأجا ريس بروبوكندا أشرف عليه، لقيه عرقان كثيرًا، وجهه ما هو كمتل وجوه الموتا. قال الريس لا أحد يسطعه حتّى أخبر سيّدنا البابا، فراح أخبر قداسته. فأرسل أربعة مطارنة وأربعة حكما حتّى يشرفوا عليه ويقشعوا إن كان هذا الشيء من أمور الطبيعة أو غير طبيعي. فأشرفوا عليه وكلّهم قالوا هذا الشيء فوق الطبيعة. واحد من الحاضرين أخذ شعر من ذقنه وراح له أخ مريض في وجع الصدر له سنتين وثلاث أشهر على الفراش والحكما قالوا له ما بقا له طب. فأعطاه الشعر الذي أخذه وقال له: «اليوم رحت إلى بربوكنده وجدت واحد مطران شرقي مات وأناس عمالين ياخذوا بركته وأنا أخذت شعر من ذقنه». قال المريض: «كيف أعمل فيهن». قال أخوه ما أعرف. أخذهم المريض وأكلهم فلما أكلهم نام حالاً. بعد ربع ساعة قام طيب من غير مرض وأجا وأخبرنا وتبارك منه وحكا لنا عما صار له وأنّه شفي في الحال. فلمّا سمع الناس تهافتوا عليه وأخذوا كل دقنه وشعر رأسه وكلّ حوائجه وخلوه عريان. فلبسناه ثانيًا فأخذوهم أيضًا. فضلّ خمسة أيّام في الكنيسة وهو دائمًا عرقان ووجهه كمثل الحيّ. ولونه ما تغيّر وجميع الذين أخذوا منه نالوا الشفاء… فبعد أرسل سيّدنا البابا أمر أن يأخذوا منه دم حتّى يقشع يخرج منه أم لا. فأجا الحكيم ربط يده وأخذ النسطر وضرب به يده فخرج منه دم أحمر مثل رجل حيّ. فكتب المطارنة والحكماء شهادتهم بذلك. فأمر سيّدنا أن نكتب عليه لوح من رصاص اسمه وكنيته وكرسيه وندفنه. فعملنا كما أمر قدسه. والمسا دفنا جسده المبارك في كنيسة بروبوكندا في أربعا وعشرين من شهر شباط كان ذلك في سنة ١٧٣١».

«وكان هذا الرجل متواضع في الغاية وحليم ويغفر لمن يسيء إليه في الحال وغير حقود وقنوع في المعاش ومتعبّدًا إلى مريم العدري كثيرًا، وكان غير الفرض كلّ يوم يقول الباركليسي إلى مريم العدرى ودائمًا المسبحة في يده. وما كان يفتّش عن أمور العالم وإن أحدا حكا عن أمور العالم كان يهرب. وإن قشعني أنا أتكلم مع أحد من جهة أمور العالم كان يقاصرني عن ذلك ويقول لي: «يا ابني اسمع كلامي، إن أمور العالم لأهل العالم. أهل العالم يفتّشوا على أمورهم والكهنة والرهبان على أمور الروحانيّة لا غير، لأنّنا تركنا العالم، ما لنا حاجة في أموره. بل نفتّش على الذي انتخبنا إليه».

مات ناوفيطوس في عرف القداسة، وكُتب على اللوحة الرصاصيّة على ضريحه «المكرّم». ويقول عنه يوسف السمعاني (1687-1768) الذي عرفه في رومة:

«ناوفيطوس مطران صيدنايا الذي توفي في مدينة رومية العظمى حيث صار مشهدًا للعالم والملائكة والناس (1 كورنتس 9: 4). بالآيات التي ظهرت منه بعد انتقاله».

والأثر الطيّب الذي تركه ناوفيطوس حمل الكاردينال بلوكا ليكتب للخوري نيقولاوس صايغ (١٦٩٢-1756)، أمين عام الرهبانيّة الشويريّة، كي يرسل رهبانًا كهنة من رهبانيّته إلى رومة ووضع تحت تصرّفهم كنيسة النافيشلا.

ونختم مقالنا بخاتمة الأبوين بولس نزها ومكاريوس جبور:

«العبرة الأهمّ التي خطّها لنا صاحب هذا الكتاب ووجدنا فيها مثلاً يحتذى به العلاقة السليمة والرصينة مع الكنيسة الرومانية المقدسة وباقي الكنائس، فهي نهج القداسة وشفافيّة السيرة بحسب وصيّة القدّيس بولس إلى الرسول تيموثاوس: «إحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الحال فينا». إذ بها وحدها ترسم أطر الوحدة ويفرض الاحترام. وإذ ذاك تتحقّق رغبة المخلّص: «هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس فيروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات».

نأمل أن يأتيَ يومٌ نرى فيه ٱسم هٰذا المكرّم مرفوعًا على المذابح ومدرجًا مع أسماء الأبرار والقدّيسين.

 

الخوري نيقولاوس الصائغ 1692 م – 1756 م
المرحلة الأولى: في حلب
نيقولاوس(نقولاوس/نقولا/نيقولا) بن نعمة أو نعمة الله الصائغ . ولد في حلب سنة ١٦٩٢م من أبوين تقيين من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، نشأاه على التقوى والطهارة، والبر والصلاح، والتهذيب والإيمان، فنما فيها ونمت فيه أروع نموّ، وكان متوقد الذهن نبيهًا، فلما أرسلاه إلى أحد المكاتب للتعلم، أظهر من حدّة العقل، وسرعة الفطنة والفهم، والشغف بالتعلم والتثقف، ما جعل أساتذته يتوسّمون فيه الخير ويرون أنه سيصبح من أبرز أعلام وطنه وأعظمهم .
بعد أن أحرز مبادئ العربية، علمه أبوه حرفته : الصياغة. فأتقنها وأخذ يشتغل في ميدانها. ومع أنه برع فيها، إلا أن عقله وقلبه وحواسه ، كانت تزهد عن وهيجها وعن مباهج الدنيا وزخارفها… وتنجذب إلى حياة أرباب الدين والزهاد والنساك… وتحثّه على تقضية أوقات فراغه في: زيارة الكنائس، وإقامة الصلوات، والتردد إلى المقيمين على العبادة، ومكالمة الكهنة…
ولشدة ميلانه إلى العلوم اللسانية والدينية، رغب في التضلّع منها :
– فأخذ الصرف والنحو والبيان والعروض على الشيخ سليمان بن خالد بن عبد القادر الحنفي الحلبي المعروف بالنحوي، العالم الكبير الذي تبحر في علوم الأدب وبرز فيها، واشتهر بها، وغد إمام العلماء الحلبيين في زمانه.
– وأخذ المنطق والفلسفة واللاهوت على أحد أفاضل كهنة الروم الكاثوليك الخوري ميخائيل البجع الحلبي، الذي حصل على شهادة الملفئة من رومة، وبعد عودته إلى وطنه، رقي إلى درجة «الإيكونوموس»، وطفق يهدي ويرشد…
– وتتلمذ كذلك لكاتب أسرار البطريرك اسطفان الدويهي : الخوري بطرس التولاوي الماروني الذي أرسله ذلك البطريرك العظيم إلى المدرسة المارونية بحلب، فحازت بفضله شهرة كبيرة، وقد درس فيها الإيطالية واللاتينية، وتتلمذ له جماعة في العلوم اللاهوتية العالية، ولمهارته وعظمة شأنه نعت بنعوت جليلة منها :
الفيلسوف الكامل – إمام الخطباء – قدوة العلماء – كوكب الشرق .
– ومن الذين تتلمذ لهم أيضا : السيد جرمانوس فرحات، المطران الماروني الشهير الذي كرس حياته لدينه وللناس والفضيلة والعلم والأدب ، وخدمهم بكل إيمان وإخلاص، وأمانة وورع، وذكاء وبراعة. وفي المؤرخين من لا يستبعد أن يكون هو الذي أقنع والديّ نقولا بالموافقة على تركه يلبي نداء ربه وينتظم في السلك الكهنوتي. وقد نشأت صداقة حميمة بينهما أي بين جرمانوس ونقولا، أفاد منها هذا التلميذ الفطن إفادة سامية، إذ رؤى فكره وصقل مدركاته بخلاصتها النقية. ولما علم بموته سنة ١٧٣٢ م، نظم في رثايته قصيدة من ٧٢ بينا صور فيها بإعزاز وتقدير شديدين، علاقته الوطيدة به والوجع الذي زرعه فيه موته، مثنيًا عليه، ممجّدًا صفاته، معتبرا إياه إمامه وذخره بل غناءه ومغنمه. من أبيات هذه المرثاة :
هو اللَّوذَع المفضال من خير مهده ومن حينما نيطت عليه تمائمه
حسام له الحسنى نجاد وجفئه التُّقى وظبـاه البِـرّ والخير قائمـه
حلبت به وسع الإناء معارفا يلازمني جنح الدجى وألازمه
جنيت ثمار الحمد من دوح فضله وزهـر ثـناء عنه شقت كمائمة

نشير هنا إلى أن الأب لويس شيخو اليسوعي الذي قام بالترجمة لهذين العلمين قال : «كانا كالفرقدين في سماء الكنيسة الكاثوليكية بل كشقيقين في خدمتها».

المرحلة الثانية : في لبنان
سنة 1716 م، ترك نقولا، وهو ينوي الترهب ، مسقط رأسه وتوجه إلى لبنان حيث زار أديرة الجبة وكسروان، وقابل الكثير من معارفه وحاورهم، وكان كلامهم يروي نيّته المومأ إليها ويشجعها على الارتكاض فيه وينميها. ولما وصل دير أبناء طائفته بالشوير، أي دير مار يوحنا الصابغ ، وقابل رهبانه – وكان العديد منهم من حلب ، يدركون أنه يتحلى بمزايا رفيعة وأخلاق نبيلة ومواهب جميلة، وأنه يغار على دينه ويؤثر العيش النسكي – رحّبوا به كل الترحيب وأكرموه كل الإكرام، فصمّم على الترهب فيه. كان وصوله إليه على ما جاء في سجل الرهبانية الشويرية «يوم السبت بعد خميس الصعود في شهر أيار سنة 1716 م».
بعد أيام من ذلك، لبس ثوب الابتداء، «وكان مثالاً في التقوى والوداعة والمحافظة على القانون الرهباني»، كما قالت سالكة مسلك الحزم والصدق، الأخت دانيال عون. ولذلك استلب أفئدة الرهبان واستمالها إليه، وكان رئيسهم
لشدة احترامه له وثقته بذكائه ونزاهته وأمانته، يستشيره في الأحكام التي يبثّها ، ويشكر الله على إرساله إلى رهبانيته .
سنة 1719، رقي إلى درجة الكهنوت من يد السيد سلسفتروس الدهان مطران بيروت. وبعد هذه الترقية، راح برزانة ونشاط يتنقل من قرية إلى أخرى : ينصح ويعظ مذكّرًا بالعواقب وبما يصلح السيرة. وقد تمكن من أن يرد إلى الكثلكة عددًا مهمًّا من الناس، وساعد على وجود كهنة في البلدات والقرى المجاورة للشوير.
سنة ١٧٢٠م، صار أول مجمع عام للرهبانية الشويرية في دير مار يوحنا الصابغ، وفيه انتخب رئيس هذا الدير الخوري نيكيفورس كرمه الحلبي رئيسا عامًا – فكان أول رؤسائها – وانتخب الخوري نيقولاوس مدبرا ثانيا. وبعد ذلك طلب الرئيس المذكور إلى نيقولاوس أن يتفقّد أديرة هذه الرهبانية : دير مار أشعيا القريب من برمانا – دير مار الياس بجوار المحيدثة – دير السيدة براس بعليك .ويرتب أمور الرهبان القانونيين فيها، «إذ كانت السيرة الرهبانية تكاد تكون بلا قانون ولا نظام»، على ما أوضح الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، وأضاف «فقام الأب نقولا في زيارته نعم القيام، ورتب كل شيء في مكانه. ونلفت إلى أنّ تلك الرهبانية تعرف «بالحناوية» و«بالشويرية» :
الحناوية، نسبة إلى كنيسة الدير الأولى المشيدة على اسم القديس يوحنا الصابغ (المعمدان).
– الشويرية، نسبة إلى الشوير، وهي قرية من مقاطعة المتن الشمالي قريبة من الخنشارة يقع في خراجها الدير المذكور.
سنة ١٧٢٣ م، تولى الخوري نيقولاوس رئاسة دير مار يوحنا الصابغ ، فعني به كل العناية وحسن أوضاعه المادية والأدبية، وكذلك فعل في دير مار أشعيا لما تولى في السنة التالية رئاسته .
سنة ١٧٢٧ م ، انتخب رئيسا عاما على رهبانيته. وعلى الرغم من أنه كان لا يرغب في الرئاسة ولم يطمع يوما فيها أو يخطط لها، فإنه لم يجد بُدًّا من تقبُّلها .
في المجمع التالي الذي التأم سنة ١٧٢٩ م ، طلب إعفاءه من الرئاسة، فأجاب الرهبان إلى طلبه بعد رفضهم إياه غير مرة، وانتخبوا مكانه الخوري مكسيموس (ميخائيل) حكيم .
سنة ١٧٣٢م، سيم الخوري مكسيموس مطرانا على حلب، فانتخب الرهبان الخوري نيقولاوس ثانية، رئيسًا عاما على الرهبانية. وظلوا يكررون انتخابه إلى آخر حياته، فبقي تاليًا يرئس هذه الرهبانية إلى وفاته، باذلاً في سبيلها، بإيمان
ووفاء، وحب وحماس، كل طاقاته. وجدير بالذكر هنا أنه أجاد القيام عليها ورعايتها والاعتناء بها … ومن الأعلام البارزين الذين أكدوا ذلك : مارون عبود، قال : «ساس الرهبانية أحسن سياسة» – والمطران يوسف الدبس، قال : «أحسن تدبير الرهبانية وزادها نموًّا ونجاحًا».
كانت وفاة صاحب هذه الترجمة – الذي أصبح مجدًا لطائفته ، كما ذكر الأب بطرس روفايل وكلامه يقوم على الصواب ويركب الإنصاف – في دير الملاك ميخائيل بالزوق في 17 كانون الأول سنة 1756 م. وقبيل موته طلب إلى الرهبان الذي اجتمعوا لمجمع عام، إعفاءه من الرئاسة، فلم يقبلوا. قال الأب لويس شيخو :
“لما رآهم لا يصغون إلى توسلاته قال لهم : إن لم تعفوني أنتم فالله نفسه يعفيني .قال ذلك كأنّ الأمر أوحي إليه من قبل الله. وفي غد ذلك النهار، وهو اليوم السابق لحفلة المجمع، حضر تلاوة الفرض وقدم الذبيحة الإلهية، وبعد الشكر صعد إلى غرفته بتمام الصحة ودعا متقدمي الرهبان وأوصاهم وصاياه الأخيرة، كأنه يودعهم الوداع الأخير. وفيما هو يكلمهم، شعر بجسمه بضعف عقبته حمّى شديدة فتقبل الأسرار المقدسة بكل ورع وخشوع ومسح المسحة الأخيرة بيد السيد أثناسيوس دهان مطران بيروت. وكان الرهبان في غضون ذلك قد اجتمعوا عند فراشه، فأخذ المحتضر يودعهم زيحرّضهم على الثبات في دعوتهم والمحافظة علو واجباتهم الرهبانية، وباركهم، ثمّ أمسك بيده الصليب المقدّس وقبّله وضمّه إلى صدره، وأسلم الروح بكل بساطة”.
خاتمة:
عُرف هذا الخوري الألمعيّ الورع الصالح، سالكًا غير مسلك نبيه رصين نبيل، كيف يفيد من مواهبه وتجاربه وثقافته، ويفيد الناس يزيدتها الهادفة إلى : إبعادهم عن القواذير والأضاليل والخطايا… وحثّهم على تحمل التجارب بصبر والتزام التوبة والتقى وممارسة الخير والحق … وخير ما نختم به حديثنا عنه، بضعة أبيات من نظمه تحمل راية الصلاح والفلاح :
إحفظ وصايا الله يا ذا المتَّقي وَدَعِ الـبـطـالـة وانـبـد الـبُـطـلانـا
واستقن فهما ما حييت وحكمة فـتـقـيّك شرّ الجهـل والـطـغـيـانـا
وردية العذراء أم الله قـد جاءت بخمسة عشر سـرًّا فائقًا
فرح وحزن ثم مجد كلّ سرٍّ يحتوي معنى أكـيـدا صـادقًا
فتعبَّدَنَّ بها لمريم تحظ بالغفران إمـا كـنـت فـيـهـا واثـقًا
لعمرك ما لنا في الارض ملك وكـل عـائش عـيش الـغـريب
ولـكـن مـلـكـنـا مـلـكـوت رب بهـيّ الحـكـم ديـان مُـثـيب
تيقّظ وتُب قبل المنون وقبلما ذكاء نهار العمر بالموت تغرُبُ

١٩١٤)+١٩٨٥) 2 – نقولا قادري
هو نقولا بن يوسف قادري، والدته وديعه صباغ، من مواليد زحلة في 13 تشرين الثاني١٩١٤ ، نال سر العماد في 1 كانون الثاني 1915 ،دخل الرهبانية في ٢٤ تشرين الأول 1930 ، لبس ثوب الابتداء في 14 شباط 1931 ودعي أناطوليوس. أبرز نذوره الموقتة في ٢٩ أيار۱۹۳۲، وارتبط بالنذور المؤبدة في ٢٩ آب1936. دخل مدرسة الصابغ وأكمل فيها علومه الابتدائية والثانوية ، وقد نال شهادة البكالوريا اللبنانية، القسم الأول – الفرع الأدبي، في دورة حزيران ١٩٤٠ . درس الفلسفة واللاهوت عند الآباء اليسوعيين ، في جامعة القديس يوسف في بيروت، وحصل على شهادة الليسانس في اللاهوت في 1 تموز ١٩٤٦، ثم باشر بإعداد أطروحة ، لنيل شهاد الدكتوراه في الليثرجيا من باريس، بعنوان : «يسوع الملك في الليثرجيا البيزنطية» ، إلا أن ظروفا حالت دون سفره وإكمال مسعاه .قبل الرسامات المقدسة سنة 1945، بوضع يد المطران مكسيموسالصائغ ، متروبوليت بيروت ، فنال درجة الشموسية، في 18 آذار، في كنيسة المطرانية(1)، والكهنوت ، في ٢٩ تموز ، في كنيسة دير الصابغ ، ودعي نقولاوس تولى مسؤوليات عديدة في الرهبانية وخارجها ، منها
أولا : مسؤوليات رهبانية :
مدرس اللغات القديمة في مدرسة الصابغ (1946-1947، 1954-1959) أمين السر العام (1953-1959)، رئيس الرسالة في الأردن (1965-1959)، رئيس الإكليريكية الصغرى في الخنشارة (1965-
١٩٦٨)، معلم المبتدئين (1950 مساعد، 1975-۱۹۷۷، ۱۹۸۰-۱۹۸۳) ، رئيس دير مار الياس الطوق في زحلة (١٩٨٤ – ١٩٨٥)
ثانيا : مسؤوليات راعوية
خدمة الرعايا : عين الصفصاف (1946-1947، ١٩٨٠-١٩٨٤)، المخلص في بيروت (1947-1950 مساعد، ۱۹۷۷-۱۹۸۰)، كفرعقاب (1950-1951)، الخنشارة (1954-1959، 1968- 1969، 1975-1974)، إربد (1951-1953، ١٩٥٩-١٩٦٥)، بولونيا (١٩٤٦ مساعد ، ١٩٨٠-١٩٨٤)، البربارة في زحلة (1969-۱۹۷۲)، منيارة (١٩٧٢-١٩٧٤)
٢ – نيابة أسقفية :
– إربد، الأردن (١٩٥٩-١٩٦٥). وقد نال رتبة «أرشمندريت» من المطران ميخائيل عساف ، في ٢٧ آذار 1960 ، في كنيسة سيدة البشارة في إربد .
– طرابلس (۱۹۷۲ – ١٩٧٤).
الوفاة :
توفي، بمرض القلب ، في ٢٥ حزيران 1985 ، في دير الصابغ ، ودفن ، في مسقط رأسه ، بمقابر الرهبان في دير مار الياس الطوق.
مزاياه :
يعتبر الأب نقولا من كوكبة الآباء الأفاضل المشهود لهم بالفضيلة والتقوى والعلم . فقد اتسمت حياته بطابع القداسة والزهد : ببساطة وفرح حياته الرهبانية المشتركة ، بفقره وعفته وطاعته المميزة : فكانت حقائبه دائها جاهزة لتلبية أوامر السّلطة، في تنقلاته الكثيرة والسريعة ، بحرية وطيبة خاطر (قيل : إنه، في 3 سنوات ، نقل 13 مرة!)؛ وكان محبا للطقوس وبارعا في التيبكون والموسيقى البيزنطية واللغة اليونانية . وكان غيورا على الكنائسية الرهبانية وحريصا على سمعتها ومصالحها .
اشتهر بحبه للكتب والمطالعة وكان له الفضل بشراء الكثير من الكتب ، من مدخوله الخاص ، بإذن الرؤساء ، لاهتمامه بمكتبة دير الصابغ ، وخصوصا بالمخطوطات ، التي عمل على تدوین ثبت خاص بها. وإلى جانب اهتماماته الكثيرة ، اهتمامه بألبسة الرهبان : وقد كان يجيد مهنة الخياطة ، فيخيط 4 الأثواب ، ويفضل ويخيط البدلات الليثرجية للآباء ويصنع لهم القلانس.

3 – جاورجيوس السكاف (١٨٩٥+١٩٦٢)
هو مراد بن موسى السكاف ، والدته منّة حبيب أبو صعب المعلوف، من مواليد زحلة ١٨٩٥، لبس ثوب الابتداء في ١٨ شباط ۱۹۲۸ ودعي أفرام . أبرز نذوره الاحتفالية ، عن يد الأب المدبر فلابيانوس كفوري ، في ٢٢ نیسان ۱۹۲۹ ودعي جاورجيوس.
ارتسم شتاشا إنجيليا، في 6 آب ١٩٣٠، بوضع يد المطران باسيليوس قطان، متروبوليت بيروت ، في كنيسة المخلص – ضهور الشوير، وكاهنًا، في ٣١ آب ، من السنة ذاتها ، بوضع يد السيد إفثيميوس يواكيم، مطران زحلة ، في كنيسة دير مار الياس الطوق .
خدم رعية السيدة في بولونيا (١٩٤١ – ١٩٤٢)، وقضى الشطر الكبير من حياته في دير الصابغ نائبا لرئيس الدير ومساعدا لمعلم الابتداء ومرشدا روحيا للنفوس، حيث كان يقضي أكثر أوقاته في كرسي الاعتراف ، ثم عيّن رئيسا في دير كفرشيها مدة تسع سنوات (١٩٤٦-١٩٥٥)، وفي القسم
الأخير من حياته ، كان مرشدا في دير السيدة في بقعتوتة ، أي منذ ٢٦ تشرين الأول ١٩٦١ ، وحتى وفاته لبّى نداء ربه، في الثامن من شهر آب ١٩٦٢، على إثر انفجار دماغي لم يمهله إلا خمسة أيام ، وكانت الوفاة في مستشفى تلشيحا بزحلة، وأقيم له مأتم مهيب ، في اليوم التالي ، في كنيسة دير الطوق قبل دخوله إلى الدير ، عرف عنه بأنه الشاب المهذب اللطيف ، النشيط في شغله والأمين في معاملاته ، المحتشم في متجره، والمنخفض العينين في طريقه ، والمطأطئ الرأس إلى اليمين والتقي الورع في الكنيسة . وهو لم يغب أبدا عن حضور أي احتفال ديني، وكان عضوا في عدة أخويات ، وربما فيها كلها. وقد اشتهر بطاعته وفقره ومحافظته على القوانين، وبحياة قانونية رهبانية ملآی بالتضحيات والتقوى والفضائل والقداسة.
4 – أغسطينوس فرح (۱۹۸۳+۱۹۱۰)
هو نقولا بن يوسف داود فرح، والدته سلمى، من مواليد قارة في ٤ أيار سنة ١٩١٠، دخل الرهبانية في ٢ تشرين الثاني سنة ١٩٢٢، ولبس ثوب الابتداء في ٢١ نيسان سنة ١٩٢٣ ودعي أغسطينوس . أبرز نذوره الاحتفالية في ١٤ أيلول سنة ١٩٢٧ .
رقاه الأب العام إستفانوس سماحة إلى درجة الشمّاس المعاون في ١٦ أيار ١٩٣٧، والمطران ديونيسيوس كفوري، النائب البطريركي في مصر، إلى درجة الشمّاس الإنجيلي في ٢٢ آب من السنة ذاتها، ورقاه المطران
مكسيموس الصائغ ، متوبوليت بيروت، إلى درجة الكهنوت في ٨ أيلول السنة ذاتها، وقد نال تلك الدرجات المقدسة في كنيسة دير الصابغ في الخنشارة.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الصابغ ، وأنهى دروسه الثانوية سنة ١٩٣٢ ، والفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف ، للآباء اليسوعيين، في بيروت ، مدة سبع سنوات ، وقد نال ، في ٢٥ شباط ١٩٤٢ ، شهادة الدكتوراه في اللاهوت عن إطروحته :
«الروح القدس حسب تعليم القديس باسيليوس»
عُيّن مديرا للطلاب في مدرسة الصابغ (١٩٣٩-١٩٤٠) ثم رئيسا للمدرسة (١٩٤٠-١٩٤٦)، شغل مهمة معلم الفلسفة في الكلية الشرقية وفيما فيها (١٩٤٦)، ورئيسا بالوكالة لدير مار الياس الطوق في أثناء تغيب رئيسه الأب ديمتري حاطوم في أميركا، وتسلم رئاسة الدير المذكور (١٩٤٩-١٩٤٧)
انتخب رئيسا عاما في ١٥ كانون الأول ١٩٤٨، فرقاه البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ إلى رتبة «الأرشمندريت» الكبير للكرسي الأنطاكي ، وأعيد انتخابه رئيسًا عاما في ٢٠ أيلول ١٩٥٦ ، سافر إلى أميركا الشمالية والجنوبية في ١٤ تشرين الأول ١٩٥٩ للقيام بالزيارة القانونية لأبناء الرهبانية في المهجر ، وعاد في تموز ١٩٦٠ .
خلال فترة رئاسته العامة حصلت تحولات هامة في الرهبانية :
– فقد انتقلت ، بعد الاستفتاء العام الذي جرى سنة ١٩٥٤، من رهبانية
توحدية إلى منظمة رهبانية .
– تثبيت الفرائض الجديدة ، بنصها الفرنسي ، سنة ١٩٥٧ .
– حصلت الراهبات الباسيليات الشويريات على الاستقلالية الذاتية، عن سلطة الرئيس العام .
– شهدت الرهبانية ازدهارا كبيرا وازداد عدد الدعوات فيها، وتم تأسيس مراكز وإرساليات جديدة في كوردوبا – الأرجنتين، وإربد في الأردن، ومرجعيون وطرابلس في لبنان، وقد اشترى بعض العقارات في تلك الأماكن.
– الاحتفال بيوبيل الشرقية الذهبي في زحلة ، وتجديد الكلية ، وإضافة جناح جديد ، وتشييد ملعب رياضي فيها .
– وضع الحجر الأساس لكنيسة السيدة الكبرى في مدرسة دير الصابغ سنة ١٩٥٢ ، والانتهاء من بنائها .
انتُخب مطرانا على طرابلس في ٧ آذار ١٩٦١، ونال السيامة الأسقفية في ١٨ حزيران، في كاتدرائية مار الياس – بيروت ، بوضع يد البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ والمطرانين فيليبس نبعة (بيروت) وأثناسيوس الشاعر (مرجعيون)
حقق في أبرشية طرابلس إنجازات عمرانية عديدة، منها : الاهتمام بكاتدرائية القديس جاورجيوس، فسوى أرضها بالرخام الأبيض، وحسّن إنارتها، وأقام الإيقونستاز الرخامي وزينه بالإيقونات، وهي من وضع الأخت ميلاني حسواني، الراهبة الباسيلية الشويرية، وفي دار المطرانية جدّد المكتبة فأغناها بالمؤلفات اللاهوتية والفلسفية والطقسية. وبنى مدرسة في منيارة قامت بإدارتها الراهبات الشويريات، وأعاد فتح مدرسة الشيخ محمد بعد أن حسّنها، وعهد بها إلى الراهبات الشويريات أيضا، وبنى مستوصفاً في تلك البلدة؛ ورقم كنيسة عدبل وبنى فيها بيتا للكاهن؛ كما شيّد كنيسة في شدرا على اسم الصليب؛ وأصلح بناء كنيسة عيدمون؛ إضافة إلى ذلك قد قام بشراء ثلاثة عقارات : قطعة أرض في بولفار طرابلس، على المدخل الجنوبي للمدينة، مساحتها حوالي ستة آلاف متر مربع؛ قطعة أرض في منيارة مساحتها أربعة آلاف واربعاية متر مربع؛ قطعة أرض في دوما مساحتها خمسماية متر مربع ، بغية بناء دار صيفية للمطرانية. ونقل إلى كرسي زحلة في ٢٥ آب سنة ١٩٧٧.
شارك في أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) وعينه البابا بولس السادس في إحدى اللجان المجمعية ، انتخبه سينودس الكنيسة الملكية رئيسا للجنة السينودسية اللاهوتية ، وعيّن ، من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ، مشرفا على كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس في الكسليك. وفي زحلة أنشأ مجلسا لأساقفة المدينة، بدعم من المطران الأرثوذكسي سبيريدون خوري ، والمطران الماروني جورج إسكندر.
رقد ، برائحة القداسة، على إثر مرض عضال، يوم خميس الأسرار، في ٣١ آذار ١٩٨٣ ، ودفن تحت المائدة الكبرى في كاتدرائية سيدة النجاة بزحلة ، بعد أن أقيم له مأتم مهيب وحاشد ، لم تشهد له المدينة مثيلا من قبل.
إضافة إلى تقواه وغيرته وتجرده ، غرف المطران فرح بحضوره المحبب وقربه من الناس، کا بعلمه الغزير وفن الخطابة اللذين اشتهر بها.
وكان له دور هام خلال الأحداث التي عصفت بزحلة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وارتبط اسمه بصمودها، واعتبر كبير شهدائها.
5 – جبرائيل ابي شديد (۱۸۹۰+١٩٥٥)
هو الياس بن خطار أبي شديد، ماروني، من مواليد بسوس سنة ١٨٩٠ . لبس ثوب الابتداء بتاريخ الأول من تشرين الأول سنة 1905 وأبرز نذوره المؤبدة في ٢٨ أيار سنة 1908 رسم شتاشا إنجيليا، في دير الصابغ ، بتاريخ 3 تموز سنة ١٩١٢ ، بوضع يد المطران فلابيانوس كفوري ، متروبوليت حمص ، ثم كاهنًا في ٢٠ تموز سنة ١٩١٦ قضى السنوات الأولى من حيث مارس التعليم والترتيل وإرشاد الأخويات. خدمته الكهنوتية في يبرود، وفي مدينة زحلة.
وقضى القسم الأكبر من حياته في خدمة النفوس في أبرشية بيروت . فقد عيّن لخدمة الرعية في زوق مكايل سنة ١٩٢٢، ثم قضى نحوا من عشرة أعوام خادما لرعية الخنشارة (١٩٢٢-١٩٢٦، ١٩٢٩ – ١٩٣٥) ، وكاهنا، لرعية السيدة في بتغرين (۱۹۲۷-۱۹۲۸)، وبعدها في الشوير سنة ١٩٢٩، وتم تعيينه كاهنا لرعية سيدة المعونات في بولونيا (١٩٣٥-١٩٣٦)، ثمّ انتقل إلى خدمة رعية المخلص في بيروت وبقي فيها حوالي ثماني عشرة سنة حتى سنة 1955 تاريخ وفاته في 7 آذار ، على إثر نشاف في عروق القلب، وشلل قاسى منه شهورا عديدة ، ودفن في دير القديس باسيليوس الكبير في خلال شهر آب ۱۹۲۲ تبرع بعشرين ليرة سورية لطرش وتزيين كنيسة القديس نيقولاوس وبيت المائدة في دير الصابغ.
وفي العام ١٩٣٤ قدم كراسي الخورض لكنيسة القديس نيقولاوس. كان رجلا بارا صالحا قديسًا ، اشتهر بصلاحه ومحبته للصلاة” . کا اشتهر بطيبة قلبه ومحبته للسلام، وبصوته الرخيم وعلمه الواسع في الموسيقى الكنسية، وله فيها مؤلفات لا يزال أغلبها مخطوطا ومحفوظا ، مع مكتبته الموسيقية الهامة ، في المكتبة العامة بدير الصابغ .
6 – يوسف إيليان (۱۸۳۹+١٩١٤)
هو الياس بن يوسف توما إيليان ، من مواليد زحلة العام ١٨٣٩ ، لبس ثوب الابتداء في ٢٠ كانون الأول سنة ١٨٧٩ ، ودعي ثاوفانوس. أبرز نذوره في ۲۳ نیسان سنة ١٨٨١، ودعي الياس، ارتسم شتاسًا ، في دير الصابغ ، عن يد كير ملاتيوس فكاك ، في ٢٢ آب سنة ١٨٨٢ ، ثم قشا، عن يد السيد المذكور ، في دير مار سمعان ، في أول أيلول سنة ١٨٨٢ ، وسُمّي يوسف.
توفي، في دير زحلة، بمرض ضيق الصدر، وذلك في ١٥ حزيران سنة ١٩١٤ ، وكان مشهورا بتقواه وصلاحه وغيرته وتجرّده.
لقد توارث الرهبان تقليدا شفويا يخبر عن قداسة سيرة هذا الطيب الذكر ،وكثيرا ما كان الآباء الشيوخ يتحدثون عن فضائله ، كمضرب مثل ، ولما كان الأب بطرس الكفوري ، أحد تلاميذ الأب يوسف ، قد دون حياته ، كشاهد عيان ، في كتابه : «الغرر الدرية في تاريخ الأسرة الكفورية» ، في الصفحات ١٢١-١٢٦ ، رأينا أن ننقلها ، حرفيا ، من أجل التبرك والمنفعة الروحية.
أولا – إن هذا الأب البار الخوري يوسف إيليان مع شقيقه الخوري بولص إيليان هما من أفاضل الكهنة وأجلهم فضيلة وغيرة رسولية. فالخوري بولص كان من الإكليروس الأسقفي الزحلاوي مشهودا له بالوعظ والإرشاد . والغيرة على خلاص الأنفس ومن مشاهير الكهنة. لأنه كان يقضي الليالي بزيارة المرضى واستماع اعترافاتهم ومناولتهم القربان المقدس أيام البرد والثلج والحر على السواء.
ثانيا – أما الخوري يوسف فكان من أفضل الرهبان . اعتنق الدعوة الرهبانية في دير مار يوحنا سنة 1875. وقضى حياته بالصلاح حتى إنه قبل أن يدخل الرهبانية . كان عند الآباء اليسوعيين مستلها أشغالهم الخارجية في زحلة. ومنذ صغره كان متصفا بصفات الزهد والتجرد التام. وعندما كان في بيت أهله. كان له غرفة خصوصية فلا يدخلها أحد . واضعا فيها الكتب الروحية بأنواعها. كالكتاب المقدس. وأخبار القديسين واستعداد الموت .وكتاب الإقتداء بالمسيح. وكتاب زيارة القربان. وكتاب قوت
النفس. وغيرها من الكتب الروحية. وفي عام ١٨٧٥ في عهد رئاسة الأب العام الخوري فلابيانوس دخل الرهبانية ولبس الثوب الرهباني وبما أنه كان متقدما بالعمر ومشهودا له بالفضيلة والصفات الحميدة ابتدأ سنة واحدة ودرس العلوم اللاهوتية اللازمة وسيم شتاسًا إنجيليا، ثم قسّا. وتعين مرشدا ومعرفا لتلاميذ المدرسة الرهبانية . ثم تعين وكيلا على أملاك دير مار يوحنا . وفي تلك السنة وزع على الشركاء صورة قلبَيّ يسوع ومريم. لأجل التبرك بالعبادة التقوية. وبحسن نواياه الصالحة. قد أقبل موسم (الشرانق) (الفيالج) وزاد ألف وخمسماية إقة عن الموسم الذي قبله . حتى تعجب الرهبان والشركاء من ذلك الإقبال العظيم . ومنذ ذلك الوقت قد ازداد شيوعا خبر فضيلته . ولما انتقلت المدرسة من دير الصابغ إلى القرقفي . . . ذهب هو أيضا مع باقي التلاميذ . وفيما بعد لأجل حفظ ميزانية دير مار الياس الطوق بزحلة. بالرغم من إرادته تعين بأمر الطاعة وكيلًا على أملاك الدير المذكور ، وقضى كل أيام حياته فيه وهو بالقرب من أهله. ويوميا كان يذهب لإقامة القداس في دير الآباء اليسوعيين ولم يدخل بيت أحد. لا من أهله ولا من أقربائه . ولا خلافهم على الإطلاق . وقضى حياته البارّة في عمل الفضيلة الخالية من كل رياء . وكل يوم أربعاء وجمعة لا يأكل حلوا. ولا فاكهة أبدا. وفي أكثر الأيام . كان يصوم إلى نصف النهار . ومنامته على طراحة يقعد عليها في النهار وينام عليها في الليل بالجهد في الايام الباردة جدا يتغطى باللحاف . أما ملبوسه فكان صاية من الخام المصبوغ. لا يستعمل فرشة خصوصية للنوم . غطاءه عباءته . أو شرشف قديم . والبياض من الخام أيضا . وعنده بدل واحد لا غير . وعندما يمرض لا يستعمل العقاقير الطبية إلا وقت الضرورة القصوى . وأغلب أوقاته يقضيها إما بزيارة القربان المقدس أو التأملات العقلية أو الصلوات اللفظية ، وساعات عديدة يبقى راكعا ومخطوفا بالروح إلى العالم الأعلى وأمامه الصليب المقدس.
ثالثا – مرة لما زار الرئيس العام الخوري يوسف الكفوري دير زحلة فالشيخ الجليل الطيب الذكر المرحوم أنطون البريدي المشهور بالفضل والمعروف ، أقام وليمة لحضرة الأب العام المذكور ولباقي الآباء وترجاه بأن يأخذ بمعيته الخوري يوسف إيليان . وعند وقت الذهاب قال له الرئيس العام، فاعتذر ولم يذهب ولما وصل الأب إلى بيت العازم الشيخ المذكور ولم يكن المترجم معه ترجي الأب العام أن يأمره بالطاعة لكي يحضر. فمراعاةً لخاطره أرسل له الأمر فحضر حالًا ولكن بعد أن دخل إلى تلك الدار العامرة استقبلوه بكل احترام واعتبار وبفرح وابتهاج عظيمين . وقد شمل السرور جميع أهل البيت كبارا وصغارا وتقدموا للتبرك من يديه . وأما هو فإنه بعد أن وصل واستراح قليلا تشكر من ذلك الشيخ والذات الكريمة ودعى له بالتوفيق وحفظ عائلته . ثم قال للرئيس العام . ها إنني تممت أمر الطاعة وحضرت فأرجوك الآن أن تسمح لي بالذهاب إلى الدير .
فأجابه الأب العام : اذهب بسلام والرب الإله يكون معك . فالحاضرون جميعا بصوت واحد هتفوا: تبارك الله الذي يعطي مثل هذه المواهب السامية للانتصار على الأميال البشرية . وقد يطول بنا الشرح إذا أردنا أن ندوّن كل أعماله ومحامده وصفاته الحسنة التي كان متصفا بها ولكننا نروي بعضا منها على سبيل الفائدة:
1 – كان مرة مناظرا على الفعلة في مزرعة القطين خاصة الدير حيث كانوا يقطعون الحجارة لبناء النزل الكبير (أوتيل قادري) فمر صدقة من فوق المقلع قطيع من الماعز وتدحرج عليه حجر فكسر يده . فقام ورجع إلى الدير واستدعى الطبيب المجبّر لعلاجها فأخرج له بعض عظام مكسّرة دون أن يظهر عليه أو يبدو منه أقل تذمر أو انزعاج .
فإذ ذاك قصد الأب الرئيس أن يقيم دعوى على راعي الماعز . فقال له المترجم لا يا أبانا أشكر الله الذي ما أصاب الحجر أحد أولئك الفعلة الفقراء الذي كان تعطل عن العمل ولكني أنا لا أعمل شيئا والله سمح بذلك كي يمتحن صبري .
٢ – في آخر حياته بقي أشد حنانًا على الفقراء . أكثر مما كان عليه قبلًا . وعيّن يوما خصوصيا ما عدا الأيام الأخرى كي يوزع الحسنات بسخاء على الفقراء . وما كان يرد أحدا دون نوال مرغوبه . فالبعض من الرهبان قد ثقل عليهم هذا العمل فعملوا مؤتمرا واتفقوا أن يمنعوه عن عمله هذا رغم أنهم كانوا كلهم يجلونه ويحترمونه (لكن روح السوء لا يحب عمل الخير) وحضر الواحد منهم بعد الآخر إلى غرفة المترجم . حيث كان حاضرا كاتب هذا الخبر صدفة . وعندما اكتمل عدد المؤتمرين طلب أحدهم الذي كان متقدما فيها بينهم أن ينظر في دفتر الدير. لأجل أن يطلع على بعض قيود فيه وبعد المطالعة حضر الباقون . فسأله أحدهم قائلا: نحن نشاهد أكثر الفقراء آتين من جهات متعددة والبعض ذاهبون وغيرهم آتون ونحن علينا ديون يجب أن نوفيها . فأجابه المترجم بكل رباطة جأش وكلام عذب : نعم إنني أعلم ذلك وهذا الأمر غير خاف علي ولكن من الذي قال لكم أنني أعطي الفقراء من مال الدير .
وأشار بيده إلى أحد المتقدمين الموجودين قائلا له : أما أنت الذي الحسابات والقيود كلها بيدك؟ فأجابه نعم . فسأله إذ ذاك أحدهم من أين إذا تعطي الفقراء ونحن فقراء . حينئذ جلس وأجابهم بكلام لطيف رقيق للغاية : أنا كل أيام حياتي وكل قداساتي مقيدة أمامكم وما صرفت منها بارة واحدة ولكن بما أنه قد طلب مني بعض المحسنين أن أوزع هذه الحسنات على الفقراء حسب نيتهم فلا يمكن أن أغير قصدهم . حينئذ ذهب كل واحد إلى موضعه بسلام .
وأخيرا في آخر حياته المملوءة بالإماتات والتقشفات وأعمال البر والصلاح وقد أنهكه الهرم ولم يعد بإمكانه أن ينزل إلى كنيسة الدير لإقامة الذبيحة الإلهية فاستأذن من الرئيس العام عمل (كابلة) بالقرب من غرفته حيث يوجد فيها نافذة تشرف على كنيسة الدير المصمود فيها القربان المقدس وزيّن ذلك المعبد الصغير أجمل زينة وكرسه على اسم قلب يسوع الأقدس .
وكان يقضي أكثر أوقاته راكعا هناك . ومتأملا في قلب يسوع المصور أمامه الملتهب حبا بالبشر . ويبقى مخطوفا بالروح ساعات عديدة . وكاتب هذه الحوادث كان واقفا ومشاهدا لها بذاته . وقبل وفاة المترجم بأربع سنوات كان مساعدا له على إتمام الذبيحة الإلهية يوميا في المعبد المذكور . وأخيرا في ٢٤ حزيران سنة ١٩١٤ (۱) قد انتقل من هذه الأرض الفانية إلى الديار الباقية . إلى الأخدار السماوية ليأخذ إكليل المجد المعد للأبرار والمجاهدين وله من العمر ٧٨ سنة . وأكثر آباء الرهبانية واقفون على كل أعماله وكان من الواجب أن يحافظوا على جثمانه مثل كنز ثمين ويبذلوا جهدهم في إثبات برارته . ولو كان بإمكاني لحفظت رفاته في صندوق خصوصي ولكن اليد قصيرة . والسبب الذي من أجله أردت تسطير حياة هذا الأب البار في هذا التاريخ هو أنه كان من أصدق وأخلص المحبين إلى جميع أفراد أسرة بني الكفوري وإلي بنوع خاص لأنه كان الواسطة لانتظامي في سلك الرهبانية وكان لي أبا روحيًا وله على أفضال كثيرة رحمه الله وجعل الجنة مثواه ومنحنا بركته الأبوية ].
7 – رومانس لوقا (١٨٠٤+١٧٧٤)
هو يني بن حنا لوقا ، كلداني ، من مواليد بغداد سنة ١٨٠٤ ، لبس ثوب الابتداء في ١٨ كانون الأول سنة ١٨٣٠ . أبرز نذوره سنة ١٨٣٢ ، تكرس شمّاسا في ٢٥ كانون الأول ١٨٣٦، ثم قسًّا. على أثر ذلك ، أرسلته السلطة إلى بغداد، على طلب من والديه ، لكي يبحث عن أخ له فقد ذات يوم، وانقطعت أخباره. في 17 أيلول 1838 ، قلده البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم الولاية على الروم الملكيين في تلك البلاد، وبينما هو يخدم الرعية بكل غيرة، ويواصل البحث، من حين إلى آخر، عن أخيه المفقود، إذا به ذات يوم يستلم كتابا من صديق في كلكوتا ، يخبره فيه أن أخاه حي يرزق في المدينة المذكورة، وهو يتاجر ويعيش بخير. بشر والديه بالخبر السعيد. ثم استأذن الرؤساء وسافر إلى الهند، في أواخر سنة ١٨٤٨، برفقة ولدين لقنصل فرنسا ، متوجهين إلى كلكوتا ، فقضى معها ثلاثة أشهر سفر ، ذاق في خلالها الأمرّين. وصل، أخيرا، إلى المدينة المذكورة، حيث نزل ضيفا على السيد فتح الله الأصفر الحلبي ، أحد أفراد الجالية المتاجرة فيها ، وكان شديد التعلق بطقسه وطائفته، فأسكن الأب لوقا معه في قصره، وشيّد له فيه معبدا خاصا ، متكفلًا بالقيام بجميع أكلاف معيشته، وقد بقي الأب نزيل السيد الأصفر إلى حين وفاته سنة ١٨٥٢ . في هذه الأثناء، عرف أسقف اللاتين فضيلة وغيرة هذا الراهب النادرتين، فكلفه مساعدة المرسلين بخدمة النفوس مهتها، خصوصا، بالجالية الحلبية، فقام بالمهمة على أكمل وجه ، وقد أفادها كثيرا بغيرته ومثله الصالح .
ومما هو جدير بالذكر أنه لما كان القس رومانس في كلكوتا، طلب إليه مطران المدينة أن يذهب إلى إحدى المستشفيات ، حيث يوجد مريض مدنف من أبناء العرب ، ليسمع اعترافه ويعطيه الزاد الأخير المقدس ، فما كان منه إلّا أن لبّى الطلب ، وذهب حالا إلى حيث المدنف، ولما دنا منه سأله اسمه وكنيته ومسقط رأسه وإذا هو أخوه، ولكنه لم يبد أدنى حركة إلى أن سمع اعترافه وزوده بالقربان المقدس وأعطاه المسحة الأخيرة، ثم تقدّم وعرّفه بذاته، وتعانقا معانقة اللقاء ومعانقة الوداع ، وهكذا لفظ المدنف نفسه الأخير بين يدي أخيه بعد مرور عشرات السنين على فراقها.
إن مطران اللاتين احتفظ بهذا الأب الصالح، بموافقة رؤسائه، الذين تركوه يتابع عمله الرسولي الخير في الهند ، مدة طويلة جمع خلالها استحقاقات جمة وإحسانات كثيرة، عدد بعضها سجل الرهبانية، منها إرساله لها ستة صناديق نيل سنة ١٨٤٢ ، حينها بلغه ما أصاب دير القرقفي من الأضرار ، إبان ثورة سنة ١٨٤١ ، وهذا النيل ، عند وصوله إلى بيروت ، وضع ثمنه في بناء الكاتدرائية ، بطلب من المطران أغابيوس الرياشي، ومنها قيمة ألف ليرة إنكليزية أنفق منها ، على إنشاء عقارات للرهبانية في مصر ، قيمة ٣٥ ألف غرش ، ومنها بدلات هندية وأواني قداس ومباخر وسطل ومرشة، وبعض فضيات ، وزع منها على ديري كفرشيها وزحلة ، والباقي لدير الصابغ.
وبعد رجوعه إلى لبنان، بعد غيابه الطويل، عينته السلطة رئيسا كفرشيما (١٨٦٢ – ۱۸۷۱) ، فكان مثال الرئيس المتواضع الخدوم المتزهد. وكان الرؤساء قد سمحوا له أن يحتفظ بصليب ذهبي حاو على ذخيرة مقدسة، فدفعته محبته للفقراء وتجرده الرهباني إلى أن يبيع ذلك الصليب، جاعلًا الذخيرة في صليب بسيط ، ويطعم بثمنه الفقراء .
أما وفاته فكانت في دير القرقفي ، في ٢٩ كانون الثاني سنة ١٨٧٤.
كان ذا سيرة حسنة كهنوتية موسومة بسمة القداسة، وحياة رهبانية فاضلة ، حتى إن كل من عرفه كان ينظر إليه نظره إلى أحد القديسين ، وقيل إن نورا عجيبا انبعث من قبره، وماء عجيبا تقطر منه مدة عدة أيام بعد وفاته، وتأكد، أيضا، بعد أن فتح الكومنتير ، مرارا ، أن جسده غير بال ، فأصبح ذلك القبر مزارا يقصده كل ذي مرض وعلة.
8 – الرئيس العام فلابيانوس (الأول) كفوري (١٨٨٦+۱۸۰۲)
أولا – إن هذا النابغة هو الذي يرجع إليه الفضل العظيم . وكان من الواجب أن تُدون أعمال حياته قبل كل أحد . وأن تكتب بماء الذهب . حتى عند ذكر اسمه نحني له الرأس احتراما ونردد ذكره الميمون بالفخر والمجد . كيف لا وهو ذلك الفرد الذي لم يسبق له مثيل بلطفه وحلمه وجوده وكالاته السامية وحسن إدارته الرائقة المقرونة بالحكمة والفطنة والهدوء والسكينة، ومهما به من الآلاء الجلى والأوصاف الحميدة المطبوعة فيه شرحت عمّا اتّصف من الفطرة الطبيعية . لا يكون جزءا مما كان هو عليه وفيه . والذين بعدهم أحياء ويعرفونه شخصيا يؤكدون هذا المقال . وأما الذين لا يعرفونه فعند مشاهدتهم مثاله ومن الاطلاع على سيرة حياته يقفون على شيء مما اتّصف به . واعلم أيها القارئ اللبيب أنك إذا نظرت إلى صورته ومثاله لا تتصور إلّا ملاكا أرضيًا وإنسانا ساويا ماثلا أمامك . لأنه كان كلي الاحتشام في جميع أعاله. له قوام كقضيب الخيزران ووجه طافح بالنور . البشر ظاهر منه . مطرق النظر إلى الأرض بلطف فائق الرقة. رصين جدا في مشيه. مهاب الطلعة، صبوح الوجه ، ومتبسم بلطف طبيعي. طويل الأناة ، أنيس الحديث. ورائق جدا في أطباعه. وديع ومتواضع القلب قد سحر الرهبان وكبار الرؤساء الروحيين والشعب أجمع بأعماله وأفعاله ومبرّاته التي لا يحصيها عدد. وهذه المحامد التي أهلته أن يتربع في منصّة الرئاسة العامة على الرهبانية وإدارة شؤونها، وفي مختلف الوظائف، فوق النصف قرن. وفي مدة رئاسته كلها. وأيام حياته بأجمعها. كان مثلًا للكمال
الرهباني مدققا صارما في حفظ القوانين . وكان الرهبان يتمّمون أوامره بكل طيبة خاطر وعن حبّ بنوي طبقا لإرادته تعالى . وهو كان يحبّهم محبة أبوية خالصة وما أحد من الفقراء والعيال المستورة قصده إلّا ونال مرغوبه وهو الذي أسس روح التقوى في نفوس رهبانه واتصلت إلى أفراد أسرته لاتباع أثر خطواته في مدارج الكمال الرهباني، ولذا وجب أن يقال فيه ما قاله أحد الشعراء :
بكت شجوها فهيج لي البكاء
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقد بخل الزمان أن يأتي بمثله
إن الـزمـان بمثله لبخيل.
ولذا نرى أكثر الذين عرفوا ما اتصف به من الفضائل وما تركه من حسن السمعة. رغبوا أن يتسمَّوا باسمه تيمّنًا بذكره. وكل الذين عرفوا المترجم شخصيا عند ذكر اسمه أمامهم تتحرك فيهم عواطف الاحترام وحب الفضيلة.
ثانيا – أما نسبه الطيب فهو:
يوسف بن منصور بن حنا بن يوسف بن نصر الله بن جرجس بن إبراهيم بن ميخايل الكفوري . ولد في حارة مار يوحنا في افتتاح سنة ۱۸۰۲ على حياة عم أبيه القس مرقص (الأول) الكفوري الذي هو أول راهب كفوري دخل الرهبانية من أبناء الأسرة الكفورية . فيكون المترجم هو الثاني من الذين دخلوا الرهبانية . فبعد أن تربى تربية صالحة والديه منصور وكتوره، التي هي ابنة نجم المعلوف”، الموصوفة بالكمال والجمال الأدبي والطبيعي نظير زوجها منصور الذي كان آية في الجمال والاقتدار . . . وبعد أن ترعرع وبلغ من العمر ثمانية عشر سنة . وكان من صغره ذا صوت شجي رخيم فتعلم على أيادي الرهبان الألحان الكنسية والأنغام اليونانية . فإذ ذاك تاقت نفسه إلى اعتناق الدعوة المقدسة ولمّا عرف الرئيس العام والرهبان مراده . قبلوه بكل ترحاب . فكأنّ ملاكا سماويًّا دخل الدير . وفي ٢٥ آب سنة ١٨٢٠ لبس الثوب الرهباني الابتدائي في دير مار يوحنا من رئيس الدير القس برثلماوس ، ودعي باسم مرقص (الثاني) . في أيام رئاسة الأب العام الخوري ميخايل التركماني . ثم أخذ في الدرس والتحصيل على الآباء الرهبان الأفاضل الذين كانوا يتسابقون على تعليمه، وخاصة لما شاهدوه مجتهدا. وراغبا. ومتصفا بالوداعة والاتضاع ، ولاسيما لأجل رخامة صوته. وكان ميالا كثيرا إلى الموسيقى الكنسية والألحان الطقسية والأوزان المرتبة على الموسيقى اليونانية ، فأتقن هذا الفن حتى أصبح أستاذا ماهرا، وفي كل أيام حياته كان يعلمها للرهبان الأحداث .
بعد أن أكمل الزمان الابتدائي نذر النذور الاحتفالية في ٢٣ نيسان سنة ١٨٢٢ ودعي باسم فلابيانوس، وبقي مثابرا على الدرس والمطالعة وعلم اللاهوت وباقي العلوم الأخرى . وفي ٢٣ نيسان ١٨٢٤ ذهب بأمر الرئيس العام إلى زحلة فارتسم شمّاسًا إنجيليا ، عن يد أسقفها سيادة المطران إغناطيوس عجوري . وفي ٢٦ كانون الأول سنة ١٨٢٦ سُيّم قًّا عن يد السيد البطريرك إغناطيوس (الخامس) قطان . وبعد رسامته أرسله إلى بيروت لاستلام مدرستها الأسقفية، فقام بهذه الوظيفة سنة كاملة كان بخلالها موضوع اعتبار جميع الشعب البيروتي . وفي عام ١٨٢٧ أقامه المغبوط نائبا بطريركيا على الأبرشية المذكورة التي لم تزل مترملة من أسقفها المطران أثناسيوس دهان ق .ب . وكان القصد أن يدرجه إلى الأسقفية فلما علم المترجم بهذا القصد اعتذر إليه ولفت نظره إلى الخوري يعقوب الرياشي وهكذا بعد مدة استدعى غبطته الخوري يعقوب الرياشي المذكور وسقّفه على أبرشية بيروت وذلك عام ١٨٢٨ . وبقي المترجم في بيروت مسموع الكلمة وحائزا على ثقة عموم الطائفة ومحبوبا من جميع الشعب.
إلى سنة ١٨٣٥ التي فيها اجتمع الرهبان في دير الصابغ ، فوقع اختيارهم لرئاسة الرهبان العامة على الخوري فلابيانوس المترجم . ومن حيث أن آباء المجمع كانوا عارفين بها هو منطبع عليه وترفعه عن الوظائف . استعانوا عليه بالمطران المذكور الذي حكم عليه أن يقبل الوظيفة لأن الله يدعوه إليها . فتظاهر أولا بالقبول وذهب سرا من بيروت إلى دير مار سمعان العامودي بدلا من ذهابه إلى دير مار يوحنا الصابغ ، وأخيرا لما رأى أن الرهبان مصمّمين النية على انتخابه فقبل الوظيفة. وهذه كانت أول رئاسته وذلك في ١٢ تشرين الأول سنة ١٨٣٥ ولما استلم زمام الرئاسة ابتدأ أولا بإصلاح النظام الرهباني غير سامح لأحد بأدنى تقصير يقع في حفظ القانون من أي كان كبيرا أم صغيرا حتى أذهل الجميع في تدابيره الحازمة المقرونة بالوداعة والصرامة معًا.
رابعا – وبهذه الأثناء طلبت الطائفة الموجودة في القطر المصري من غبطة البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم السعيد الذكر في معروض ممضي من أرخندوس الملة المصرية. في طلب المترجم أن يكون مطرانا عليهم وأن انتخابهم وقع عليه باجتماع الكلمة، فالمغبوط عقد مجمعا في عين تراز وخابر المطارنة بهذا الأمر وقرر أن الانتخاب هو غير قانوني لأنه من دون علمه، والقطر المصري خاضع له رأسًا . فبعد المخابرة مع المطارنة قرر المجمع أن أن يرسمه مطرانا . ويكون نائبا بطريركيًا ويبقى تحت رئاسة المغبوط .
وفي ٦ كانون الأول سنة ١٨٣٥ وصل المترجم إلى عين تراز وأبلغه غبطة البطريرك قرار السينودس برسامته أسقفا ونائبا بطريركيا على القطر المصري فاعتذر إلى المغبوط والمجمع فأجابه البطريرك أنه غير ممكن إلا إرضاء الشعب المصري برسامته مطرانا لهم لأنهم يطلبونه رسميا . فالمترجم تعهّد إلى المغبوط والمجمع في أن يرسم لهم نسيبه الخوري يوسف الموجود إذ ذاك في مصر الذي دعي باسيليوس . . . وتعهد لهم في إقناع أرخندوس الطائفة بذلك. وهكذا صار فأرسل إلى الشعب المصري وأرخندوس الطائفة مكاتيب أقنعهم بما تقدّم وأن هذه هي إرادة الله وإرادة البطريرك وكلما رسمه لهم قد تمّموه بكل تدقيق.
خامسا – سنة ١٨٣٨ تجددت له الرئاسة العامة رغم استعفائه ، وبقي إلى غاية ٣١ آذار سنة ١٨٤٢ حيث عقد المجمع العام، فاستعفى من كل الوظائف، ولكنه قبل فقط أن يبقى يعلم أحداث الرهبان التراتيل الكنسية والموسيقى اليونانية.
وفي عام ١٨٤٥ انتخب مدبرا أولا ، وبقي معلّها كما كان. في عام ١٨٤٨ ذهب للتبرك بزيارة الأراضي المقدسة وشاهد فيها المجمع الأورشليمي المنعقد تحت رئاسة البطريرك مكسيموس مظلوم .
وبعد نهاية المجمع عاد إلى بيروت. وكان عالما بما كانت عليه الرهبانية من ضيق المعيشة والعسر المالي . فقصد السفر إلى أميركا لجمع الإحسانات الضرورية لقيام الإصلاحات التي كان يرغب إدخالها في الرهبانية لأجل نجاحها الأدبي والمعنوي وخصوصا لتأسيس مدرسة عالية للرهبانية كي يتخرج فيها أبناؤها على العلوم اللازمة لأجل سياسة وتعليم الشعب .
وقد استحصل على إذن من صاحب الغبطة والرؤساء القانونيين . وسافر في ٨ أيلول سنة ١٨٤٩ إلى أميركا، وهو أول كاهن شرقي كاثوليكي دخل إلى الولايات المتحدة، وبقي فيها سنتان فقط . وكان برفقته ترجمانا ناصيف شدودي ، فنجح بعض النجاح لأن قسما كبيرا قد اختلس منه ولم يرد أن يرافع الغريم ، وفي رجوعه من أميركا عرج على روما العظمى . وحظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس التاسع الذي باركه وأنعم عليه وعلى ذويه ورهبانيته بالبركة الرسولية . وزار ضريحي القديسين بطرس وبولس وباقي المقامات الرسمية في البلاط البابوي ، وحصل على اعتبار عظيم جدا لدى أرباب الفاتيكان. ولما وصل إلى ميناء الإسكندرية زار القطر المصري لمشاهدة نسيبه المطران باسيليوس الكفوري وأصدقائه المصريين الذين كانوا يجلّونه جدا .
ولما وصل إلى لبنان عام 1851 وجد أن المغبوط مراده أن يرسمه مطرانا على أبرشية بعلبك فاعتذر لديه وذهب إلى دير الصابغ. وحينئذ باشر في بناء الرواق القبلي الذي بقي مدة يدعى الرواق الجديد (رواق الرئيس العام).
سادسا – في المشاريع والإنشاءات التي أجراها في الرهبانية بعد ما أنهى بناء الرواق المذكور أعلاه في دير مار يوحنا الصابغ ، شرع في بناء الرواق الغربي المحاذي كنيسة دير مار أنطونيوس القرقفي ، وأصلح أملاك الأديرة التي كانت بحاجة زائدة إلى الإصلاح، واشترى مائة كدنة كرم من أراضي جديتا وأراضي عين العسل . وخصص الرواق الشمالي من دير مار يوحنا لتعليم المبتدئين . وبقي مثابرا على العمل إلى سنة ١٨٥٩ في ٨ تشرين الثاني حين اجتمع المجمع العام وانتخب رئيسًا عاما. ولما حضر إلى مدينة زحلة شرع بعمار تلحيقة إلى كنيسة الدير للجهة الغربية ، وأصلح الطاحون التي باسم الوظيفة في زحلة . وزاد عليها حجرا حتى صارت بثلاثة أحجار . ثم بعده شرع بعمار الرواق الغربي في دير مار الياس الطوق بعد أن احترق في سنة الستين (١٨٦٠) من الدروز سنة الحركة التي حدثت بين النصارى والدروز. ثم عمر كنيسة النبي الياس في الخنشارة وكنيسة السيدة في الجوار، وعمر حارة شبرى في مصر . واشترى كرم زيتون ومعصرة للزيت في كفرشيها لوظيفة الرئاسة العامة . واستمر مّدة بعد مدة تتجدد له الرئاسة العامة . وتتجدد فيه العزيمة على العمل إلى عام ١٨٦٨ فإنه قد ألحّ على آباء المجمع العام أن يتركوه مدة كي يستريح من عناء الأتعاب فانتخبوا الخوري ديمتريوس الجامد رئيسًا عامًا وإنها ترجوه أن يبقى مدبرا أولا ومساعدا للرئيس العام . (وبالحقيقة إن هذا الأب المفضال الخوري ديمتريوس جامد كان له غيرة أبوية مع فلابيانوس والإيكونومس يوسف كفوري أيضا على خير الرهبانية وبقي وإياهما كل أيام حياته محافظا على الوداد المسيحي الحقيقي ومتفقين على خير الرهبانية أدبيا وماديا).
سابعا – سنة ١٨٧١ انعقد المجمع العام في أوائل أيلول واتفقت أصوات آباء المجمع على انتخاب المترجم دون أن يقبلوا له عذرا. فرجع إلى ما كان عليه من العمل والجد والسهر على خير الرهبانية إلى عام ١٨٨٠ التي فيها قرر معآباء الرهبانية عمار مدرسة خاصة للرهبانية بعد أن كان من زمان مديد يهتم في بنائها وكان عزم سابقا بعد عودته من أميركا، وعمر الرواق الجديد القبلي، وخصص الرواق الشمالي في نفس دير مار يوحنا لتعليم الرهبان الذين هم أهل إلى تلقى العلوم العالية وكانوا قبلا يرسلون إلى مدرسة عين تراز لأنها كانت مخصصة لتربية الناشئة الإكليريكية وعموم إكليروس الطائفة ، وكانت لا تفي بالمراد، حينئذ باشر في بناء المدرسة المذكورة . ولما انتهى البناء نقل التلاميذ الرهبان إليها ولم تزل حتى الآن سائرة على ما كانت عليه . هذا ما قدرنا أن نعرفه من مشاريعه والأعمال والآثار التي أحدثها في الرهبانية مختصرين عما تبقى.
ثامنا – نروي بعض أخبار من أعمال المترجم ، مختارين ذكر جزء من ألف . قد روى لنا الآباء الأقدمون المعاصرون لحياة المترجم أخبارا عديدة ، قد اخترنا منها ما هو أكثر فائدة لأجل الإشارة إلى ما تبقى.
الخبر الأول:
إنه في عام ١٨٦٤ لما تفشى الهواء الأصفر الكبير في أكثر جهات مصر وسوريا وبيروت والشام ما عدا جبل لبنان وبالأخص المحلات العالية التي بقيت سالمة من هذا الوباء. فهرب إلى جهات لبنان كبار العيال من مصر وبيروت والشام للتخلص من ذاك الوباء المشؤوم الذي كان يفتك فتكا ذريعا
حتى هلعت قلوب الناس من شدة وطأته فذهب قسم كبير من علية الطائفة إلى جهات الخنشارة خصوصا لأن ماءها عذب وينابيعها صافية ومناخها ينعش الفؤاد لكونها محاطة بأنواع أشجار الصنوبر الجميل وبالإجماع أن مناخها يشفي العليل وهي بالقرب من دير مار يوحنا. وأكثر أملاك البلدة للرهبانية وفي ذلك الوقت كانت أغراس الكرمة قريبة جدا من بيوت السكن .
ولما نضج العنب والتين وشاهد شبان المهاجرين ذلك الثمر أمامهم على أمّه شرعوا يدخلون إلى الكروم بغير علم الشركاء المستلمين تلك الكروم . فلما بلغ الخبر إلى المترجم أرسل من قبله أناسا مقدرين إلى الكروم المذكورة واستدعى الشركاء ودفع لهم ما خصهم من ثمن العنب والتين وأبقاها معهم كالسابق .
وإنها اشترط عليهم قائلا : ها قد أخذتم ثمن العنب الذي لكم نقدا والآن صارت مقدمة إلى المصطافين مع ما يخص الدير أيضا فمن الآن وصاعدا هي خاصة. لا تمنعوا أحدا من الدخول إلى الكروم المذكورة وهكذا فعل في أمر الخضرة التي كان الشركاء يزرعونها في أراضي الدير ومثل ذلك يوجد بستنة تُسمى (السميط) مشهورة بجودة خضراواتها وكانت مضمنة إلى أحد الأشخاص فاستدعاه ودفع له كل الأكلاف التي صرفها وأبقاها معه وأوصاه بأن كل ما يطلبه أولئك الأنام من مصريين وغيرهم يقدمه لهم وإما إلى غيرهم فالذي يبيعه يكون له خصوصي ومثل ذلك فعل في باقي اللوازم الضرورية كالحطب والفحم فكان يرسل إلى كل عائلة حاجتها اللازمة ووكل أحد الرهبان والناطور بالسهر على كل ما يلزم لكل عائلة . وكل مدة بعد مدة . كان يفتقدهم بأنواع الحلوى والكعك المشهور من صنع الراهبات الذي يرسله مثل بركة أبوية .
وفي أواخر الصيف المذكور عندما عرف أن المرض الوبائي قد زال وأكثرهم مستعدون للرجوع إلى منازلهم عمل لهم وليمة فاخرة تجلت فيها تلك العواطف الأبوية من تلك الذات الكريمة . والشيخ الجليل الطاهر القلب والسخي الكف فذبح لهم كمية من رؤوس الغنم على منتزه عين القلعة تحت أشجار السنديان المشهورة . التي كانت موجودة في ذاك الوقت قبل تأسيس الدير وذاك المنتزه البديع والفسيح للغاية . ولا تسل عمّا صنعه وجلبه من الخيرات لأجل راحة المدعوين . ثم قال لهم : يا أولادي يقتضي أن تأخذوا الحرية للنزهة مع بعضكم وأنا أذهب إلى الدير وآخذ حريتي مع إخوتي وأولادي . وفي نهاية الوليمة اجتمع أولئك الذوات وتخابروا فيما بينهم فقال المتقدم فيهم إن الرئيس العام قد غمرنا بأفضاله وملك قلوبنا بمحبته ومحبة الرهبانية الحناوية التي لا يمكن أن ننسى أفضالها . وشرع في جمع قيمة معتبرة قدموها له وطلبوا منه أن يقبلها كفلس الأرملة لأجل بناء كنيسة في الخنشارة
لأنه لم يكن فيها سوى كنيسة صغيرة وهي كنيسة القديس أنطونيوس القديمة وكنيسة القديس جاورجيوس . غير أنهم اختلفوا على اسم الكنيسة . فقام إذ ذاك أحدهم المدعو الياس النحاس وقال أنا أرجو أن يكون اسم الكنيسة على اسم النبي الياس وها إنني أقدم علاوة عن الاكتتاب عشرين ليرة مساعدة فصادق الجميع على هذا الاقتراح . وذهب وفد من الحاضرين إلى المترجم ورجوا منه أن يقبل تقدمتهم هذه كمساعدة لبناء الكنيسة . وأنه ليس هذا كل ما يرغبون تقدمته ، واعتذروا لديه على هذه التقدمة الصغيرة .
وبالحقيقة إن إجراءات وأعمالا كهذه جعلت الشعب مع الرهبان أطوع له من بنائه في أيام رئاسته وكل أطوار حياته حتى بعدما ذهب المصريون استأنس بأنهم يحبون الجبنة اللبنانية الطرية والبرغل الرفيع (لأجل عمل الكبة) فبعد وصولهم أرسل لهم كمية من الجبن الفاخر والبرغل الزحلاوي المعروف بجودته . وأما هم فأرسلوا له عوضا عن ذلك مؤونة الدير من الأرز وكمية من الجوخ والخام وبالة من الجلد لأجل كسوة الرهبان وقيمة معتبرة من الدراهم مساعدة إلى الدير وطلبوا منه أن يذكرهم في صلاته المقبولة عند الله . فوكيل الرهبانية في بيروت المرسلة هذه الأشياء عن يده فعوضا من أن يرسل الدراهم مع أحد الأشخاص وضع الصرة في أحد أكياس الأرز وكتب إلى المترجم أنها مرسلة في كيس نمره (كذا) وإنها فعل هذا احترازا من ضياع الصرة على الطريق وعندما وصلت أكياس الأرز قد فرغ الكرارجي (أي وكيل الخرج) كل أكياس الأرز حتى يضعها في العنبر المخصص لها فلها وجد الصرة رفعها ووضعها في الخزانة عنده وهو غير عارف بشيء من أمرها ولما قرأ المترجم المكتوب المرسل من وكيل بيروت سأل وكيل الخرج : ” هل استلمت أكياس الأرز تماما؟ ” فأجاب : ” نعم “. فسأله أيضا : ” كيف وجدت أنواع الأرز هل هو جيد أم لا؟ ” فأجاب : ” إنه جيد جدا “. فكرر عليه أيضا بلطف : ” هل وجدت فيه شيئا؟ ” أجاب وكيل الخرج : ” نعم وجدت هذه الضرة “. سأله أيضا: ” ماذا وجدت فيها؟ ” فرد عليه الوكيل بقوله: ” لا أعلم “. حينئذ أمره بأن يأتيه بها إلى غرفته ولما وصل إليه ابتسم المترجم كعادته وقال له من كون الله تعالى بحسن نيتك أرسل لنا مساعدة مالية وأنت تشتغل لأجل الجمهور . فيلزم أن نكافئك على أتعابك . فأعطاه صاية جديدة وملبوسات غيرها وصرفه بكل وداعة ولطف وهو من أصغر رهبانه.
خبر ثان:
ومن جملة حبه إلى رهبانه والرهبانية بوجه الإجمال وهذان الأمران صيّرا الرهبان أن يجمعوا الكلمة على انتخابه رئيسًا عاما ومستلها زمام الرهبانية مدة مديدة من السنين ودونك الخبر الثاني عن مصدر ثقة وهو الشاهد العياني ومن جملة الأشخاص الواقفين على حدوثه لما كان المترجم زائرا دير مار الياس الطوق بزحلة حصل في مدة وجوده ما يأتي :
أن أحد الآباء من شيوخ الرهبان في الدير المذكور طلب من العشي أن يصلح له بيضتين من كونه عاجزا ولا يقدر أن يأكل من أكل الجمهور فرفض العشي إجابة طلبه ولم يقبل عمل ذلك. فعرف المترجم بالأمر فسأل العشي عن سبب عدم إجابة طلب الأب المذكور . أجاب أن رئيس الدير مانع هذا العمل . فسأل رئيس الدير أجاب لا نقدر أن نعمل شكلين في معيشة الدير .
فقال له المترجم إن النظام العمومي واجب أن يحفظ . ولكن المرضى والعجزة يجب ملاحظتهم . وهذا أيضا مما يفرضه النظام والقانون . لأن الراهب الذي ترك أهله وبيت أبيه فأصبحت الرهبانية أمه والرئيس أبوه فأتأمل من الآن وصاعدا أن تلاحظوا الرهبان المرضى والعجزة بنوع خصوصي ولا تدعو أحدا يتذمر . وعلى هذه الصورة كان مثال الأب الحنون سهرانا على راحة الجميع روحيًا وجسديا .
ثم إنه مرة قرر مع المدبرين أنه ممنوع شرب الدخان من غير إذن وأنه بعد قرع جرس النوم الساعة التاسعة مساء يجب على جميع الرهبان أن يطفئوا الأضوية في الغرف . وكان من عادة المترجم بعد أن يقرع جرس النوم يتفقد قلالي الرهبان بذاته . فليلة ما مرّ صدفة من أمام باب إحدى القلالي فشاهد الدخان خارجا من محل المفتاح في غال الباب فقرع الباب بلطف وقال :
“بصلوات آبائنا القديسين كما هي العادة وذهب من دون أن يدخل القلاية”.
فذاك الراهب ذاب خجلًا. والسبب في ذلك هو أن الراهب المذكور كان ممنوعا عن الدخان . وفي تلك الليلة ذاتها استحصل له الإذن أحد المدبرين بعد صلاة النوم فذهب ذاك الراهب إلى قلايته وشرع بالتدخين (الشبق) على حسب عادة ذاك العصر فداهمه فرع جرس النوم قبل نهاية شرب الغليون.

تاسعا – أمّا من جهة احتشامه وآدابه العمومية وصبره وطول أناته واحتماله وثباته على الجهاد في العمل لأجل خير الرهبانية ونجاحها أدبيا وماديا، فإنه كان سهرانا السهر الشديد على حفظ الآداب والكمال الرهباني التي كان هو صورته ط. لأنه عاهد على نفسه أن لا يبين نواجذه (أسنانه) أبدا . وكان عندما يضطر إلى التبسّم يضع يده على فمه النحيف الذي هو بحجم الزبيبة . وعند تناوله الطعام لا يقدر أحد أن يعرف إذا كان يحرك فمه أم لا . ومع ما كان عليه من الجلال والكمال لا يستنكف عن عمل أدنى الوظائف الديرية والخدم الدنية للدلالة على اتضاعه الفائق الوصف .
حلّة الطهر ملبوسة بأكمام تغطي يديه . متجلببا بالثوب الرهباني الكامل – ومجمل بالوقار. ونغمة صوته كان لها رنة عذبة في الآذان والساع . ولاسيما في أوقات الاحتفالات الكنسية التي كان يمثلها ويرتبها ويعلّمها إلى الرهبان. وعند ترتيله ترى الملائكة مرفرفة فوق رأسه والخشوع مالئ قلوب الحاضرين كأنّ على رؤوسهم الطير . وكلهم شاخصون في حركته المقرونة بالنظام البديع . وكان من أخص تلاميذه الذين أخذوا عنه بعض هذه الصفات الجميلة هم المرحومين الخوري جرجس عيسى الشهير الذي له اليد البيضاء في تأسيس المدرسة البطريركية وهو أول من أنشأها والإيكونومس يوسف الكفوري والمطران أغابيوس معلوف. فهؤلاء الثلاثة هم من أخص تلاميذه.
وأخيرا بقي مثابرًا على العمل في كرم الرهبانية والرئاسة العامة تتجدد له حتى عام ١٨٨٣ الذي فيه التأم المجمع العام . وقد أنهكه التعب والهرم وما عاد بإمكانه أن يزاول أعمال الوظيفة الكثيرة الأعباء التي خدمها زهاء نصف قرن .
فطلب رسميا من آباء المجمع أن يوجهوا انتخابهم إلى غيره وبمشورته انتخبوا الخوري سليمان الشامي رئيسًا عامًا والخوري يوسف كفوري مدبرا أولا وثانيا أغابيوس معلوف الذي صار فيها بعد مطرانا على بعلبك والمترجم ترك كل ما كان يمتلكه حتى بدلاته الكهنوتية فإنه وزعها على الرهبان الكهنة ولم يترك لنفسه سوى بدلة بسيطة وجرد قلبه من كل حطامات الدنيا . حتى إنه احتاج في آخر حياته إلى ثمن أوقية حليب فلم يكن معه وهكذا قضى حياته البارة في خدمة الرب مواظبا على الصلوات والتأملات إلى ٣٠ تشرين الثاني ١٨٨٦ التي فيها دنا وقت انتقاله . فاستدعى الرهبان الذين رباهم في الدير . وطلب منهم المسامحة قائلًا لهم : اغفروا لي يا أولادي وسامحوني عن زلّاتي التي صدرت مني في حقكم . والمثال المشكك الذي فعلته أمامكم . وبعد أن اقتبل الأسرار الإلهية شرع يقبل الصليب المقدس ويطلب من الرب يسوع المعونة على احتمال الآلام كما احتملها هو حبا بخلاصنا وكان يترنم بالمزامير والتراتيل الروحية والنوافذ السهمية . وبينا الرهبان يصلون طلبة العذراء ويتضرعون طارت تلك النفس الطاهرة إلى الأخدار الساوية كي تأخذ الإكليل المعد لها من الله تعالى . وعندما اشتهر خبر وفاته تقاطرت الجماهير الغفيرة من جميع الأنسباء والقرى المجاورة إلى الدير المذكور الذين أخذهم الأسف الشديد على فقد ذاك الملاك الأرضي والإنسان السماوي . وبعد ما عملوا له مناحة عظيمة حضرها علية القوم من علمانيين وإكليريكيين ابّنه تأبينا بليغا البروتوسنكلوس إكليمنضوس فرح المدبر الثاني . ودفن في المدفن المخصص لمشاهير الرهبانية، المدفون فيه البطريرك مكسيموس (الثاني) حكيم والشبّاس عبد الله زاخر والثالث هذا البار المترجم .
فليكن تذكاره مؤبدا مستحق الطوبي ودائم الذكر ، كانت وفاته، في دير الصابغ ، في عام ١٨٨٦ في ٣٠ تشرين الثاني عن ٨٤ عاما. )
9 – جرجس عيسى (1827 + 1875)
هو إيلياس بن إبراهيم بن الياس عيسى السكاف ، من مواليد المعلَّقة – زحلة العام 1827 ، لبس ثوب الابتداء في الثاني من تشرين الثاني 1845 ، ودُعي جرجس . أبرز نذوره في السادس من تمّوز 1947 .
ارتسم شمّاسًا إنجيليًّا ، في 7 كانون الثاني 1857 ، عن يد المطران أغابيوس الرياشي ، متروبوليت بيروت ، في كنيسة النبي الياس الكاتدرائيّة ، وكاهنًا ، بتاريخ 30 آذار 1858 ، عن يد المطران المذكور ، ثمّ خوريًّا ، في 14 تشرين 1859 ، عن يد سيادة المذكور .
انتُخب مدبّرًا رابعًا (1859 - 1962) ، اشتهر بمعارفه وتقواه ، فنُصّب قاضيًا للنصارى ، بزمن الأمير بشير الأحمد اللمعي ، نحو سنة 1859 ، وقام بمهمّته إلى أن شُكّلت المتصرفيّة الجديدة ، وأُلغيت قائميّة المقام في 17 تشرين الثاني سنة 1860 .
سافر إلى أوربة ، بإذن الرؤساء ، في 18 حزيران 1860 ، فوصل إلى باريس ومنها سافر إلى إيرلندا ، فصرف هنالك بعض سنوات يجمع الإحسان ، ثمّ عاد إلى بيروت في 31 أيلول 1865 ، وشرع ببناء المدرسة البطريركيّة ، حسب رغبة البطريرك غريغوريوس يوسف ، وكان يناظر بناءها وأكمل تجهيزها ، ولم تكن سنة 1866 حتّى فتحت أبوابها للطلبة ، وكان أوّل رؤسائها وقد وضع لها رسومًا وقوانين ، وأسّس فيها أخوية القربان المقدّس للطلبة . وتقديرًا لجهوده وخدمته الوطنيّة ، كافأه البطريرك فمنحه رتبة أرشمندريت الكرسي الأنطاكي ، وكرّسه بهذه الرتبة في كنيسة المدرسة ذاتها ، بتاريخ الأوّل من شباط 1866 ، وكذلك منحته الدولة العثمانيّة ، بواسطة وزيرها راشد باشا ، والي سورية الأسبق ، الوسام المجيدي الخامس .
بَيد أنه ، بعد مرور بضع سنين ، ونظرًا للأتعاب التي عانى منها ، طلب إعفاءه وعاد إلى دير الصابغ ، حيث انقطع لتعليم الرهبان وعمل الرياضات الروحيّة في القرى ، لا سيّما أيام الصوم الأربعيني .
ولمّا كانت سنة 1870 دعاه المطران أغابيوس الرياشي إليه وسمّاه وكيله العام في بيروت ، فاستلم مهام الوكالة في 15 شباط ، وشرع في تجديد المدارس وتولّى التدريس وأكبّ على الوعظ والإرشاد ، وأسّس أوّل أخوية للبتول ، للرجال والنساء ، في 15 آب 1870 ، وقد ثبّتها المطران في 25 آذار 1871 ، وقد انتُخب مدبّرًا ثالثًا (1874 - 1875) .
وهكذا صرف حياته بجهاد وغيرة حتّى ذاع شهرة في مدينة بيروت وغيرها ، وكان تقيًّا جدًّا ومثالًا للطهارة .
أمّا آخر أعماله الرعوية فكان أنه بقي في بيروت ، لمّا انتشر وباء الهواء الأصفر ، وقد نزح معظم سكّانها وأكثر الكهنة . فكان يطوف المدينة حاملًا أدوية وقوتًا ليوزّعها على الفقراء والمصابين ومعها الزاد الإلهي مخفّفًا أوجاعهم بالتعزيات الروحيّة ومساعدًا إيّاهم على الميتة الصالحة ، وكان يهتّم بتجهيز ونقل الموتى ، وعندما لا يوجد من يدفنهم ، كان هو ذاته يحملهم على كتفه ويواريهم في مثواهم الأخير ، الأمر الذي أدهش حتّى غير المسيحيّين .
وبقي على ذلك أشهرًا حتّى أنه ، بعد زيارته لأحد المصابين ، أحسّ بدنّو أجله . وممّا يُروى عنه أنه مرّ في طريقه على نجّار من المسلمين وأوصاه على تابوت مدّعيًا أنه لأحد المرضى ، قائلًا له : إن المريض مثلي تمامًا ، فأخذ قياسه ، وما إن وصل إلى الدار الأسقفيّة حتّى اشتدّ عليه الداء ، فقضى نحبه في مساء يوم السبت الواقع في 8 آب سنة 1875 ، فذهب الخادم إلى النجّار المجاور للدار الأسقفيّة وأوصاه على تابوت ، فقال له : إنه جاهز ، فأين الكاهن ليأخذه ، فقال له : إنه تُوفّي ، فتعجّب وبقي يروي ذلك لكثيرين .
كان مشهورًا بتقواه وتعبّده للأم البتول ، خطيبًا بليغًا ، محبًّا للفقراء والمرضى ، غيورًا على الخدمة الروحيّة ، وقد ترك للرهبانيّة والفقراء مالًا ، كما ورد في سجل الرهبانيّة ، واقتنى مكتبة تنيف على مائتي مجلّد ، وكان فقيهًا بارعًا ، متقنًا العربيّة ، عارفًا بالإنكليزيّة والفرنسيّة ، شاعرًا مجيدًا ، وكان مصابًا بالجدري ، في وجهه أثر ندوب منها ، وقد أشاد به الشعراء الكبار أمثال سليم بك تقلا والشيخ خليل اليازجي ، وقد وَرَدَ تقريظه في قصيدة بعنوان : «نَفير الوطنيّة» ، جاء فيها :
أليس جرجس عيسى كاهنًا ورعًا
قد طاف أوربة حشدًا لدينارِ
والبطركيّة بيت العلم شيّده
في ثغر بيروت مشهورٌ بآثارِ
وأنشأ الأخويّات التي اشتهرت
كلجنة البِرّ فيها نَيل أوطارِ
تلقّى العلوم ومبادئ العربيّة على بعض الآباء ، اتّصل بالعلّامة الشيخ ناصيف اليازجي ودرس عليه العلوم العربيّة بفروعها فأتقنها ، ثمّ الفقه الشريف على العلّامة الشيخ يوسف الأسير ، فتضلّع به . مال إلى نظم الشعر فأحرز منه نصيبًا وافرًا .

 

الرئيس العام فلابيانوس (الأول) كفوري (1802 م – 1886 م)

أولا – إن هذا النابغة هو الذي يرجع إليه الفضل العظيم . وكان من الواجب أن تُدون أعمال حياته قبل كل أحد . وأن تكتب بماء الذهب . حتى عند ذكر اسمه نحني له الرأس احتراما ونردد ذكره الميمون بالفخر والمجد . كيف لا وهو ذلك الفرد الذي لم يسبق له مثيل بلطفه وحلمه وجوده وكالاته السامية وحسن إدارته الرائقة المقرونة بالحكمة والفطنة والهدوء والسكينة، ومهما به من الآلاء الجلى والأوصاف الحميدة المطبوعة فيه شرحت عمّا اتّصف من الفطرة الطبيعية . لا يكون جزءا مما كان هو عليه وفيه . والذين بعدهم أحياء ويعرفونه شخصيا يؤكدون هذا المقال . وأما الذين لا يعرفونه فعند مشاهدتهم مثاله ومن الاطلاع على سيرة حياته يقفون على شيء مما اتّصف به . واعلم أيها القارئ اللبيب أنك إذا نظرت إلى صورته ومثاله لا تتصور إلّا ملاكا أرضيًا وإنسانا ساويا ماثلا أمامك . لأنه كان كلي الاحتشام في جميع أعاله. له قوام كقضيب الخيزران ووجه طافح بالنور . البشر ظاهر منه . مطرق النظر إلى الأرض بلطف فائق الرقة. رصين جدا في مشيه. مهاب الطلعة، صبوح الوجه ، ومتبسم بلطف طبيعي. طويل الأناة ، أنيس الحديث. ورائق جدا في أطباعه. وديع ومتواضع القلب قد سحر الرهبان وكبار الرؤساء الروحيين والشعب أجمع بأعماله وأفعاله ومبرّاته التي لا يحصيها عدد. وهذه المحامد التي أهلته أن يتربع في منصّة الرئاسة العامة على الرهبانية وإدارة شؤونها، وفي مختلف الوظائف، فوق النصف قرن. وفي مدة رئاسته كلها. وأيام حياته بأجمعها. كان مثلًا للكمال
الرهباني مدققا صارما في حفظ القوانين . وكان الرهبان يتمّمون أوامره بكل طيبة خاطر وعن حبّ بنوي طبقا لإرادته تعالى . وهو كان يحبّهم محبة أبوية خالصة وما أحد من الفقراء والعيال المستورة قصده إلّا ونال مرغوبه وهو الذي أسس روح التقوى في نفوس رهبانه واتصلت إلى أفراد أسرته لاتباع أثر خطواته في مدارج الكمال الرهباني، ولذا وجب أن يقال فيه ما قاله أحد الشعراء :
بكت شجوها فهيج لي البكاء
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقد بخل الزمان أن يأتي بمثله
إن الـزمـان بمثله لبخيل.
ولذا نرى أكثر الذين عرفوا ما اتصف به من الفضائل وما تركه من حسن السمعة. رغبوا أن يتسمَّوا باسمه تيمّنًا بذكره. وكل الذين عرفوا المترجم شخصيا عند ذكر اسمه أمامهم تتحرك فيهم عواطف الاحترام وحب الفضيلة.
ثانيا – أما نسبه الطيب فهو:
يوسف بن منصور بن حنا بن يوسف بن نصر الله بن جرجس بن إبراهيم بن ميخايل الكفوري . ولد في حارة مار يوحنا في افتتاح سنة ۱۸۰۲ على حياة عم أبيه القس مرقص (الأول) الكفوري الذي هو أول راهب كفوري دخل الرهبانية من أبناء الأسرة الكفورية . فيكون المترجم هو الثاني من الذين دخلوا الرهبانية . فبعد أن تربى تربية صالحة والديه منصور وكتوره، التي هي ابنة نجم المعلوف”، الموصوفة بالكمال والجمال الأدبي والطبيعي نظير زوجها منصور الذي كان آية في الجمال والاقتدار . . . وبعد أن ترعرع وبلغ من العمر ثمانية عشر سنة . وكان من صغره ذا صوت شجي رخيم فتعلم على أيادي الرهبان الألحان الكنسية والأنغام اليونانية . فإذ ذاك تاقت نفسه إلى اعتناق الدعوة المقدسة ولمّا عرف الرئيس العام والرهبان مراده . قبلوه بكل ترحاب . فكأنّ ملاكا سماويًّا دخل الدير . وفي ٢٥ آب سنة ١٨٢٠ لبس الثوب الرهباني الابتدائي في دير مار يوحنا من رئيس الدير القس برثلماوس ، ودعي باسم مرقص (الثاني) . في أيام رئاسة الأب العام الخوري ميخايل التركماني . ثم أخذ في الدرس والتحصيل على الآباء الرهبان الأفاضل الذين كانوا يتسابقون على تعليمه، وخاصة لما شاهدوه مجتهدا. وراغبا. ومتصفا بالوداعة والاتضاع ، ولاسيما لأجل رخامة صوته. وكان ميالا كثيرا إلى الموسيقى الكنسية والألحان الطقسية والأوزان المرتبة على الموسيقى اليونانية ، فأتقن هذا الفن حتى أصبح أستاذا ماهرا، وفي كل أيام حياته كان يعلمها للرهبان الأحداث .
بعد أن أكمل الزمان الابتدائي نذر النذور الاحتفالية في ٢٣ نيسان سنة ١٨٢٢ ودعي باسم فلابيانوس، وبقي مثابرا على الدرس والمطالعة وعلم اللاهوت وباقي العلوم الأخرى . وفي ٢٣ نيسان ١٨٢٤ ذهب بأمر الرئيس العام إلى زحلة فارتسم شمّاسًا إنجيليا ، عن يد أسقفها سيادة المطران إغناطيوس عجوري . وفي ٢٦ كانون الأول سنة ١٨٢٦ سُيّم قًّا عن يد السيد البطريرك إغناطيوس (الخامس) قطان . وبعد رسامته أرسله إلى بيروت لاستلام مدرستها الأسقفية، فقام بهذه الوظيفة سنة كاملة كان بخلالها موضوع اعتبار جميع الشعب البيروتي . وفي عام ١٨٢٧ أقامه المغبوط نائبا بطريركيا على الأبرشية المذكورة التي لم تزل مترملة من أسقفها المطران أثناسيوس دهان ق .ب . وكان القصد أن يدرجه إلى الأسقفية فلما علم المترجم بهذا القصد اعتذر إليه ولفت نظره إلى الخوري يعقوب الرياشي وهكذا بعد مدة استدعى غبطته الخوري يعقوب الرياشي المذكور وسقّفه على أبرشية بيروت وذلك عام ١٨٢٨ . وبقي المترجم في بيروت مسموع الكلمة وحائزا على ثقة عموم الطائفة ومحبوبا من جميع الشعب.
إلى سنة ١٨٣٥ التي فيها اجتمع الرهبان في دير الصابغ ، فوقع اختيارهم لرئاسة الرهبان العامة على الخوري فلابيانوس المترجم . ومن حيث أن آباء المجمع كانوا عارفين بها هو منطبع عليه وترفعه عن الوظائف . استعانوا عليه بالمطران المذكور الذي حكم عليه أن يقبل الوظيفة لأن الله يدعوه إليها . فتظاهر أولا بالقبول وذهب سرا من بيروت إلى دير مار سمعان العامودي بدلا من ذهابه إلى دير مار يوحنا الصابغ ، وأخيرا لما رأى أن الرهبان مصمّمين النية على انتخابه فقبل الوظيفة. وهذه كانت أول رئاسته وذلك في ١٢ تشرين الأول سنة ١٨٣٥ ولما استلم زمام الرئاسة ابتدأ أولا بإصلاح النظام الرهباني غير سامح لأحد بأدنى تقصير يقع في حفظ القانون من أي كان كبيرا أم صغيرا حتى أذهل الجميع في تدابيره الحازمة المقرونة بالوداعة والصرامة معًا.
رابعا – وبهذه الأثناء طلبت الطائفة الموجودة في القطر المصري من غبطة البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم السعيد الذكر في معروض ممضي من أرخندوس الملة المصرية. في طلب المترجم أن يكون مطرانا عليهم وأن انتخابهم وقع عليه باجتماع الكلمة، فالمغبوط عقد مجمعا في عين تراز وخابر المطارنة بهذا الأمر وقرر أن الانتخاب هو غير قانوني لأنه من دون علمه، والقطر المصري خاضع له رأسًا . فبعد المخابرة مع المطارنة قرر المجمع أن أن يرسمه مطرانا . ويكون نائبا بطريركيًا ويبقى تحت رئاسة المغبوط .
وفي ٦ كانون الأول سنة ١٨٣٥ وصل المترجم إلى عين تراز وأبلغه غبطة البطريرك قرار السينودس برسامته أسقفا ونائبا بطريركيا على القطر المصري فاعتذر إلى المغبوط والمجمع فأجابه البطريرك أنه غير ممكن إلا إرضاء الشعب المصري برسامته مطرانا لهم لأنهم يطلبونه رسميا . فالمترجم تعهّد إلى المغبوط والمجمع في أن يرسم لهم نسيبه الخوري يوسف الموجود إذ ذاك في مصر الذي دعي باسيليوس . . . وتعهد لهم في إقناع أرخندوس الطائفة بذلك. وهكذا صار فأرسل إلى الشعب المصري وأرخندوس الطائفة مكاتيب أقنعهم بما تقدّم وأن هذه هي إرادة الله وإرادة البطريرك وكلما رسمه لهم قد تمّموه بكل تدقيق.
خامسا – سنة ١٨٣٨ تجددت له الرئاسة العامة رغم استعفائه ، وبقي إلى غاية ٣١ آذار سنة ١٨٤٢ حيث عقد المجمع العام، فاستعفى من كل الوظائف، ولكنه قبل فقط أن يبقى يعلم أحداث الرهبان التراتيل الكنسية والموسيقى اليونانية.
وفي عام ١٨٤٥ انتخب مدبرا أولا ، وبقي معلّها كما كان. في عام ١٨٤٨ ذهب للتبرك بزيارة الأراضي المقدسة وشاهد فيها المجمع الأورشليمي المنعقد تحت رئاسة البطريرك مكسيموس مظلوم .
وبعد نهاية المجمع عاد إلى بيروت. وكان عالما بما كانت عليه الرهبانية من ضيق المعيشة والعسر المالي . فقصد السفر إلى أميركا لجمع الإحسانات الضرورية لقيام الإصلاحات التي كان يرغب إدخالها في الرهبانية لأجل نجاحها الأدبي والمعنوي وخصوصا لتأسيس مدرسة عالية للرهبانية كي يتخرج فيها أبناؤها على العلوم اللازمة لأجل سياسة وتعليم الشعب .
وقد استحصل على إذن من صاحب الغبطة والرؤساء القانونيين . وسافر في ٨ أيلول سنة ١٨٤٩ إلى أميركا، وهو أول كاهن شرقي كاثوليكي دخل إلى الولايات المتحدة، وبقي فيها سنتان فقط . وكان برفقته ترجمانا ناصيف شدودي ، فنجح بعض النجاح لأن قسما كبيرا قد اختلس منه ولم يرد أن يرافع الغريم ، وفي رجوعه من أميركا عرج على روما العظمى . وحظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس التاسع الذي باركه وأنعم عليه وعلى ذويه ورهبانيته بالبركة الرسولية . وزار ضريحي القديسين بطرس وبولس وباقي المقامات الرسمية في البلاط البابوي ، وحصل على اعتبار عظيم جدا لدى أرباب الفاتيكان. ولما وصل إلى ميناء الإسكندرية زار القطر المصري لمشاهدة نسيبه المطران باسيليوس الكفوري وأصدقائه المصريين الذين كانوا يجلّونه جدا .
ولما وصل إلى لبنان عام 1851 وجد أن المغبوط مراده أن يرسمه مطرانا على أبرشية بعلبك فاعتذر لديه وذهب إلى دير الصابغ. وحينئذ باشر في بناء الرواق القبلي الذي بقي مدة يدعى الرواق الجديد (رواق الرئيس العام).
سادسا – في المشاريع والإنشاءات التي أجراها في الرهبانية بعد ما أنهى بناء الرواق المذكور أعلاه في دير مار يوحنا الصابغ ، شرع في بناء الرواق الغربي المحاذي كنيسة دير مار أنطونيوس القرقفي ، وأصلح أملاك الأديرة التي كانت بحاجة زائدة إلى الإصلاح، واشترى مائة كدنة كرم من أراضي جديتا وأراضي عين العسل . وخصص الرواق الشمالي من دير مار يوحنا لتعليم المبتدئين . وبقي مثابرا على العمل إلى سنة ١٨٥٩ في ٨ تشرين الثاني حين اجتمع المجمع العام وانتخب رئيسًا عاما. ولما حضر إلى مدينة زحلة شرع بعمار تلحيقة إلى كنيسة الدير للجهة الغربية ، وأصلح الطاحون التي باسم الوظيفة في زحلة . وزاد عليها حجرا حتى صارت بثلاثة أحجار . ثم بعده شرع بعمار الرواق الغربي في دير مار الياس الطوق بعد أن احترق في سنة الستين (١٨٦٠) من الدروز سنة الحركة التي حدثت بين النصارى والدروز. ثم عمر كنيسة النبي الياس في الخنشارة وكنيسة السيدة في الجوار، وعمر حارة شبرى في مصر . واشترى كرم زيتون ومعصرة للزيت في كفرشيها لوظيفة الرئاسة العامة . واستمر مّدة بعد مدة تتجدد له الرئاسة العامة . وتتجدد فيه العزيمة على العمل إلى عام ١٨٦٨ فإنه قد ألحّ على آباء المجمع العام أن يتركوه مدة كي يستريح من عناء الأتعاب فانتخبوا الخوري ديمتريوس الجامد رئيسًا عامًا وإنها ترجوه أن يبقى مدبرا أولا ومساعدا للرئيس العام . (وبالحقيقة إن هذا الأب المفضال الخوري ديمتريوس جامد كان له غيرة أبوية مع فلابيانوس والإيكونومس يوسف كفوري أيضا على خير الرهبانية وبقي وإياهما كل أيام حياته محافظا على الوداد المسيحي الحقيقي ومتفقين على خير الرهبانية أدبيا وماديا).
سابعا – سنة ١٨٧١ انعقد المجمع العام في أوائل أيلول واتفقت أصوات آباء المجمع على انتخاب المترجم دون أن يقبلوا له عذرا. فرجع إلى ما كان عليه من العمل والجد والسهر على خير الرهبانية إلى عام ١٨٨٠ التي فيها قرر معآباء الرهبانية عمار مدرسة خاصة للرهبانية بعد أن كان من زمان مديد يهتم في بنائها وكان عزم سابقا بعد عودته من أميركا، وعمر الرواق الجديد القبلي، وخصص الرواق الشمالي في نفس دير مار يوحنا لتعليم الرهبان الذين هم أهل إلى تلقى العلوم العالية وكانوا قبلا يرسلون إلى مدرسة عين تراز لأنها كانت مخصصة لتربية الناشئة الإكليريكية وعموم إكليروس الطائفة ، وكانت لا تفي بالمراد، حينئذ باشر في بناء المدرسة المذكورة . ولما انتهى البناء نقل التلاميذ الرهبان إليها ولم تزل حتى الآن سائرة على ما كانت عليه . هذا ما قدرنا أن نعرفه من مشاريعه والأعمال والآثار التي أحدثها في الرهبانية مختصرين عما تبقى.
ثامنا – نروي بعض أخبار من أعمال المترجم ، مختارين ذكر جزء من ألف . قد روى لنا الآباء الأقدمون المعاصرون لحياة المترجم أخبارا عديدة ، قد اخترنا منها ما هو أكثر فائدة لأجل الإشارة إلى ما تبقى.
الخبر الأول:
إنه في عام ١٨٦٤ لما تفشى الهواء الأصفر الكبير في أكثر جهات مصر وسوريا وبيروت والشام ما عدا جبل لبنان وبالأخص المحلات العالية التي بقيت سالمة من هذا الوباء. فهرب إلى جهات لبنان كبار العيال من مصر وبيروت والشام للتخلص من ذاك الوباء المشؤوم الذي كان يفتك فتكا ذريعا
حتى هلعت قلوب الناس من شدة وطأته فذهب قسم كبير من علية الطائفة إلى جهات الخنشارة خصوصا لأن ماءها عذب وينابيعها صافية ومناخها ينعش الفؤاد لكونها محاطة بأنواع أشجار الصنوبر الجميل وبالإجماع أن مناخها يشفي العليل وهي بالقرب من دير مار يوحنا. وأكثر أملاك البلدة للرهبانية وفي ذلك الوقت كانت أغراس الكرمة قريبة جدا من بيوت السكن .
ولما نضج العنب والتين وشاهد شبان المهاجرين ذلك الثمر أمامهم على أمّه شرعوا يدخلون إلى الكروم بغير علم الشركاء المستلمين تلك الكروم . فلما بلغ الخبر إلى المترجم أرسل من قبله أناسا مقدرين إلى الكروم المذكورة واستدعى الشركاء ودفع لهم ما خصهم من ثمن العنب والتين وأبقاها معهم كالسابق .
وإنها اشترط عليهم قائلا : ها قد أخذتم ثمن العنب الذي لكم نقدا والآن صارت مقدمة إلى المصطافين مع ما يخص الدير أيضا فمن الآن وصاعدا هي خاصة. لا تمنعوا أحدا من الدخول إلى الكروم المذكورة وهكذا فعل في أمر الخضرة التي كان الشركاء يزرعونها في أراضي الدير ومثل ذلك يوجد بستنة تُسمى (السميط) مشهورة بجودة خضراواتها وكانت مضمنة إلى أحد الأشخاص فاستدعاه ودفع له كل الأكلاف التي صرفها وأبقاها معه وأوصاه بأن كل ما يطلبه أولئك الأنام من مصريين وغيرهم يقدمه لهم وإما إلى غيرهم فالذي يبيعه يكون له خصوصي ومثل ذلك فعل في باقي اللوازم الضرورية كالحطب والفحم فكان يرسل إلى كل عائلة حاجتها اللازمة ووكل أحد الرهبان والناطور بالسهر على كل ما يلزم لكل عائلة . وكل مدة بعد مدة . كان يفتقدهم بأنواع الحلوى والكعك المشهور من صنع الراهبات الذي يرسله مثل بركة أبوية .
وفي أواخر الصيف المذكور عندما عرف أن المرض الوبائي قد زال وأكثرهم مستعدون للرجوع إلى منازلهم عمل لهم وليمة فاخرة تجلت فيها تلك العواطف الأبوية من تلك الذات الكريمة . والشيخ الجليل الطاهر القلب والسخي الكف فذبح لهم كمية من رؤوس الغنم على منتزه عين القلعة تحت أشجار السنديان المشهورة . التي كانت موجودة في ذاك الوقت قبل تأسيس الدير وذاك المنتزه البديع والفسيح للغاية . ولا تسل عمّا صنعه وجلبه من الخيرات لأجل راحة المدعوين . ثم قال لهم : يا أولادي يقتضي أن تأخذوا الحرية للنزهة مع بعضكم وأنا أذهب إلى الدير وآخذ حريتي مع إخوتي وأولادي . وفي نهاية الوليمة اجتمع أولئك الذوات وتخابروا فيما بينهم فقال المتقدم فيهم إن الرئيس العام قد غمرنا بأفضاله وملك قلوبنا بمحبته ومحبة الرهبانية الحناوية التي لا يمكن أن ننسى أفضالها . وشرع في جمع قيمة معتبرة قدموها له وطلبوا منه أن يقبلها كفلس الأرملة لأجل بناء كنيسة في الخنشارة
لأنه لم يكن فيها سوى كنيسة صغيرة وهي كنيسة القديس أنطونيوس القديمة وكنيسة القديس جاورجيوس . غير أنهم اختلفوا على اسم الكنيسة . فقام إذ ذاك أحدهم المدعو الياس النحاس وقال أنا أرجو أن يكون اسم الكنيسة على اسم النبي الياس وها إنني أقدم علاوة عن الاكتتاب عشرين ليرة مساعدة فصادق الجميع على هذا الاقتراح . وذهب وفد من الحاضرين إلى المترجم ورجوا منه أن يقبل تقدمتهم هذه كمساعدة لبناء الكنيسة . وأنه ليس هذا كل ما يرغبون تقدمته ، واعتذروا لديه على هذه التقدمة الصغيرة .
وبالحقيقة إن إجراءات وأعمالا كهذه جعلت الشعب مع الرهبان أطوع له من بنائه في أيام رئاسته وكل أطوار حياته حتى بعدما ذهب المصريون استأنس بأنهم يحبون الجبنة اللبنانية الطرية والبرغل الرفيع (لأجل عمل الكبة) فبعد وصولهم أرسل لهم كمية من الجبن الفاخر والبرغل الزحلاوي المعروف بجودته . وأما هم فأرسلوا له عوضا عن ذلك مؤونة الدير من الأرز وكمية من الجوخ والخام وبالة من الجلد لأجل كسوة الرهبان وقيمة معتبرة من الدراهم مساعدة إلى الدير وطلبوا منه أن يذكرهم في صلاته المقبولة عند الله . فوكيل الرهبانية في بيروت المرسلة هذه الأشياء عن يده فعوضا من أن يرسل الدراهم مع أحد الأشخاص وضع الصرة في أحد أكياس الأرز وكتب إلى المترجم أنها مرسلة في كيس نمره (كذا) وإنها فعل هذا احترازا من ضياع الصرة على الطريق وعندما وصلت أكياس الأرز قد فرغ الكرارجي (أي وكيل الخرج) كل أكياس الأرز حتى يضعها في العنبر المخصص لها فلها وجد الصرة رفعها ووضعها في الخزانة عنده وهو غير عارف بشيء من أمرها ولما قرأ المترجم المكتوب المرسل من وكيل بيروت سأل وكيل الخرج : ” هل استلمت أكياس الأرز تماما؟ ” فأجاب : ” نعم “. فسأله أيضا : ” كيف وجدت أنواع الأرز هل هو جيد أم لا؟ ” فأجاب : ” إنه جيد جدا “. فكرر عليه أيضا بلطف : ” هل وجدت فيه شيئا؟ ” أجاب وكيل الخرج : ” نعم وجدت هذه الضرة “. سأله أيضا: ” ماذا وجدت فيها؟ ” فرد عليه الوكيل بقوله: ” لا أعلم “. حينئذ أمره بأن يأتيه بها إلى غرفته ولما وصل إليه ابتسم المترجم كعادته وقال له من كون الله تعالى بحسن نيتك أرسل لنا مساعدة مالية وأنت تشتغل لأجل الجمهور . فيلزم أن نكافئك على أتعابك . فأعطاه صاية جديدة وملبوسات غيرها وصرفه بكل وداعة ولطف وهو من أصغر رهبانه.
خبر ثان:
ومن جملة حبه إلى رهبانه والرهبانية بوجه الإجمال وهذان الأمران صيّرا الرهبان أن يجمعوا الكلمة على انتخابه رئيسًا عاما ومستلها زمام الرهبانية مدة مديدة من السنين ودونك الخبر الثاني عن مصدر ثقة وهو الشاهد العياني ومن جملة الأشخاص الواقفين على حدوثه لما كان المترجم زائرا دير مار الياس الطوق بزحلة حصل في مدة وجوده ما يأتي :
أن أحد الآباء من شيوخ الرهبان في الدير المذكور طلب من العشي أن يصلح له بيضتين من كونه عاجزا ولا يقدر أن يأكل من أكل الجمهور فرفض العشي إجابة طلبه ولم يقبل عمل ذلك. فعرف المترجم بالأمر فسأل العشي عن سبب عدم إجابة طلب الأب المذكور . أجاب أن رئيس الدير مانع هذا العمل . فسأل رئيس الدير أجاب لا نقدر أن نعمل شكلين في معيشة الدير .
فقال له المترجم إن النظام العمومي واجب أن يحفظ . ولكن المرضى والعجزة يجب ملاحظتهم . وهذا أيضا مما يفرضه النظام والقانون . لأن الراهب الذي ترك أهله وبيت أبيه فأصبحت الرهبانية أمه والرئيس أبوه فأتأمل من الآن وصاعدا أن تلاحظوا الرهبان المرضى والعجزة بنوع خصوصي ولا تدعو أحدا يتذمر . وعلى هذه الصورة كان مثال الأب الحنون سهرانا على راحة الجميع روحيًا وجسديا .
ثم إنه مرة قرر مع المدبرين أنه ممنوع شرب الدخان من غير إذن وأنه بعد قرع جرس النوم الساعة التاسعة مساء يجب على جميع الرهبان أن يطفئوا الأضوية في الغرف . وكان من عادة المترجم بعد أن يقرع جرس النوم يتفقد قلالي الرهبان بذاته . فليلة ما مرّ صدفة من أمام باب إحدى القلالي فشاهد الدخان خارجا من محل المفتاح في غال الباب فقرع الباب بلطف وقال :
“بصلوات آبائنا القديسين كما هي العادة وذهب من دون أن يدخل القلاية”.
فذاك الراهب ذاب خجلًا. والسبب في ذلك هو أن الراهب المذكور كان ممنوعا عن الدخان . وفي تلك الليلة ذاتها استحصل له الإذن أحد المدبرين بعد صلاة النوم فذهب ذاك الراهب إلى قلايته وشرع بالتدخين (الشبق) على حسب عادة ذاك العصر فداهمه فرع جرس النوم قبل نهاية شرب الغليون.

تاسعا – أمّا من جهة احتشامه وآدابه العمومية وصبره وطول أناته واحتماله وثباته على الجهاد في العمل لأجل خير الرهبانية ونجاحها أدبيا وماديا، فإنه كان سهرانا السهر الشديد على حفظ الآداب والكمال الرهباني التي كان هو صورته ط. لأنه عاهد على نفسه أن لا يبين نواجذه (أسنانه) أبدا . وكان عندما يضطر إلى التبسّم يضع يده على فمه النحيف الذي هو بحجم الزبيبة . وعند تناوله الطعام لا يقدر أحد أن يعرف إذا كان يحرك فمه أم لا . ومع ما كان عليه من الجلال والكمال لا يستنكف عن عمل أدنى الوظائف الديرية والخدم الدنية للدلالة على اتضاعه الفائق الوصف .
حلّة الطهر ملبوسة بأكمام تغطي يديه . متجلببا بالثوب الرهباني الكامل – ومجمل بالوقار. ونغمة صوته كان لها رنة عذبة في الآذان والساع . ولاسيما في أوقات الاحتفالات الكنسية التي كان يمثلها ويرتبها ويعلّمها إلى الرهبان. وعند ترتيله ترى الملائكة مرفرفة فوق رأسه والخشوع مالئ قلوب الحاضرين كأنّ على رؤوسهم الطير . وكلهم شاخصون في حركته المقرونة بالنظام البديع . وكان من أخص تلاميذه الذين أخذوا عنه بعض هذه الصفات الجميلة هم المرحومين الخوري جرجس عيسى الشهير الذي له اليد البيضاء في تأسيس المدرسة البطريركية وهو أول من أنشأها والإيكونومس يوسف الكفوري والمطران أغابيوس معلوف. فهؤلاء الثلاثة هم من أخص تلاميذه.
وأخيرا بقي مثابرًا على العمل في كرم الرهبانية والرئاسة العامة تتجدد له حتى عام ١٨٨٣ الذي فيه التأم المجمع العام . وقد أنهكه التعب والهرم وما عاد بإمكانه أن يزاول أعمال الوظيفة الكثيرة الأعباء التي خدمها زهاء نصف قرن .
فطلب رسميا من آباء المجمع أن يوجهوا انتخابهم إلى غيره وبمشورته انتخبوا الخوري سليمان الشامي رئيسًا عامًا والخوري يوسف كفوري مدبرا أولا وثانيا أغابيوس معلوف الذي صار فيها بعد مطرانا على بعلبك والمترجم ترك كل ما كان يمتلكه حتى بدلاته الكهنوتية فإنه وزعها على الرهبان الكهنة ولم يترك لنفسه سوى بدلة بسيطة وجرد قلبه من كل حطامات الدنيا . حتى إنه احتاج في آخر حياته إلى ثمن أوقية حليب فلم يكن معه وهكذا قضى حياته البارة في خدمة الرب مواظبا على الصلوات والتأملات إلى ٣٠ تشرين الثاني ١٨٨٦ التي فيها دنا وقت انتقاله . فاستدعى الرهبان الذين رباهم في الدير . وطلب منهم المسامحة قائلًا لهم : اغفروا لي يا أولادي وسامحوني عن زلّاتي التي صدرت مني في حقكم . والمثال المشكك الذي فعلته أمامكم . وبعد أن اقتبل الأسرار الإلهية شرع يقبل الصليب المقدس ويطلب من الرب يسوع المعونة على احتمال الآلام كما احتملها هو حبا بخلاصنا وكان يترنم بالمزامير والتراتيل الروحية والنوافذ السهمية . وبينا الرهبان يصلون طلبة العذراء ويتضرعون طارت تلك النفس الطاهرة إلى الأخدار الساوية كي تأخذ الإكليل المعد لها من الله تعالى . وعندما اشتهر خبر وفاته تقاطرت الجماهير الغفيرة من جميع الأنسباء والقرى المجاورة إلى الدير المذكور الذين أخذهم الأسف الشديد على فقد ذاك الملاك الأرضي والإنسان السماوي . وبعد ما عملوا له مناحة عظيمة حضرها علية القوم من علمانيين وإكليريكيين ابّنه تأبينا بليغا البروتوسنكلوس إكليمنضوس فرح المدبر الثاني . ودفن في المدفن المخصص لمشاهير الرهبانية، المدفون فيه البطريرك مكسيموس (الثاني) حكيم والشبّاس عبد الله زاخر والثالث هذا البار المترجم .
فليكن تذكاره مؤبدا مستحق الطوبي ودائم الذكر ، كانت وفاته، في دير الصابغ ، في عام ١٨٨٦ في ٣٠ تشرين الثاني عن ٨٤ عاما. )

الأرشمندريت ثاوفانوس عِكِّه، 
نشأته وترهّبه
وُلد أمين بن عبدالله عِكِّه في مدينة دمشق عام 1878، وهناك تربَّى، هو وإخوته العشرة وشقيقتاه، في كنف والدين فاضلين من طائفة الروم الملكيّين، في حي “باب مصلّى”، ونشأ نشأةً صالحة مزدانةً بأفضل المبادىء المسيحيّة وقيمها. 
دخل، وهو في السادسة من عمره، مدرسة الكاتدرائيّة في دمشق(1)، وكان رئيسها، في ذلك الحين، سيادة المطران نيقولاوس قاضي متروبوليت حوران(2). ولم تمضِ فترة من الزمن حتى بدت عليه علامات الذكاء والفطنة، المقرونة بجودة في القلب إلى رجاحة في العقل واتّزان في المسلك، فراح معلّموه يتوسّمون فيه خيرًا ويحلمون له بمستقبلٍ زاهر. وبعد أن استشار سيادةُ المطران تلميذَهُ وذويه، أرسله إلى مدرسة القديسة حنّه في القدس الشريف(3). درس هناك مدة أربع سنوات، كان، في خلالها، قدوة صالحة لأترابه ومثالاً حيًّا في توقُّد الذِّهن والاجتهاد، لكنَّه لم يكُن يتمتّع بصحة جيّدة تساعده على إتمام علومه، فاضطرَّ، مُكرهًا، أنّ يترك المدرسة الإكليريكيّة، وعاد إلى وطنه انتجاعًا للصحة، ومع ذلك بقي متمسِّكًا بدعوته الكهنوتيّة.
تحسّنت صحّته، بعد قليل من الرّاحة، فتوجّه إلى دير مار يوحنا الصابغ، في الشوير(4)، قارعًا بابه لينضمّ إلى سلك الرهبانيّة الشويريّة، وكان رئيسها العام، يوم ذاك، الإيكونومُس يوسف كفوري الذائع الصّيت (5). لبس أمين ثوب الابتداء في الأوَّل من شهر أيار 1895 ودُعي ثاوفانوس (6)، وبعد أن قضى في الدير سنتي الابتداء قَبِلَ، بكلِّ ارتياح، أن يرتبط بالنذور الرهبانيّة وذلك في السادس من شهر آب 1896. وبعد حين، أرسلَه رؤساؤه إلى جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيّين في بيروت، كي يتلقّى فيها الدروس الثانويّة واللاهوتيّة (7)، فمكث فيها أربع سنين اضطرَّ بعدها، لأسباب صحيّة، أن يعود إلى الدير.
وهناك، ضمن جدران الدير الصامتة وفي باحاته الهادئة البعيدة عن العالم، أنهى، بتعمّقٍ وتفوّقٍ زائد، دروسه الفلسفيّة واللاهوتيّة، على يد العلاّمة الفيلسوف واللاهوتي الكبير الأرشمندريت برنردُس غصن (8).
وبعد أن أتمّ دروسه كلّها، عُيِّن معلِّمًا في مدرسة الدير نفسه مدّة أربع سنوات، كان خلالها مثال المربّي الصالح والأب الحنون. وتقديرًا لمواهبه وفطنته وغيرته على مصلحة الرهبانيّة عُيّن، بعدئذٍ، مديرًا على الكليّة الشرقيّة في زحلة، وكان رئيسها، في ذاك الحين، الخوري بولس كفوري (9) .
فكان لهذا التكليف وقعُهُ الطيِّب في نفسِهِ التوَّاقة إلى حبِّ الخير والنفع، لاسيّما وقد فُتح أمامه مجالٌ رحبٌ لإبرازهما. فكان يدير المدرسة ويدرّس فيها العلوم العاليّة، حتى نبغ على يده شبّانٌ عديدون، نبهاء، فكان منهم الأطبّاء، والمحامون، والصيادلة، والتجّار، والكتاّب… الخ، وقد حفظوا له، جميعًا، كلّ المحبَّة والتقدير.
 
سيامته وخدمته الكهنوتيّة
تكرّس شمّاسًا إنجيليًّا في 21 كانون الأول 1903 عن يد المطران ملاتيوس فكّاك، متروبوليت بيروت (10)، في كاتدرائيّة مار الياس (11)، ثمَّ كاهنًا في 29 آب 1904، عن يد السيد أغابيوس المعلوف، مطران بعلبك (12)، في دير مار الياس الطُّوَق في زحلة (13)، وذلك بحضور جمهور غفير من أعيان البلد وموظّفي الحكومة وطلاّب المدارس، نظرًا لما كان للكاهن الجديد في القلوب من المحبَّة والاعتبار. هذا ولم يمضِ وقتٌ طويل على رسامته كاهنًا، حتى طلبه المطران فلابيانوس كفوري متروبوليت حمص وحماه ويبرود (14). فعُيِّن مديرًا للمدرسة الأسقفيّة في يبرود. وقد تميّز، أثناء السنوات الست التي أقامها هناك، بلباقته وحذاقته في إدارة التلاميذ وترقيتهم، واجتهاده في تثقيفهم وسهره على تربيتهم ونجاحهم، فنشأ على يده شبّان عديدون لا زالوا يحفظون له الإخلاص وعرفان الجميل. وقد أثنى عليه، مرارًا عديدة، الآباء اليسوعيّون لأعماله المجيدة، مظهرين له ارتياحهم الشديد إلى مقدرته وخبرته الواسعة في تدبير المدرسة، وعلى غيرته الرسوليّة المتوقِّدة في سبيل الدين والوطن. كما وأنَّ أهالي يبرود جميعًا، لم يكفّوا عن الثناء الطيّب عليه والإطراء في مدحه، كيف لا وقد رأوا فيه راعيًا أمينًا وأبًا محبًّا، عطوفًا على خيرهم الروحي والزمني، يبذل الغالي والنفيس في سبيل راحتهم وتقدّمهم، لا يعيقه عائق ولا تخور له عزيمة مهما اعترضه من صعاب، وحالت دون تحقيق غايته المشاكل والعقبات. ولعلّ أوضح دليل على مروءته وغيرته هو مؤازرته لأهل يبرود في تعليق جرس كبير على قبّة الكنيسة كي يدعو المؤمنين إلى الصلاة، رغماً عن المعاكسات والمقاومات الشديدة التي أبداها بعض مسلمي تلك المنطقة المتعصّبين، إلى أن تمَّ له ذلك بمساعدة قنصل فرنسا.
وبعد مضي ست سنوات مفعمة بالجد والاجتهاد والأعمال المتعبة، المكلَّلة، دائمًا، بالنجاح، عاد إلى زحلة تلبية لطلب سيادة مطرانها كيرلس مغبغب (15)، الذي أصبح فيما  بعد بطريركًا. فأَسند إليه إدارة مدارس الأبرشيّة في زحلة والبقاع (16)، وعيَّنَه نائبًا أسقفيًّا عامًّا. وقد مكث رئيسًا للمدارس ونائبًا عامًّا زهاء سبع عشرة سنة، تمتّع خلالها بمحبّة مطرانه وتقديره، إذ كان ساعده الأيمن نظرًا لعلمه ورجاحة عقله وحنكته الأدبية وإدارته الرشيدة في حلِّ المشاكل الهامّة، كما كان مُعتَبَرًا ومحبوبًا من الشعب الزحلي الكريم.
 
ترقيته إلى رتبة أرشمندريت
وفي اليوم الأوَّل من شهر كانون الثاني سنة 1914 أنعم عليه مطرانه بترقيتِه إلى رتبة أرشمندريت. وهذا الإنعام مسجَّل في ديوان المطرانيّة الزحليّة تحت رقم 1279 صفحة 106 مجلد رقم 1، وسلَّمه صكًّا بهذا الإنعام موضحًا الأسباب التي جعلته يستحق هذه الرتبة الكنسيّة الشريفة، ومقدِّرًا جهاده وأعماله التي قام بها (17).
وفي حفلة دينيّة مهيبة جمعت كافة رجال الإكليروس البقاعي وأعيان زحلة وأشرافها وجموع الطلاّب والطالبات، وأثناء القدّاس الإلهي، بعد تلاوة الإنجيل المقدَّس، وقف سيادة المطران مغبغب على منصّة عاليّة، وأوعز لأحد الكهنة بقراءة منشوره على جمهور المصلّين، شارحًا فيه الخدمات التي أدّاها نائبُهُ الأب ثاوفانوس تجاه سيادته ونحو الأبرشيّة، وتقديرًا منه للجميل، يُعْلِنُ ترقية نائبه إلى درجة أرشمندريت، مهنّئًا إيّاه بما هو أهل له وكفوء به. وعند الفروغ من تلاوة المنشور، ألبسه سيادة المطران، بيده الكريمة، الشارات الخاصَّة بهذه الرتبة الشريفة، واضعاً في أصبعه الخاتم وعلى صدره الصليب الكريم، وتوَّج رأسه باللاطية.
وهكذا زاد إخلاص واحترام لفيف المؤمنين للأرشمندريت الجديد، وأَوْلوه ثقتهم واعتمدوه في كلِّ مفصِلة كبيرة كانت أم صغيرة. فما كان منه، والحالةُ هذه، إلاَّ أن ضاعف غيرته على النفوس والجرأة الحيَّة في العمل المثمر والرحمة الصادقة على القلوب البائسة، يساعده على ذلك توقّد في ذهنٍ، إلى حنانٍ في قلبٍ ووداعةٍ في طبعٍ، أضف إلى ذلك نفسًا قويّة وهمَّة عالية مقرونة بإخلاصٍ في العمل وكَرَمٍ في العطاء لا ينضُب معينه، ممَّا جعله يكسب، بشعبيَّتِه هذه، عطفَ وحبَّ أبناء الأبرشية وسواها. وإذا ما جاز لنا التكلُّم عن صَدَقاته فإنَّنا لا نجد لها حدًّا نقف عنده، إذ إنه كثيرًا ما كان يتقرَّب من الفقراء والمعوزين بجزيل عطائه، ومن العيال المستورة بأمواله الخاصة في أكثر الأحيان، دون أن تعرف شمالُهُ بما فعلت يمينُهُ. كما أنّه كان يحلُّ كلَّ مشكلات الأبرشيّة الدينيّة منها والمدنيّة، بكلِّ نشاطٍ وبهمَّةٍ لا تعرف الملل ولا الكلل، ناهيك عن الإرشادات والعِظات المحبَّبة إلى النفوس، والمستساغة بأسلوبه العذب السهل المتين، مستشهدًا بأمثال القديسين والشهداء الأبرار، حاثًّا الشعب على تمسّكه الكلّي بأمّه الكنيسة البطرسيّة الرسوليّة وبالطاعة لها، مستقصيًا من أعمق الأفكار وأوفاها للتعبير عن فكرته، وكلّ ذلك بصوتٍ جهوري يجمع الليّن في الاستمالة والتأثير، إلى الشِّدة في النهي عن المُنكر وتجنُّب الرذيلة. هذا فضلاً عن الأعمال التي كان يُقْدِم عليها بكلِّ حكمةٍ واتّزانٍ وشجاعة.
 
إتّهامات مُلفَّقة بمناوءة السَّلطنة العثمانيّة
وفي أثناء الحرب العالميّة الأولى سنة 1917، أيّام العثمانيّين أو بالأحرى أيّام المشانق، وقف الأرشمندريت عِكِّه أمام السفّاح جمال باشا(18) وأزال التهمة الموجَّهة إليه من بعض الوُشاة، أصحاب الضغائن من أبناء السوء، الذين كانوا ضدّه، عقيدةً، وضدّ سيادة المطران كيرلُّس مغبغب يوم ذاك، لأنَّهما كانا من أخصام العشيرة الماسونيّة (19) أو إذا شئت تلك البدعة المتستّرة وراء ستار الاجتماعات السريّة، التي لا يطّلع على حقيقتها إلاّ من دوَّن اسمه في سجلاّتها. فأعضاء هذه الجمعية أرسلوا إلى جمال باشا عدّة شكاوى ضدّ المطران ونائبه، مخترعين الأقاويل الملفَّقة والأكاذيب المصطَنعة، التي من شأنها الإيقاع بالمطران ونائبه بقولهم مثلاً: “أنَّ سيادة المطران قد اتفّق مع دولة فرنسا، خفية، ضدّ الدولة العثمانيّة، فهو يراسِلُها ويعلمها عن كلِّ حركة يقوم بها العثمانيّون في بلادنا، وذلك بواسطة وكيله الأرشمندريت عِكِّه، وأنَّ هذه الرسائل تُرسل لفرنسا عن طريق بلدة جونيه”. ولنجاح خطّتهم لدى جمال الظالم، لفّقوا خطابًا على لسان المطران مغبغب وبصموه بإمضاءٍ له، مزوَّر، وأرسلوه إلى الحاكم العسكري، جمال باشا، مرفقين به تحريرًا آخر على لسانهم قائلين فيه: “نحن مرسلون لدولتكم الكتاب المرفوع لدولة فرنسا، وما ذلك إلاّ لنُثبت لفخامتكم صدق قولنا. وأنَّنا قد استحصلنا عليه بنوعٍ عجيب، إذ قد وقع من جيب وكيل المطران بينما كان يستقلُّ القطار المتوجِّه إلى بيروت، دون أن ينتبه لسقوطه”. 
وعندما استلم، جمال باشا الرسالة واطَّلع على مضمونها، أبرق، في الحال، مستدعياً المطران مغبغب ووكيله لمواجهته في ديوانه العرفي ببلدة عاليه.
*********
وفي صباح اليوم التالي بينما كان سيادة المطران عائدًا من المعبد، إذا بساعي البريد واقف بباب المطرانيّة ينتظر قدومه، وما إن شاهدَهُ الرجلُ حتى أسرع إليه محيّيًا، فأعطاه البرقيّة، بعد أن لثم يده، وانصرف. أخذها سيادته بكلِّ هدوء ودخل غرفته متسائلاً: “ترى ماذا تحمل لنا هذه البرقيّة مع هذا الصباح الجميل؟”… وما إن فضّها وقرأ عبارتها حتى تجهَّم وجهه غيظًا، واضطربتْ أعصابُهُ على هَلَعٍ واستغراب… فما كان منه إلاّ أن استدعى نائبه وأطلعه على ما جاء في البرقيّة المشؤومة. تعجب النائب حينئذٍ من هذا الطلب، وخاصَّة، من اللَّهجة القاسية التي صيغ بها، وهما يعرفان أنَّ الذي يستدعيه جمال باشا إلى ديوانه العرفي يكون مصيره المشنقة لا محالة. فقال النائب، بعد أن أدرك أنْ ليس له حيلة يتدبَّرُها للتخلّص من هذا المأزق الحرج: “لنتَّكل على الله والعذراء مريم فهما خير عون لنا، ولنذهب فإنْ كانت لنا الحياة عدنا سالمَين، وإلاّ فلتكن مشيئة الله…” وأخذ كلٌّ منهما يستعد لتلك الرحلة بحزمٍ ورباطةِ جأشٍ، لأنَّ النفس تحدِّثه بالنجاة والظفر الأكيد من براثن هذا السفّاح.
وما إن خلا سيادة الأرشمندريت إلى نفسه، في غرفته حتى بعث في طلب شقيقته لمشاهدتها قبل سفره. وبعد وقت قليل حضرت “شاهنده” (20) إلى دار الأسقفيّة وكان برفقتها ولدها ديمتري الذي لم يتجاوز السادسة من عمره، فدخلت غرفة أخيها، وجلست، بجواره، تستطلعه سبب دعوتها إليه، وكانت علامات الحزن بادية على وجهه، فأدرك أنّ مظهره يدعو إلى الرّيبة والخوف، ومن المستحسن أن يتكلَّم فورًا دونما لجوء إلى لفٍّ أو دوران. فأخبرها قائلاً:
“غدًا سأَذهب وسيادة المطران إلى عاليه لمواجهة جمال باشا…” وتناول من جارور مكتبه علبة تحتوي على الصليب والخاتم الحَبْريّين، وناولهما إليها وهو يقول: “احفظيهما عندك إلى حين رجوعي”. عندها خامرها شكٌّ وتوجّست فزعًا، وقد راحت الدموع تتسارع على خدَّي الشقيقة بغزارة عندما قالت: “لا… لا تذهب! لا تذهب…!!” فكفكف أخوها دموعها بقوله: “لا أيتها الأخت الحنون، نحن ذاهبان لزيارته فقط وسوف ندعوه لزيارة زحلة، ولربَّما مكثنا أسبوعًا في بيروت لأشغال خاصة”.
وهكذا طيّب خاطرها وهدّأ من روعها فقنعت بعودته سالمًا مع سيادة مطرانه، وانصرفت على أملٍ، بلقاءٍ قريب.
بعد ذلك، استدعى الأرشمندريت السيد هيكل مغبغب، وهو أحد أقارب سيادة المطران وأمين صندوق المطرانية، وقال له: “نطلب إليك أن تُحضر لنا غدًا صباحًا عربة تحملنا إلى شتورة لزيارة السيّدة سلمى بولاد (21)، ذات الصيت الحسن، لكي ندعوها، مع زوجها، لحضور القدّاس الإلهي الذي سنقيمه نهار عيد انتقال العذراء”. وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر آب عام 1917 أي قبل عيد السيّدة، شفيعة الأبرشيّة، بخمسة أيّام، وهو، أيضًا، عيد الكاتدرائيّة في زحلة(22).
وفي الصباح الباكر كانت العربة تنتظر أمام دار الأسقفيّة فاستقلّها سيادة المطران ونائبه، وراحت تعدو باتجاه شتورة. وما إن بلغا دار السيّدة سلمى المعروفة بكرمِها وجودها حتى هشّت لهما مرحِّبَةً ومكرِّمةً وفادتهما. وبعد استراحة قليلة في ضيافتها، وجَّها، لها ولزوجها المفضال، دعوة لحضور القدّاس الحبري الذي سيُقام نهار العيد، كالعادة، في الكاتدرائيّة. وقبل أن يخرجا من دارها طلب النائب منها صندوقًا من أفخر عنب شتورة مع بضع زجاجات من النبيذ المعتَّق ليقدِّمها، هديّةً، لأحد أصحابه في عاليه. وفي الحال أومأت إلى أحد الخدم بإحضار ما قد طُلب منها. وبعد بُرهة جاء الخادم مُعلنًا أنَّ مطلوبَها أصبح في العربة، عندها، ودَّعاها بعد أن شكرا لها حُسن صنيعها، وذهبا إلى قرية جديتا. كان وصولهما إلى جديتا نحو الساعة الثامنة والنصف صباحًا، وهو موعد مجيء القطار الذاهب إلى بيروت. وصل القطار، فاستقلاّه، وأوعز النائب إلى سائق العربة التي أقلتّهما بالرجوع إلى زحلة.
وفي الطريق خاطب النائب مطرانه قائلاً: “إنّي أرى، أنَّه من واجبنا أن نزور كاظم بك الحمداني قبل مواجهة جمال باشا، لعلّه يُطلعنا على الأمر الذي من أجله طُلبنا”.
وكان كاظم بك قائدًا عثمانيًّا في الجيش التركي، ومرافق جمال باشا الخاص، وصديقًا حميمًا لسيادة المطران ونائبه الأرشمندريت.
 
مثوله أمام جمال باشا وتبرئته من الإتّهامات
 
دخل القطار الحديدي محطة عاليه نحو الساعة العاشرة صباحًا، وتوقّف فيها، فترجَّل منه المطران والأرشمندريت واستأجرا عربة، وأوعزا إلى الحوزي بالاتجاه إلى دار القائد الأعلى كاظم بك، وعند وصولهما إلى الدّار، قرع النائب الباب ففتح أحد الخَدَم، وبادرَهما بقوله: “من تُريدان؟…”
فقدمَّ النائب له بطاقة كُتب عليها هذه العبارة: “مطران زحلة ونائبه يرجوان مقابلة عزتلو كاظم بك المعظَّم”، وحينما قرأ القائد هذه العبارة أمر الخادم بإدخالهما حالاً إلى قاعة الاستقبال. وما هي إلاّ دقائق حتى أطلَّ عليهما بوجه باش محيِّياً، وأخذ يتبادل معهما عبارات الترحيب والمجاملة. وقبل أن يعرضا عليه المشكلة قدَّم له النائب الهدية قائلاً: “هذا عنب ممتاز من كروم زحلة عروسة لبنان نرجو أن تقبلها، مع هذه الزجاجات من النبيذ الجيّد، هديّة من سيادة المطران، علَّها تحوز منك الرضى والقبول…!” فقبلها شاكرًا… وبعد حديث قصير دار حول أمور اقتصاديّة واجتماعيّة، قال النائب: 
“إننَّا قد طُلبنا، رسميًّا، لمواجهة سعادتلو، عزتلو جمال باشا المعظَّم، ولا عِلم لنا ولا خبر عن بُغيته، وقد يكون عندكم إطّلاع على هذه المسألة؟ نسأل حضرتكم، إذا أمكن، أن تقدّمونا له” فأجابهما كاظم بك: “إني سأكون برفقَتِكما عند الباشا…!”
وبعد قليل كانا ينتظران في دار المجلس العرفي حيث تركهما القائد وذهب إلى حيث لا يدريان.
وبعد انتظار دام نصف ساعة، فُتح باب القاعة الكبير، وبدا منه حاجبٌ، وبصوت جهوري قال: “مطران أفندم: ادخل!…”
فدخل سيادة المطران وامتثل أمام جمال باشا وكان جالسًا على منصّة عالية وأمامه منضدة طويلة وهو يقلّب بين يديه، مجموعة من الأوراق. وقد جلس إلى جانبيه عدد من القضاة والكتّاب، وعدد من الجند والحرس، الذين أحاطوا بأربع جهات القاعة وقوفًا كأنَّهم أصنام شاخصة. فوقف سيادة المطران في وسط القاعة بكلِّ وقار واحترام، وراح جمال باشا، الحاكم العسكري، يستجوبه عن موقفه تجاه الدولة التركيّة وخيانته لها، وعن صداقته لفرنسا. فكان يجيبه، صادقًا، بأن ليس له أيّة علاقة مع فرنسا حتى ولا مع سواها من الدول. ثم أخذ بإطراء دولة تركيا معبِّرًا عن حبِّه الخالص لها. وبعد أخذ وردّ قال جمال السفّاح: “لديّ مكتوب خيانة منك وبإمضائك أنت… ضد دولتنا العَليَّة… وأنَّك تُنكر ذلك علينا وتمدحنا بوجهنا. إنَّك ولا شك خدّاع ماكر… إقترب، إذن، وضع إمضاءك على هذه الورقة”. فتقدَّم سيادته وخطّ عليها إمضاءه أمام الحضور بكلِّ جرأة وحزم.
وكانت الورقة بيضاء لم يُسوَّد عليها شيء… ثمَّ أخذه الجند بعد ذلك إلى غرفة ثانية، ونادى الحاجب بصوته المألوف: “ليدخل وكيل المطران”.
دخل النائب ووقف في وسط الديوان، بين الجند والحرس، صامتًا، بينما راحت هيئة المحكمة في التحدّث والتشاور فيما بينها باللغة التركيّة. وبعد برهة سأله جمال باشا عمّا يعرفه حول خيانة مطرانه لدولة تركيا وعن الرسائل المرسلة لدولة فرنسا ضد الدولة العثمانيّة بعلمه وتحت إشرافه…؟
وقبل أن ينتظر إفادة من النائب راح يكيل له وللمطران الشتائم والإهانات البذيئة والأوصاف البربريّة التي يشمئزّ منها الإحساس وتنفر منها الأخلاق والقيم. وعندما كَلَّ لسانه وفرغت جعبته من سفيه أوصافه توقَّف عن هياجه وحدّق به طويلاً بعينين كجمرتين يتطاير منهما شرر الغيظ والضغينة، فبدا والحالة هذه أشدّ ما يكون شبيهًا بوحش كاسر منه بآدمي عاقل. غير أنَّ هذه المزاعم وهذا الإرهاب لم تكن لتَحُطَّ من عزيمةِ النائب وتجلُّدِه، بل زادته رسوخًا وتشبّثًا بالحقيقة الراهنة، ودفعته إلى التصريح بكلِّ جرأة وهدوء: “إسمحوا لي، يا سعادة الحاكم، بكلمة ولو قصيرة، والله شاهد على ما أقول بأنَّ سيادة مطراني براءٌ من هذه التُّهم. فهو ما خان ولن يخون يومًا دولة تركيا العَليَّة، بل هو صديقٌ حميمٌ لهذه الدولة المعظَّمة، وأنَّ كلَّ ما نَقَلَه الوشاة إلى مسامعكم عنه ما هو إلاّ خلافٌ للواقع وبهتان، إذ إنَّ الواشين هم كذبة جبناء ومغرضون”.
وما إن فرغ من إفادته هذه، حتى هوى جمال باشا بمطرقته على الطاولة، فسُمع لوقعها دوي هائل تجاوبته أطراف القاعة واهتزت لهوله الأفئدة، وعقبه صمت رهيب هو بصمت الأبديّة أشبه. وكانت علائم الغضب قد بدت على سحنته وتجلَّت في نبرات صوته حين قال: “ألا تعلم، يا خوري، أنَّ في حوزتنا كتابًا من حضرة مطرانك وبإمضائه، يكشف النِّقاب عن عظيم خيانتكما لنا ولدولتنا الجليلة ويُظهر ميلكما المفرط لفرنسا! ليس مكتوبٌ واحدٌ وحسب، بل عدَّة مكاتيب تُثبت بوضوح جريمتكما النكراء هذه!…” ثمَّ أردف قائلاً: “إقترب من هذه المنصَّة وانظر بعينيك إلى إمضاء مطرانك”. (وكان جمال باشا واضعًا أمامه الكتاب المرسَل إليه قُرب الورقة التي وقّعها المطران، ولا يُظهر منهما إلاّ الإمضاءات فقط، وقد ستر القسم الباقي بدفتر كبير).
فتقدّم النائب من المنضدة الكبيرة بخطوات واثقة، وألقى بنظره إلى التوقيعين؛ وما إن تأمَّلهما، مَليًّا، حتى وضع أصبعه على الإمضاء الصحيح قائلاً: “هذا إمضاء سيادة مطراني أما الثاني فهو محض مزيَّف…” 
عندها رفع الباشا الدفتر الذي أخفى تحته الورقتين. وكم كانت دهشة الباشا عظيمة عندما رأى أن التوقيع الذي أومأ إليه النائب هو الذي وقّعه المطران منذ قليل على الورقة البيضاء… وليس ذاك…!
وفي الحال ظهرت على مُحيّا جمال باشا إمارات الإرتياح، إذ قد بدت له التهمة عارية من الصحّة، وتجلّت أمامه الحقيقة كالشمس، ففهم أنَّ كلَّ ما حمله إليه الوُشاة ما هو إلاّ تعدٍّ وافتراء، وأنَّ ما لمسه في شخصيّة النائب من جرأة صادقة وشجاعة أدبيّة فذّة ودقّة في التمييز بين الإمضاءين بهذه السرعة، إنَّما يُثبت بوضوح صدق أقوالهما وحسن نيَّتهما. فأقرَّ لساعته، وقد توفّرت لديه هذه الإثباتات جميعها، برفع التهمة عنهما، وأعلن براءتهما أمام الحضور. فخرجا من القاعة مرفوعَي الرأس بعد أن شكرا له عدله وإنصافه، وبعد أن طلبا له دوام الحكم وطول العمر… إذ إنَّهما ما كانا ليحلما قطّ بعودتهما سالمَين. وقد خرج معهما جمال باشا مشيِّعًا حتى باب المجلس الخارجي حيث ودّعهما وانصرف.
وهكذا نجا الأرشمندريت عِكَّهْ من الموت، هو وسيادة المطران مغبغب، وانتصر على أكبر مؤامرة حيكت على حياته وحياة مطرانه، وذلك بفضل ما أوتيه من ذكاء ودراية وشجاعة حقّة، مرتكزة على دعائم قويّة من محبَّة ورأي سديد وإيمان قويم “بأنَّ الغلبة للحقّ لا للقوّة”.
وفي الطريق المؤدّي إلى الشارع العام لقيهما القائد عزتلو كاظم بك، فدعاهما لتناول الغداء على مائدته، فقبلا الدعوة وتوجّها إلى داره. وبعد الغداء سألهما عن سبب مواجهتهما للباشا، فأخبراه بكلِّ ما جرى. وكانت الساعة قد قاربت الثالثة بعد الظهر وهو موعد مجيء القطار الحديدي الذاهب إلى بيروت. فاستأذنا من القائد وودّعاه بعد أن شكراه على فضله وإحسانه، فما كان من القائد إلاّ أن أوعز إلى سائق عربته بأن يوصلهما إلى المحطة. وهناك كان القطار على أُهبة الاستعداد للانطلاق، فصَعِداه بسرعة وسار بهما، متسلِّلاً بين الأشجار والبساتين كالحيّة الرقطاء، إلى أن توارى عن الأنظار. وعند المغيب، وقبل أن تلملم الشمس خيطان أشعّتها الذهبية عن صفحة الأبيض المتوسِّط، توقّف القطار في محطّة بيروت، فترجّلا منه وذهبا لقضاء بعض الأشغال.
 
جهاد وتقدير
 
بعد انقضاء ثلاثة أيّام غادر المطران ونائبه بيروت متوجّهَين إلى زحلة، كي يقوما في اليوم التالي بالمراسيم الدينيّة لعيد سيّدة النجاة، شفيعة الكاتدرائيّة. وفي صبيحة العيد استيقظت زحلة على قرع الأجراس، التي أخذت تؤلِّف، في الفضاء، موسيقى حلوة يُردِّدها الوادي الجميل بأنفاس طاهرة، فتبعث في قلوب المؤمنين الغادين إلى الصلاة نفحة من القداسة والورع، فيدخلون المعابد وكلّهم قلب ينبض تُقىً وحبًّا وإيمانًا راسخًا بالله وأمّه البتول.
احتفلت الكاتدرائيّة بهذا العيد السنوي الرائع. فأقيمت القداديس منذ الصباح الباكر. وأقام سيادة المطران قدّاسًا حبريًّا حافلاً احتشدت فيه جماهير غفيرة من المؤمنين، جاءت تلتمس البركة وتدعو الله إلى مؤازرتها في تحمّل موبقات هذا العصر ومفاسده. وقبل انتهاء القداس ألقى سيادة الراعي الصالح كيرلُّس مغبغب كلمة عن هذا العيد وعظمته، وأتى فيها، على ذكر رحلته إلى عاليه، مع نائبه، ومقابلته لجمال باشا وعن نتائج تلك الرحلة، داحضاً أقوال الوُشاة الفاشلين الكذبة، وموجِّهًا كلامًا قاسيًا إلى أبناء البدعة الماسونيّة، التي دبّرت له، في الخفاء، هذه المؤامرة. وفي النهاية حثّ الشعب ليتمسّك بالدّين القويم ويتقرّب من الله بالصلاة لأُمِّه العذراء شفيعة زحلة ولبنان.
وما إن انتهى القدّاس الإلهي حتى اجتمعت جماهير المصلّين في الدار الأسقفيّة، وراحت تَبثُّ سيادته عبارات التهنئة بالعيد وبعودته، مع النائب، من عاليه سالمَين، مرفوعَي الجبين.
وعندما انتهت الحرب الكونيّة سنة 1918 واستتبّ الأمن وساد السلام بين الدول أحبَّ سيادة المطران مغبغب أن يكافىء نائبه على جميع الخدمات التي قام بها طيلة الحرب وقبلها. وفي أثناء احتلال سورية ولبنان طلب له، من الدولة الفرنسيّة، وِسام الجهاد برتبة “بطل” وقدَّمه له إكبارًا لفضله وعرفانًا لجميله ومكافأة لإعماله ومبرَّاته. فضاعف، إذ ذاك غيرته وإخلاصه واستقامته في أعماله، ممَّا حمل الشعب على تعميق الحب والإخلاص له (23).
ولمّا انتُخب المطران مغبغب بطريركًا، في 8 كانون الأول سنة 1925، كان الشعب يتوقّع تنصيب الأرشمندريت عِكِّه مكانه على كرسي الأبرشيّة الزحلاويّة. وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما وقعوا على خلاف ما توسَّموا… وذلك لأسباب لا مجال لذكرها. 
 
 في دير سيدة النياح (26)
 
لم تمضِ بضعة أشهر على انتخاب المطران مغبغب بطريركًا، حتى عاد الأرشمندريت ثاوفانوس إلى العمل في رهبانيّتة، كونه مدبِّرًا في عمدتها (25). كما رأس، بصفة مرشد، دير راهبات سيّدة النياح، قرب بسكنتا، نظرًا لشدَّة الغيرة، وعلو الهمّة، وقوَّة المقدرة في التدبير التي كان يتمتّع بها، والتي كان بحاجة إليها مركزه الجديد(26).
أمّا دير السيّدة هذا، فهو بناءٌ ضخم قائم على رابية جميلة من روابي صنّين الشامخة خلعت الطبيعة على موقعة أروع مواهبها، تحيط به غابات مترامية من السنديان والشربين تطرح عليه سترًا من الظل، ناعمًا عابقًا بالقداسة والمحبَّة والسلام والطمأنينة. يقطنه خمس وعشرون عابدة من عابدات الله، غنيّات بالتقوى والفضيلة. إلاّ أنَّ الحرب العالميّة كانت قاسية الوطأة عليه فتداعى بنيانه وحلّ الخراب بأملاكه فلم يعُد ريعها يكفي للقيام بإعالة راهباته. فكان تعيين هذا الراهب رئيسًا عليه نعمة إلهيّة، إذ قد ألبسه حلّة قشيبة من الإصلاح والترميم، واستثمر أملاكه وحسَّن معيشته وسعى لشق طريقٍ للعربات إليه (27)، مضحِّيًا في سبيل هذه المشاريع بكثير من ماله الخاص، حتى جعله مزارًا يحجّ إليه الناس من كلِّ حدبٍ وصوب. وكان يُدير هذا الدير بورعٍ وحكمة عزّ نظيرهما، وطالما ذكَرَته الجرائد اللبنانيّة مبيّنة ما يخالج أفئدة الراهبات المتنسّكات من السرور والفرح لوجود مرشد رزين، حكيم وتقيّ، بينهنَّ، يحفَظنَ له الجميل الطيّب نظرًا للغيرة التي كان لا ينفكّ يبذلها، سخيّة، في سبيل الخير الروحي والمادي لهنَّ (28).
وفي أثناء وجوده في الدير المذكور سنة 1930، منحته الجمعيّة العلميّة في باريس وِسام الشرف والاستحقاق بواسطة أمين سرِّها في لبنان (29)، مُعلنةً تقديرها للخدمات التي قام بها سيادة الأرشمندريت ثاوفانوس عِكِّه، وللجهود الجبّارة التي بذلها في إدارة المدارس التي عُهدت إليه إدارتها زهاء ثلاثين عامًا؛ في يبرود وزحلة والبقاع وبيروت، وخاصة العناية التي بذلها لنشر اللغة الفرنسيّة في تلك الأصقاع. وقد نشرت هذا الخبر جريدة البشير اللبنانيّة، في حينه، مُعلنة لقرّائها هذه البشرى السارّة وهذا الإنعام الذي استحقّه، وذلك في عددها 4045 الصادر في 16 كانون الثاني سنة 1930.
وعندما علم سيادة الأرشمندريت بما جرى له من قبل الجمعيّة، وبإنعامِها عليه بهذا الوسام الرفيع، أخفى أمره عن سكّان الدير والجوار، لأنَّه لا يرغب في فخفخةٍ ولا يرتاح إلى ظهور. غير أنَّ إرادة الله فوق كلِّ إرادة، إذ إنَّ الراهبات عرفن، بعد مدّة، من المطران باسيليوس قطّان، متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما (30)، من خلال الرسالة التي أرسلها لرئيسة الدير المرحومة الأم أنيسه معلوف (31)، والذي، بها، يهنّئها وراهباتها بمرشدهنَّ، لحصوله على هذا الوسام الذي هو أهلٌ له. وعندما قرأت الأم الرئيسة، على مسمعٍ من الراهبات، ما جاء في رسالة سيادته، فرحن كثيرًا لهذه البشرى وأخبرنَ أهالي القرى المجاورة، فحضر مشايخ آل الخازن الكرام مع رهطٍ كبير من الأهالي وكهنة الرعايا مقدِّمين له تهانيهم القلبيّة، مظهرين له مودَّتهم وتقديرهم ومحبّتهم. وبعد أن قضوا النهار بزيارة الدير ورئيسه المفضال، غادروه ولسان حالهم يقول: “هنيئًا لهذا المرشد الغيور أن يُكافأ بمثل هذا الوسام، فإنَّه جدير به…”
كان في نيَّة هذا الأب الفاضل ألاّ يترك هذا الدير طيلة حياته، لأنَّه وعد نفسه أن يُكمل أيامه في التنسُّك والمناجاة، مع أولئك الراهبات العابدات الله وأمّه البتول شفيعة الدير والجوار.
 
إلاّ أنَّ إرادة الله حالت دون تحقيق أمنيته. فبعد جهدٍ وإلحاحٍ كلّي من قبل سيادة الأب العام الأرشمندريت ثاوضوسيوس المعلوف (32)، وتلبيةً لأمر الطاعة، تراجع عن فكرته، وترك الدير دون أن يُعلم أحدًا من سكّانه، إذ عُيِّن راعيًا لخدمة النفوس في كنيسة المخلِّص في بيروت، وذلك بطلب من سيادة مطرانها باسيليوس قطّان.
 
خادم رعيّة المخلِّص (33) ورئيس مدرستها
 
بعد تعيينه راعيًا لكنيسة المخلِّص، بمدة وجيزة، أرسل الأرشمندريت عكّة كتابًا لابن شقيقته، الذي كان صيدليًّا في بسكنتا، يُعلمه، فيه، بالتكليف الجديد، ويطلب منه أن يذهب إلى الدير ويجمع حوائجه الخاصة، بعد أن يُعلم حضرة الأم الرئيسة والراهبات بما حدث (34)، ويقدِّم إليهنَّ كتابًا منه يودّعهن فيه، ويشكرهنّ على ما بدا منهنّ نحوه؛ من غيرة وعطف وإخلاص، مدّة ترأّسه ديرهنّ، طالبًا من الله أن يحفظهنَّ ويُرسل لهنَّ مرشدًا سواه، يكون غيورًا على أنفسهنَّ النقيّة ويقوم بخدمتهنَّ خير قيام، كما ويعتذر منهنّ لعدم تمكنّه من الحضور، في الوقت الحاضر بسبب استلامه مهام رعيّة المخلِّص، وقد وعدهنَّ بزيارة عندما تسمح له الظروف.
وعندما قرأنَ كتابه هذا، أَجَبْنَ بصوت واحد: “لا نقبل مرشدًا علينا سواه، هو مرشدنا الأوحد بل هو أبٌ لنا” (35). إنَّنا نحتجّ على هذا التعيين لأنَّه مخالف لإرادتنا وقوانيننا الرهبانيّة، خاصة وقد صدر دون استشارتنا، ولنا حق الاستشارة في النقل والتعيين. وعندما علم هو بما جرى بينهنَّ ومرادهنّ الاحتجاج على هذا التعيين، أرسل لهنَّ تحريرًا مطوَّلاً يُقنِعهنَّ، فيه، بالرضوخ للواقع، والتراجع عن عزمهنّ، وبالامتثال لمشيئة الله وعنايته القدّوسة، وذلك بكلامٍ كلّه حنو ورأفة، وأمثال كلّها عظات وحِكَم.
وهكذا غادر الأب ثاوفانوس دير سيّدة النياح، تاركًا في قلوب الراهبات خاصة وقلوب أهل الجوار عامّة، الذِّكر الحسن في الفضيلة والتواضع والتقوى المقرونة بحسن الإدارة والتدبير، الذي تعوَّد أن يتركه حيثما حلّ وأنّى وُجِدَ.
قضى ست سنوات راعيًا أمينًا لكنيسة المخلِّص في حي الدحداح ببيروت، وهو يواصل الجدّ والعمل المثمر، في صلاة ووعظ وإرشاد حتى مالت إليه قلوب أهل الرعيّة مُقدِّرة كبير نشاطه وعظيم خدماته بقلب ملؤه التحنان والرحمة. ونظرًا لخبرته الواسعة وعلمه الرفيع وحبّه لخدمة النشء والمجتمع، رَأَسَ مدرستها الشهيرة مدة ثلاث سنوات (36)، أظهر، خلالها، مقدرة عظيمة في تثقيف طلاّبها وتقدُّمهم في حقلي العلم والأدب، أضف إلى ذلك تفوُّقًا بارزًا في حبِّ الله والوطن.
 
 
في خدمة البطريركية الجليلة بدمشق
(1934 – 1938)
ونزولاً عند طلبه المتكرِّر لإعفائه من خدمة رعية المخلِّص، نظراً لوضعه الصحّي، قبل المطران باسيليوس قطان، متروبوليت بيروت، استقالته في 34 أيار 1933 (37).
وبينما هو في هذه الغمرة من الخير والعطاء الذي لا ينضب معينهما، طلبه غبطة البطريرك مغبغب من سيادة الأب العام، ليكون خادمًا في كنيسة القديس جاورجيوس في باب مصلّى بدمشق (38)، ومعاونًا لسيادة المطران  أنطونيوس فرج  هناك(39). وعملاً بفروض الطاعة الكهنوتيّة انتقل إلى دمشق. وأوَّل عمل قام به في مركزه الجديد هو تبليط دار الكنيسة الخارجيّة الفسيحة، بأحدثِ بلاط الموزاييك، وفتحُ بابٍ كبير لها مؤرِّخًا أعلاه على لوحة: “تجديد الدار في عهد غبطة البطريرك كيرلُّس التاسع مغبغب بطريرك أنطاكية وسائر المشرق”.                
ثمّ أخذ يقوم بإصلاح ما يجب ترميمه من بناء وغيره؛ كما أنَّه جمع شمل القلوب المتنافرة بين الرعيّة. وجدَّد تعيين وكلاء الكنيسة، وهم يُدعَون “قومّيسيون” أو “جمعية الكنيسة”، التي حُلَّت بسبب خلاف قام بين أعضائها. وهكذا كسب عطف واحترام جميع الطوائف على السواء، بما فيها الإسلاميّة، لأنَّهم رأوا فيه ذلك الرجل المثالي في التقوى وعدم التعصُّب الديني وحبِّ التعاون بين أبناء الديانتين. فوثقوا به وفزعوا إليه يستشيرونَه في حلِّ مشاكلهم وأمورهم المعقَّدة؛ فكان يحلّها ويرشدهم إلى ما فيه الخير والنفع، والنفسُ منه في تواضعٍ واتّزان، حتى قالوا عنه:” هذا هو رجل الله الحقيقي والكاهن المتبصِّر والأب المخلص الغيور”. فأحبُّوه حبًّا جَمًّا وحفظوا له عرفان الجميل مجسَّمًا. فكان إذا ما مرَّ بمتاجرهم، كنت تراهم يقفون له إجلالاً ويرمون عليه التحيّة، حتى كانت تمتد هذه العاطفة، غالبًا، إلى أفئدة أطفالهم عندما يتسارعون إلى لثم يده الطاهرة والتبرُّك منها إذا ما لمحوه مارًّا في الطريق.
وقد حدث يومًا خلاف بين نصارى وإسلام تلك المحلَّة. ولمَّا كانت له منزلةٌ حسنةٌ في النفوس ومكانةٌ مرموقةٌ بين الفريقين، سعى، بدافع المحبَّة، لإبعاد شبح الخلاف البغيض، ممهِّدًا للصّلح بشتّى وسائل الحنكة الحكيمة والمحبَّة الصادقة، إلى أن تمَّ له ذلك وجمعهم، مسلمين ومسيحيّين، في دار الكنيسة، ونفح فيهم روح التضامن والتآخي، داعيًا إيَّاهم إلى نبذ الضغائن والأحقاد، والعمل، بثبات، يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في سبيل ازدهار مجتمعهم وتقدُّمِه، مذكِّرًا إيّاهم بالآية الكريمة: “إنّ أكرمَكُم عند الله أتقاكُم”. وهكذا أزال سوء التفاهم بين أتباع الديانتين بمقدرته الرشيدة النيّرة، فانصرفوا، من مجلس حضرته، وكلُّهم لسانٌ يَلهَجُ بالثناء والشكر لجميل فضله وحسن سياسته ومحبَّته للجميع على السواء.
وبعد أيّام قلائل، على هذه البادرة الطيِّبة، دعا أرشمندريتنا حضرة النائب جورج بك صحناوي، نائب دمشق يوم ذاك، وبعض وجهاء المِلَّتين في تلك المحلَّة، دعوة رسميّة لحضور القدّاس الإلهي الذي سيقيمه على نيّة أبناء حارة باب مصلّى. فلبّوا جميعًا طلبه وحضروا في الوقت المعيَّن. وعند وصول حضرة النائب صحناوي إلى مدخل باب مصلّى تراكض شبّان تلك الحارة من مسيحيّين ومسلمين إلى سيّارته، وأنزلوه منها وحملوه على الأكفّ، ضمن تظاهرة شعبيّة، حتى مدخل الكنيسة، حيث كان في استقباله كاهن الرعيّة وبعض الكهنة بملابسهم الرسميّة، فدخلوا جميعهم إلى الكنيسة، وأخذ كلٌّ من المدعوّين مكانه. وشرع سيادته يحتفل بالقدّاس الإلهي بخشوع وورع؛ وبعد قراءة الإنجيل المقدَّس رحَّب بقدوم حضرة النائب جورج بك صحناوي وصحبه، شاكرًا لهم تلبيتهم دعوته… ثمَّ ألقى عظة صغيرة ملؤها الحبّ والحنان، لفت فيها نظر الجميع إلى ضرورة محبَّة الله والوطن، وبالتالي محبَّة بعضهم بعضًا كونهم أبناء محلَّة واحدة وبلد واحد… إذ بالمحبَّة ينتصر الإنسان على أعدائه ويظفر بعطفهم… حتى وإن اختلفت المذاهب وتباينت العقائد في الأديان وتنافرت، إنَّما المرجع واحد وهو الله الحي خالق الكون ومدبّره. فعلينا، إذن، أن نعمل بوصاياه التي أعطاناها في إنجيله وقرآنه، وندعو إلى الوئام والسلام بين البشر…
فكان لهذه العظة القيِّمة وقعها المستحب في النفوس. وما إن انتهى القدّاس، حتى صعد الجميع إلى بهو الكنيسة الفسيح، حيث أُعدَّت طاولة كبيرة مزدانة بألوان مختلفة من الحلوى وأشهى الفاكهة ولذيذ الشراب. فراحت الكؤوس تُترع والكلُّ شكرٌ وامتنان. ثمَّ أخذت الخُطب تنهال من حضرة النائب الكبير وسواه من الحضور، 
 
 
ممجِّدةً شخصيّة هذا الكاهن وهيبته ووقاره، ومثنيةً على عظيمِ فعالِه في حقلَي الدين والدنيا. ومهنِّئةً الرعيّة على هذا الراعي الصالح والمرشد الأمين والأب الرؤوم الذي تجمَّعت، فيه، الصفات متكافئة، ودفعته غيرته الرسوليّة الصادقة إلى جمع القلوب والتكاتف، بمقدرةٍ عزَّ نظيرها…
وعندما ارفضّت الحفلة خرج النائب صحناوي ولفيف المدعوّين شاكرين صاحب الدعوة المفضال، متمنّيين له نِعَم السماء وخيراتها.
فأبناء تلك المنطقة يذكرون، تماماً، هذه الحادثة الطريفة ويتناقلونها بشوق وتلهُّف… وقد لا يمحوها من فكرهم كرّ الأيام وتعاقب السنين، لاسيَّما وقد لقَّنوها لأولادهم عبرةً لهم ودرسًا بليغًا في فلسفة الحياة…
هكذا كان الأرشمندريت ثاوفانوس يعكف على أعماله بنشاط وهمَّة صلبة طيلة المدّة التي قضاها في دمشق، مسقط رأسه، لا يعرف طعمًا لراحة، مُرهِقًا أعصابه، مضحّيًا بسعادته في سبيل الخير العام وإتمامًا للرِّسالة المقدَّسة التي من أجلها دُعي ولها تكرّس.
 
خادم رعية القديسة بربارة في زحلة (40)
(1938 – 1946)
 
ولم تنقضِ السنوات السِّت على تولّيه الخدمة في البطريركيّة في دمشق، حتى أَرسَل الأرشمندريت إسطفانوس سماحه (41)، أب عام الرهبانيّة الشويريّة، في ذاك الحين، في طلبه، ليقوم بخدمة رعيّة القديسة بربارة في زحلة، وذلك بناءً على رغبة سيادة المطران إفثيميوس يواكيم الكلّي الشرف والقداسة، مطران الفرزل وزحلة والبقاع (42).
لبَّى الأب ثاوفانوس الدعوة بكلِّ سرور وارتياح، لأنَّه يحب زحلة “عروس البقاع، وسكّانها الأكارم” كيف لا! وهي البلد الذي له فيه أطيب الذِّكريات وأخصبها، وهي تعهد فيه الراهب الفاضل والخادم الأمين الحريص والغيور على خير أبنائها الروحي والزمني.
وما إن وطئت قدماه مدينة زحلة، حتى هبَّ، لاستقباله، أصدقاؤه ومعارفه مرحِّبين بقدومه، مستبشرين بمشاهدته للمرة الثالثة في مدينتهم. فتسلّم مركزه الجديد في رعيّة القديسة بربارة، واندفع في خدمة النفوس اندفاع الخادم الأمين “ولكلِّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا”. فكان تقدير الرعيّة له وسرورها به يفوق الوصف، ولا غَرْوَ إذا ابتهج قلب كلّ فرد من أبناء هذه الأبرشيّة الكريمة بحصوله على أقنومه الجليل، فإنَّ ما اشتهر عنه في الماضي، من صادقِ هِمّةٍ وجميلِ تقوى وحُسنِ سجايا، لهو خير ضمين في تحقيق الآمال العذبة التي تجول في كلِّ الصدور. فإنَّهم لن ينسوا قط أياديه البيضاء في كلِّ عملٍ نافع وخيرٍ مثمر، خاصّة عندما كان رئيس مدارس البقاع ونائبًا أسقفيًّا على أبرشيّته جمعاء.
فاجتهد في خدمة الرعيّة وقام بواجباته الرسوليّة، نحوها، على أحسن وجه وأكمله: من صلاة وإرشاد، فكان إذا ما وقف يومًا يعظ، يأخذ بمجامع القلوب ويفتن العقول والألباب بأسلوبه الجذّاب الساحر الذي فيه فصاحة وبلاغة في سَرْدٍ إلى طلاقةٍ سلسةٍ في تعبير، وجودةٍ في قريحة فيّاضة، ولا عجب وهو الأديب ذو القلم السيّال والمنطق السليم، وهذه بعض أبيات نظمها، لأحدهم، عندما جاء إليه طالبًا أن يكتب له شيئًا على ظهر صورة يريد أن يرسلها لنسيبٍ في المهجر:
 
 
تعفو الرسوم ويـذهــب المرسوم ويــظلّ حــبٌّ في الـفؤاد عظيم
حـبٌّ تـراه مجسَّـمًا   في صورةيبقى ولو درسـت لديك رســـوم
تعفو الرسوم على الجسوم فلا ترى عيـنًا تدوم ولا تـرى آثــــارا
أهديــك رسم محبَّــتي تذكـارًا فالحـبّ يخلّد باقـيًا أدهــــارا
لمّــا تـنـائيتـم وعـزّ وصالكم وغـدت تتوق إلى لقـاكـم مقلتي
أهـديتكم رســـمي لـكي أحظى      ولو بالرسم منكم، في البعاد، بنظرة
 
وهناك العديد من القصائد والمقالات الرائعة التي قالها في مناسبات مختلفة تضيق بها صفحات هذا الكتاب، وقد نشرت بعضها، في ذلك الحين، كبريات الصحف اللبنانيّة كالبيرق والبشير “وزحلة الفتاة” وغيرها (43)…
انتشر خبره وذاع صيته بين أهل القلم، فراحت تتوافد إلى زيارته جموع الأدباء والشخصيّات الكبيرة من حكوميّة ومدنيّة، مقدِّرة فيه مواهبه الفذّة وعلمه الرفيع، ومثنيةً، خاصّةً، على ذلك القلب الذي يجمع المحبَّة السمحاء إلى الطموح الصامت في كثير من أعماله ومآثره. فأحبَّه مطرانه، حُبًّا جَمًّا وشمله بعطفه، وأكبر فيه تلك الهمَّة الجبَّارة والنفس الأبيّة المقرونة بمهابةٍ في الشخصيّة إلى طيبةِ قلبٍ ورقّةٍ في الشعور.
وهكذا بلغ صاحب هذه السيرة المحجَّة…، وكاد يتجاوز السبعين من العمر. وإنَّ من بلغت به السنّ إلى هذا الحدّ يقف متهيّبًا على شفير هاوية الفناء، ويهزأ من سخرية الحياة. فيعود به الفكر إلى الماضي البعيد، وترتسم أمامه أعماله كلّها وكأنَّها صفحة من كتاب الزمن، فيتأسَّف عليها إن كانت مَدعاةً إلى الأسف، ويتلهَّف إليها بشوق وحسرة في القلب ودمَعة حرّى في العين، خاصة إذا كانت تلك الصفحة مليئة بالخير والعطاء الذي لا ينضُب.
هكذا نظر إلى الماضي، وراح يقلّب، فيه، طرفه مستعرضًا، بشغف، أيَّامه الغابرة، الحافلة بالتضحيات الجسام، التي لم يَرجُ لها على الأرض مكافأة، إلى أن حطّ به الفكر على عتبة الحاضر السعيد. فرأى، وهو الرجل الذي أثقل الخير كاهله وألوى 
العمل عزيمته، وكأنَّه أدرك أنَّه قد آن لتلك النفس أن تخلد إلى السكينة وترتاح إلى التقشف والصلاة، فقط، ضمن ساح الدير الفسيحة. رأى، أن يستقيل من الخدمة ويطوي صفحة كتابه على حياة جديدة، يريد أن يُنهي بها أيّامه الأخيرة بعيدًا عن أعباء الناس والعالم…
 
إلى الدير
في أواخر عام 1947 حرَّر سيادته كتاب الاستقالة، وبعث به إلى سيادة الرئيس العام الأرشمندريت أغسطينوس فرح راجيًا إيّاه أن يقبل استقالته ويعفيه من كلِّ وظيفة (44)، راغبًا في السكنى مع إخوته الرهبان في دير القديس أنطونيوس القرقفة  بجوار كفرشيما(45)، ناشدًا العزلة والراحة فيه بعد أن عركته الأيام وأذاقته الحلو والمرّ؛ فما كان من قدس الأب العام إلاّ أن رفض له طلبه، مدَّعيًا أنَّه لا يزال موفور العزيمة، نشيط الهمَّة، ويتمتع بصحة جيّدة تخوِّله القيام بخدمة الشعب.
غير أنَّه، وبعد إلحاح طويل ونظرًا لشدَّة محبَّة أهل الدير له، وتقديرًا لأتعابه الجمَّة وخدماته التي لا تُحصى أثناء تولّيه المراتب العالية في يبرود وزحلة وبيروت ودمشق، وخاصة تلك الجهود التي بذلها، بسخاء، تجاه أمِّه الرهبانيّة في دير سيّدة النياح، وما لحق بحياته من مخاطر وأهوال، فترة الحرب وأيّام المقاصل، قَبِل سيادة الأب العام أن يعفيه من كلِّ خدمة ووظيفة، تاركًا له حريّة التصرّف في معيشته.
غادر الأب الجليل زحلة، بعد أن ودّع أصدقاءه ومعارفه، بعين دامعة، تاركًا في كلِّ قلبٍ جذوة من حبّ، وفي كلِّ نفسٍ نفحة من قداسة.
وما إن ضمّه الدير، حتى راح يقوم بخدمة إخوته الرهبان العجزة بكلِّ سرور وانشراح. فكان يصرف يومه بينهم، مسلّيًا إيّاهم بأجمل الأحاديث وأعذبها، قاصًّا عليهم القصص المفرحة، والنّكات المستملحة التي تُنزّه الخاطر وتُثلج الصدر…
وكان من وقت إلى آخر، يزور زحلة متفقّدًا أبناءها، مستعلمًا عن أنسبائه، توَّاقًا لمشاهدة أصدقاء شبابه. وغالبًا ما كان يقضي فصل الصيف في شتوره عند ابن شقيقته ديمتري بندق، صاحب الصيدلية فيها. وهناك كان يجتهد في خدمة أهالي قريَتيَ جديتا وشتورة، رغم شيخوخته، فيُقيم لهم القداديس والاحتفالات الدينيّة على أكملِ وجهٍ وبكلِّ نشاطٍ، والنفس منه في ترفُّع عن الماديّات مهما كانت، إذ كان يدفعها لوكيل الكنيسة قائلاً: “احفظها في صندوق الكنيسة إعانة منّي لتجميلها وتحسين أثاثها”.
 
 
بقي، على هذه الحال، زهاء أربع سنوات في تنقُّلٍ بين دير القديس أنطونيوس وزحلة وشتورة، إلى أن انتابه عارضٌ صحي ألمَّ، به، فجأة.
 
بداية النهاية
 
نهار الخميس الواقع فيه 5 تموز سنة 1951 قام من دير القديس أنطونيوس القرقفة ميمِّمًا شطر بيروت ومنها إلى زحلة، وكان بصحبته الأب يوسف قاصوف، أحد أصدقائه ونديمه حتى شيخوخته، وخادم رعيّة النبي الياس في معلَّقة زحلة (46).
كان وصولهما لساحة البرج في بيروت حوالي الساعة العاشرة صباحًا. وكانت 
الساحة في هذا الوقت خلوًّا من سيارات زحلة، فاقْتَعَد كرسيًّا أمام المرآب، وراح يمسح بمنديله العرق المتصبِّب من جبهته. كان الجو حارًّا وقد توهَّجت شمسه واستعر أوّارها، فأصبحت شديدة الوطأة قويَّة التأثير. فاشتد به الظمأ وأراد أن يروي غليله وبائع الليموناضة المثلّجة على مَقرُبةٍ منه. فأشار إليه بكأسين، وسأل الأب قاصوف: هل له بواحدة؟ فاعتذر شاكرًا. أخذ، عندئذ، الكأس الأولى وارتشفها، ثم الثانية، لكثرة ما ألمّ به من عطش. وما هي إلاّ دقائق حتى أقبلت إحدى سيارات زحلة، فاستقلاّها وسارت برِكابها على بركات الله. إلاّ أنّه ما إن استقرّ الشراب في جوفه، حتى شعر بألم حادٍّ في أحشائه، بصورة لم يكن يشعر بها من قبل، وقد اكمدّ وجهه وتشنّجت أعصابه، وكسا جسمه عرق بارد. تُرى ماذا ألمّ به؟… أيتذرَّع بالصمت؟ أم يُطلع مرافقه عن حالته؟… لا. فليتحمَّل الألم ويصبر على وجعه كي لا يزعج من معه، سيَّما وقد اقتربا من الوصول إلى زحلة.
غير أنَّ الأب يوسف أدرك، أخيرًا، ما انتاب أخاه من انقباض وشحوب. وعندما استوضحه الأمر ووقف على حقيقته هوّن عليه وراح يموّه عنه ببعض الأخبار والسِّيَر، ولكن أنّى له أن ينسى وجعه، وقد تآكلت العلّة أحشاءه. فأخذت به الوساوس كلَّ مأخذ: هل في الليموناضة سمٌّ زعافٌ، حتى فتكت سريعًا بصحته؟… أم ماذا…؟ وذهب يتبرّم بالألم الممض والوجع المبرِّح، إلى أن بلغ زحلة، وكانت الساعة تناهز الواحدة بعد الظهر، وقد امتنع عن النزول في شتورة نظرًا لعدم وجود طبيب دائم فيها. فنزل في بيت أخيه في المعلَّقة، وكان التعب آخذًا منه مأخذًا جعله يُحجم حتى عن تحيَّته المألوفة، وقد بدت علامات الألم والقلق واضحة على قسمات محيّاه. فاستدعوا له على الفور الطبيب ندره زلاقط وهو أحد أنسباء امرأة أخيه. فحضر لساعته وكان قد اشتدَّ الألم على المريض، فأعطاه بعض المسكّنات والعلاجات اللازمة، إلاّ أنَّها لم تنفعه. وظلّ يتململ على فراش المرض طيلة يومه وسواد ليله، بينما التَّفت عائلة أخيه مع أولاد شقيقته ونسائهم حول سريره يواسونه ويخفّفون عنه، وقلوبهم على هلع واضطراب، إلى أن أخذت خيوط الفجر تظهر لتُزيل ستار الليل القاتم بأنوارها الورديّة اللون، بينما جرى النسيم، رسول السماء، بليلاً حاملاً نثر الطبيعة الذكي، مارّاً على الكون النائم ليمسح عن أعينه سنة الكرى، وينشّقه الأكسير النشيط. 
وإنَّ حظّه من هذا الصباح لم يكُن بأسعد منه في ليله. فما زالت حاله تتدرّج من سيّء إلى أسوأ، وقد أصبحت مدعاة إلى الخوف والوجَس…
ما كان من الأب قاصوف، والحالة هذه، إلاّ أن أعلم رئيس الكليّة الشرقيّة الباسيليّة، الأب أيّوب فلّوح(47)، بالوعكة التي ألمّت بأخيهم. فحضر، للحال، وبرفقته رئيس دير النبي الياس الطُّوَق، بصفتهما من الرهبانيّة الشويريّة. وعند مشاهدتهما إيّاه على هذه الحالة، استدعيا الأطباء السادة: نجيب فرح، جوزف عيسى عبيد ونجيب الغصين. فعاينوه وأشاروا إلى دواء معيّن. فأُحضر حالاً، وأخذ ديمتري ابن شقيقته يساعده على تناوله.
وحوالي الظهيرة تحسنّت حاله قليلاً، ففتح عينيه والتفت بوجهه يمنة ويسرة فرأى حوله أبناء شقيقته وأولاد أخيه، الذين حضروا من دمشق، والكلّ في وجومٍ واكتئاب، وبصوتٍ خافت، متهدّج خاطبهم قائلاً: “أوَ ليس أفضل لي أن أدخل المستشفى لأخفّف عنكم العذاب والتعب”. وكان ديمتري أقرب الحاضرين من سريره فأجابه: “لا، يا خال، ليس من تعب أوعذاب علينا، خاصَّة وأنَّ صحتك تحسّنت وتماثلت للشفاء، فوجودك بيننا بركة ونعمة علينا وعلى أولادنا، وخدمتنا لك مهما كبرت إنّما هي تعبير صادق عن حبِّنا الخالص لك وإقرار بالجميل الذي غمرتنا به منذ نعومة أظافرنا حتى يومنا هذا، إذ كنت على السواء، الأب العطوف والخال الحنون. فنحن لك ما حييت، خدّام مُخلِصون وأبناء مطيعون… وإنَّ كلَّ ما نبذله قدّامك من أعمال تظنّها جسيمة، إنَّما هي نقطة من خضمّ خدماتك وأتعابك الغابرة علينا…
ولدى سماعه هذه الكلمات الصادقة المفعمة شعورًا وحنوًّا أغرورقت عيناه بالدمع، وطفرت منهما حبّتان كاللؤلؤ هما آخر ما تصل إليه عاطفة إنسان يحتضر.
فمسحها، له، ابن شقيقته، والجميع عين تدمع، وقلب كسير، ودعوة إلى الله صارخة مسترحمة، مستعطفة…
وطلب إلى الحاضرين أن يجلسوه قليلاً على السرير ففعلوا، وأسندوا ذراعيه بالأرائك. ثمَّ راح يحدّثهم بهدوء، سائلاً كلاًّ منهم عن أحواله وصحَّة عياله، كأنَّه لا يشكو مرضًا.
وفيما هو كذلك حضر الأب يوسف قاصوف والأب إبراهيم حداد، خادم رعيّة القديس جاورجيوس المخلِّصيّة في المعلَّقة، فأخذ يكلّمهما، أيضًا، بكلام كلّه رقّة وعذوبة وفي عينيه بريق من أمل يُظلم تارَة ويُشرق تارَة أخرى… وفي صدره خفقة من رجاء، تخمد ثمّ تعود فتلوِّح بتباشير الحياة. فارتسمت على جباه الأهل، عندئذ، علامات استفهام، بعضها متفائل، وبعضها متشائم… وشردت العقول بين مدّ الأمل وجزر اليأس… وتراوحت الصدور بين حصر أنفاسٍ حزينة، وإرسال تنهّداتِ ارتياح وسرور…
وفاته
 
ما إن جاوزت الساعة السادسة من بعد ظهر ذاك النهار (نهار الجمعة) حتى تجهَّم وجه الأب ثاوفانوس وتغيّرت سحنته، وراح يتلوى على الفراش كالمذبوح… والصدر منه في علوٍ وهبوطٍ… نافخًا زفرات متأجِّجة تُفَتِّتُ الأكباد وتُدمي القلوب.
وعندما شاهد الأنسباء هذا التبدّل السريع الذي طرأ على صحته، اكفهرَّت منهم الوجوه وانكمشت القلوب وانعقدت الألسن، وراحت الكآبة تتلوَّن بكلِّ ألوانها، وقد وقفوا جميعًا، على هلعٍ واضطراب وحيرة، ينسج حولها الأمل البعيد وشاحًا شفّافًا واهيًا.
أدرك الأبوان الفاضلان ما آلت إليه حالة المريض من خطر، فأسرعا في منحه سرّ مسحة المرضى المقدَّسة. وكان يردّ عليهما بانتباه ووعي كلّي، إلى أن فرغا من هذه الصلاة الأخيرة، فتركا الغرفة إلى البهو الخارجي، حيث الأهل والأنسباء ينوحون ويبكون…
لم يبقَ بجوار المحتضِر سوى ابن شقيقته أنطوان بندق، الذي كان يساعده على التقلّب في السرير من جهة إلى آخرى؛ فكان تارَة يمسح عرق جبينه وطورًا يسكب في فمه قليلاً من الماء كي يبرّد جوفه المحموم.
وكان المريض يردّد، وهو يعاني أشدّ سكرات الموت، وبصوت متقطِّع: “يا ربّ… يا ربّ… لا تهملنا … ليكن اسمك… يا ربّ… مباركًا…”
وكثيرًا ما ردّد هذه العبارة في ساعته الأخيرة. غير أنَّه عندما انتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب فراشه، أراد أن يرفع يده اليمنى فلم يتمكّن فأعانه ابن شقيقته على رفعها، فرآه يرسم إشارة الصليب قائلاً: “ارحمني يا الله…”
وللحال خرج أنطوان من الغرفة مستدعيًا الكاهنين، فدخلا، ومن ورائهما بعض الأهل وهم يكفكفون دموع مآقيهم، والتفّوا، جميعًا، حول سريره. وكانت الساعة تقارب التاسعة ليلاً. فأدار فيهم بصره قائلاً، بينما كان الأبوان الفاضلان يتلوان قانون الإيمان وبعض الصلوات: “ليكن الرب… معكم… ويـ… سا… محكم… صلّوا… لـِ…أجلي…!…” 
قال هذا، وأغمض عينيه بهدوء، ولم يعد قادرًا على الكلام. وما هي إلاّ ثوانٍ، حتى فتح فمه ونفخ ثلاث نفخات، بها فاضت روحه الطاهرة نحو خالقها.
 
مراسِم التشييع 
 
حالما تيقّن الأبوان والحاضرون من رقاده الملائكي، مسحوا جسمه الطاهر، حسب عادة المتنيّحين بالرَّب، وألبسوه ثيابه السوداء والجبّة. ثمَّ خرج الأب قاصوف وأعلم، هاتفيًّا، رئيسي دير الطُّوَق والكليّة الشرقيّة بالوفاة.
وللحال حضرا، وبعض الكهنة، والتفوا حول أخيهم المسجّى. ثمَّ، وبعد صلاة قصيرة تلوها على فقيدهم الراحل، وضعوه في نعشٍ لائق، ونقلوه، في سيارة، إلى كنيسة دير مار الياس الطُّوَق في حارة الراسيّة.
 
وكان يسير خلفه رتلٌ من السيارات تُقِلُّ الأهل والأصدقاء، من كهنة وعلمانيين. وما إن بلغوا الدير، حتى جعلوه على منضدة في وسط الكنيسة، واضعين حوله الشموع وقناديل الزيت إجلالاً لجثمانه الطاهر.
ثمّ، وبكلِّ خشوعٍ، تركوا الكنيسة، وعلى محيّاهم علامات الحزن والتأثُّر البليغ.
وما كان من إخوته الرهبان إلاّ أنّ طيّروا نبأ وفاته إلى سيادة أب عام الرهبانيّة وإلى جميع أنحاء البلاد، محدّدين الساعة الرابعة من بعد ظهر نهار السبت السابع من تموز، ثاني يوم الوفاة، موعدًا للصلاة الجنائزيّة التي ستقام على جثمان فقيدهم الغالي.
وفي صباح اليوم المذكور، بدأت جماهير الأنسباء والأصحاب تتقاطر وتؤمّ الكنيسة للتبرّك منه، بلثم يديه الطاهرتين، بينما كان إخوته الآباء يقيمون القداديس، على التوالي، لراحة نفسه، والأخوات الراهبات الشويريات كنَّ يصلّين، حوله، بخشوع، وبصوتٍ حنون، يرنِّمن الترانيم الروحيّة.
وما إن أزفت الساعة المعيَّنة، حتى كان رهطٌ كبير من الرهبان الشويريّين مجتمعين، استعدادًا، في ساحة الدير، مع عدد من الآباء البيض في رياق، والآباء اليسوعيّين في ديري تعنايل وكساره، وقد انضمّ إليهم لفيف كهنة زحلة والبقاع، والكلّ في اللباس الرسمي وبأيديهم الشموع المضاءة وفي العين دمعة وفي القلب غصّة.
دخل الجميع الكنيسة، يتقدَّمهم راعي الأبرشية، المطران إفثيميوس يواكيم، والأب العام الأرشمندريت أغسطينوس فرح، وهم يرتّلون الترانيم المختصّة بجنّاز الرهبان، إلى أن جاوزوا الباب الملوكي، فصعده صاحب السيادة، بينما أحاطت بالنعش دائرة كبيرة من رجال الإكليروس الموقّر، وشرعوا بالصلاة عليه.
وعند انتهاء صلاة الجناز ألقى سيادة المطران يواكيم تأبينًا رائعًا، عدَّد فيه صفات الراحل العزيز، مُظهرًا ما انطوت عليه نفسه من أدب بليغ وخُلق رفيع ومواهب سامية، مبيّنًا خدماته الجَمَّة نحو الكنيسة والوطن أثناء تولّيه المراتب والمناصب العالية، معزّيًا الرهبانيّة بابنها البار، سائلاً الله أن يتغمَّده برحمته ويسكب على ضريحه غيوث رضوانه، ويسكنه فسيح جنانه، حيث الله، وحده، يكافىء على الأعمال. فكان لكلامه البليغ الوقع الحسن وصداه المؤثِّر المستَحَبّ.
ثمّ وقف سيادة الأب العام وألقى كلمة ودّع، فيها، أخاه الراحل وابن رهبانيّته، ذاكرًا، فيها، ما اتّصف به الراحل الحبيب من جميل الصفات وحميد السجايا، مشيرًا إلى علمه وذكائه الحاد وحبّه لعمل الخير، ذاكرًا: “أن الرهبانيّة بأشدّ الحاجة إلى أمثاله، إذ، بوفاته، فقدت عضوًا بارزًا وركنًا مكينًا من صرح بنيانها”. وبدا سيادته متأثّرًا، زارفًا، عليه، دمعة حارّة، مفعمةً أسىً ولوعة…
وما إن انتهى سيادة الأب العام من تأبينه المؤثِّر، حتى تقدّم سيادة راعي الأبرشيّة من الأرشمندريت المسجّى وقبّل جبينه، كما قبّل الصليب الذي بين يديه. وهكذا فعل الأب العام مع كافة الرهبان، ثمَّ تبعهم أهل الفقيد والحاضرون.
وبعد أن فرغوا من فعلِ التبرّك هذا، حمل عدد من الرهبان، إخوانه، النعش على أكتافهم، وخرجوا من الكنيسة بين جمهور غفير من المشيّعين، وهم يرتلّون ترانيم الوداع، إلى المقر الأخير الواقع تحت الهيكل الكبير، من كنيسة الدير. 
وهناك، في مدفن القديسين، دُفن رجل الدين والنُّهى، رجل العلم والمعرفة، مكلَّلاً بالفضيلة ومجلَّلاً بالمجد والظفر السماويَّين.
 
الخاتمة
حقًّا… إنَّه لكاهن مثالي. كانت حياته نبراس قداسة، وأعمال برّ وصلاح. كما كان، رحمه الله، عضوًا كريمًا وفخرًا لكنيسته الروميّة الملكيّة، ورُكنًا هامًّا لرهبانيّته الباسيليّة الشويريّة.
فكأنّي، به، قد آمن أنّ الدنيا إنَّما هي مجاز إلى الخلود، فسعى، جاهدًا، بكلِّ ما أوتي من حق وخير وجمال، لتدعيم بناء المجتمع، ورفع صرح الإنسانيّة عاليًا، فكان لنفسه الطموحة ما أرادت…
فالله نسأل أن يجعل نفسه في أحضان إبراهيم أبي الآباء، وأن يُنيله إكليل المجد المُعَدِّ للمختارين، والفرح بالمشاهدة الطوباويّة التي ابتغاها صاحب المزامير، بقوله:
“وجهك يا الله ألتمس”
(مزمور 26/8).
 
________________________________________
 
الحواشي
(1) تقع كنيسة سيّدة النياح الكاتدرائيّة في حارة الزيتون، إلى يسار الزقاق القديم من جهة باب شرقي. بناها السعيد الذِّكر البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم (1833-1855)، وكرّسها، يوم أحد الشعانين، في 6 نيسان سنة 1834. وفي حادثة سنة 1860 المسمَّاة بـ “الطوشه”، التهمت النيران الكاتدرائيّة، فأعاد بناءها السعيد الذِّكر البطريرك غريغوريوس يوسف سيّور، ودام العمل فيها نحو سنتين، حتى تمَّ سنة 1864.
وقد جدَّد غبطته بناء مدرسة القديس نيقولاوس البطريركيّة، قرب الكاتدرائيّة، سنة 1875، والتي كانت قد احترقت، هي أيضًا، أثناء أحداث سنة 1860، كما يتّضح من تاريخ الشيخ ابراهيم اليازجي المنقوش فوق الباب، (أي باب المدرسة المجدَّد بناؤها مؤخّرًا، وقد أصبحب الآن مقرًّا لسكن الإكليروس ومكاتب إدارة لبعض الأنشطة البطريركية):
غريغوريوس ذو المجد بطركُنا       ابتنى مقامًا به العلم لاحت منائرُ
فكان سماءً للهُدى قد أضاءها       سنىً أرّخوا من كوكب الشرق ظاهرُ
 
لمزيد من المعلومات:
• راجع: المسرّة (20) 1934 الأجزاء 7،6،5، الصفحات:261-279، 344-355، 425-434. مقال للأرشمندريت فيلبس غرّه بعنوان: 
“للذكرى والتاريخ كاتدرائيّة سيدة النياح لطائفة الروم الملكيّين الكاثوليك”.
(2) هو بطرس جرجي قاضي. وُلد في دمشق في 22 حزيران سنة 1861، رُسم كاهناً في 21 تشرين الثاني سنة 1884 بوضع يد البطريرك غريغوريوس يوسف ودُعي نيقولاوس. تسلّم رئاسة المدرسة البطريركيّة في دمشق (1886-1889). سيم متروبوليتًا على بصرى وحوران وجبل العرب في 10 شباط 1889، وكان كُلِّف بأعمال النيابة البطريركيّة بدمشق عدَّة مرّات. استقال من مهامه الأسقفيّة في 16 تشرين الثاني سنة 1939، وتوفّي في 22 أيلول سنة 1941.
(3) تأسَّست إكليريكيّة القديسة حنّه، في القدس الشريف، في أوائل سنة 1882، بالقرب من كنيسة القديسة حنّه، تلبيةً لطلب البطريرك غريغوريوس يوسف سيّور، بطريرك الروم الكاثوليك (1864-1897)، من الآباء البيض، المتسلّمين زمام الكنيسة، لكي يهتمّوا بتثقيف الإكليروس من أبناء طائفته، وذلك بعد موافقة رئيسهم العام الكاردينال شارل لافيجري (1825-1892).
تُكنّى هذه الإكليريكيّة بـ “الصلاحيّة” نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي (1138-1193) الذي فتح بيت المقدس واستولى على هذه الكنيسة التي بناها الصليبيّون، قرب البركة الغنميّة، لتذكار ميلاد العذراء.
كان لهذه الإكليريكيّة الفضل الكبير في رفع مستوى الإكليروس الملكي الكاثوليكي. وقد اضطرت أن تغلق أبوابها خلال الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، إلاّ أنها أعادت فتحها بعد معاهدة الصلح، عندها نقل الآباء البيض الإكليريكّة الصغرى إلى رياق في لبنان.
(4) هو الدير الأم للرهبانيّة الحنّاوية (الحلبيّة-الشويريّة)، يقع بين بلدتي الشوير وبتغرين في منطقة المتن الشمالي، بالقرب من قرية الخنشارة. يعلو عن سطح البحر حوالي 950 متراً، ويبعد عن بيروت عن طريق أنطلياس، مسافة 28 كلم. 
يعود تاريخ بنائه، على الأرجح، إلى ما قبل سنة 1676 م. وقد تمَّ شراؤه مع مزرعة “بيت عيال” القريبة منه في 10 كانون الأول سنة 1710 م. 
لهذا الدير مكانة مميّزة في الرهبانيّة وفي كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، إذ ساهم في نشأة كلٍّ منهما، وهو مركز الرئاسة العامّة. كان، لفترة وجيزة، مقامًا بطريركيًّا، وقد اتّخذه بعض المطارنة، المبعدين عن أبرشيّاتهم، مقرًّا لسكناهم، وفيه عُقدت مجامع سينودسيّة هامّة، وفيه فُتحت أوّل مدرسة ابتدائيّة في المنطقة سنة 1735.
ميزة الدير الكبرى هي احتواؤه على أهم إرث فريد، ألا وهو المطبعة العربيّة الأولى في لبنان، التي أنشأها الشماس عبدالله زاخر وطبع فيها كتاب “ميزان الزمان”، أول كتاب بالحرف العربي، سنة 1734.
(5) هو ناصيف بن الياس بطرس كفوري. وُلد في الخنشارة في 2 تشرين الثاني سنة 1832. ابتدأ في دير مار يوحنا في أول حزيران 1851 ودعي متّى. أبرز نذوره في الدير المذكور في 15 حزيران 1853 ودعي يوسف. سيم شمّاسًا إنجيليًّا عن يد عمه المطران باسيليوس في مصر بتاريخ 29 حزيران سنة 1855، ثمَّ كاهنًا عن يد البطريرك إكليمنضوس بحّوث (1856-1864) وذلك في 18 كانون الأوّل سنة 1859، وفي 8 نيسان 1861، يوم الفصح المجيد، ألبسه الحِجْر وأعطاه رتبة خوري. استدعاه الأب العام وعيّنه سنة 1868 مديرًا للدروس في المدرسة البطريركيّة في بيروت. أقامه المطران أغابيوس الرياشي رئيسًا على مدرسة سيّدة الخلاص في عين القش قرب بكفيّا، فخدمها ثلاث سنوات. وفي سنة 1872 أقيم رئيسًا على دير مار يوحنا الصابغ في الخنشارة. انتُخب سنة 1874 مرشدًا لدير سيّدة البشارة في زوق مكايل واستمر في هذه الوظيفة ثلاثة مجامع متوالية أي تسع سنوات حتى سنة 1883 حيث تعيّن مدبِّرًا أوّل. انتُخب رئيسًا عامًّا في 30 نيسان 1887 وتجدّدت له الرئاسة عدّة مجامع حتى سنة 1904 ومن سنة 1905 حتى سنة 1913 فتكون مدّة توليّه الرئاسة العامّة قد تجاوزت ربع قرن من الزمن.
من أبرز إنجازاته العلميّة والعمرانيّة: إرسال قسم من الرهبان سنة 1896 إلى بيروت ليتلقّنوا العلوم والفلسفة واللاهوت في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيّين، وإنشاء المدرسة الشرقيّة التي افتتحها في العام 1898، وتشييد النزل الكبير (أوتيل قادري) في زحلة. أنعم عليه البابا لاون الثالث عشر سنة 1888 بوسام بابوي.
احتفل بيوبيله الفضي لجلوسه على سدّة الرئاسة العامة، والذهبي على سيامته كاهنًا في 15 نيسان سنة 1909. كانت وفاته صباح الأحد في 7 شباط سنة 1916.
(6) ثيوفانيس: اسم يوناني يعني الظهور الإلهي، ظهور المسيح.
تعيِّد الكنيسة البيزنطيّة للقدّيس ثيوفانيس المرنِّم (778-845) أسقف نيقيا المعترف، الملقَّب بالموسوم. 
وُلد سنة 778 في لواء الكَرَك من بلاد مُؤاب شرقي الأردن. انتحل الحياة الرهبانية سنة 800 في دير القدّيس سابا في فلسطين، ثم نال الرِّسامة الكهنوتيَّة.
انتُخب متروبوليتًا على نيقيا. نُفي وسُجن ثم عاد إلى كرسيّه. تُوفّي سنة 845.
يُكتب هذا الاسم، خطأً، في اللغة العربية على النحو التالي: ثاوفانوس، والصحيح: ثيوفانيس. إلاّ أننا اعتمدنا الكتابة الشائعة لهذا الاسم مثلما ورد في السجلاّت والوثائق، فاقتضى التوضيح.
(7) ورد في السِّجل اليومي لدير القدّيس باسيليوس، الأشرفية، بيروت، في الصفحة الخامسة، أنَّه:
“في سنة 1898 وقع اختيار عمدة الرهبانية على الإخوة: متّى سماحه، تيودورُس معلوف، ديونيسيوس كفوري، ثيوفانوس عِكِّه، كيرلُّس كفوري وباسيليوس أبي اللَّمع، فأنزلتهم إلى بيروت”.
(8) هو عبدالله بن جرجس غصن. زحلاوي من مواليد بيروت سنة 1872. قصد دير مار يوحنا وفيه لبس ثوب الابتداء في 25 أيلول سنة 1889 ودعي برنردُس. ثمَّ ارتبط بالنذور الرهبانيّة في 6 كانون الأوّل سنة 1891 وذلك عن يد الأب العام يوسف الكفوري. درس الفلسفة واللاهوت في رومة ما بين سنة 1893-1902 وحاز على شهادة “الملفنة” في اللاهوت.
سيم شمّاسًا إنجيليًّا في مدرسة البروباغندة في 29 حزيران سنة 1899 ثمَّ كاهنًا. خدم في المراكز الرهبانيّة، فكان وكيل الرهبانيّة في أنطش الشام ثمَّ رئيسًا للكليّة الشرقيّة في زحلة 1912-1914 ثمَّ رئيسًا لدير القديس أنطونيوس القرقفي في كفرشيما 1917-1919 ثمَّ رئيس كهنة كنيسة المخلِّص في بيروت 1919-1924 وسافر إلى الولايات المتحدة الأميركيّة حيث خدم الجالية في كنيسة القديس جاورجيوس في مانهاتن-نيويورك. وقد رُقِّي إلى رتبة أرشمندريت سنة 1927. بقي في نيوريوك حتى وافته المنيّة في 9 أيلول سنة 1955 ودُفن هناك.
كان فيلسوفًا وكاتبًا وواعظًا مشهورًا. أصدر في بيروت مجلة “صوت الحق” سنة 1922، وله مقالات كثيرة وقيّمة مطبوعة في الصحف العربيّة الصادرة في أميركا. نتاجه الفكري محفوظ في دير الخنشارة ضمن مجلّدات ضخمة تحت عنوان: “أثمار الغصن”. حاز على أوسمة عديدة، وله رسم فنّي جميل يبدو، فيه، كهيئة الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو.
(9) هو بولس (الثاني) بن نجم بولس الكفوري وأخو الإيكونومس مخايل (الثاني) (الرئيس العام 1919-1922). وُلد سنة 1854 في الخنشارة، وترهّب في دير المخلِّص-جون، قرب صيدا. دخل الرهبانيّة الشويريّة بأمر من الكرسي الرسولي. قُبل في الابتداء لسنة كاملة برأي الآباء المدبّرين وذلك في سنة 1887. أبرز نذوره، بعد الاقتراع القانوني، في 16 تشرين الثاني سنة 1888.
ذهب إلى مرسيليا ثمَّ عاد إلى دير الصابغ وأُقيم معلّمًا في المدرسة الإكليريكيّة، ثمَّ ذهب إلى فرنسا ومنها تعيّن وكيلاً للرهبانيّة لدى الكرسي الرسولي 1898. رَأَسَ المدرسة الشرقيّة في زحلة عدة سنوات (1899-1907) وأنشأ هناك جريدة “المهذِّب”. ثمَّ انحاز إلى الشيعة الماسونيّة وعصي على السُّلطة الكنسيّة فحرمته، في مجمع عين تراز، سنة 1909، ونزعت عنه الثوب الإكليريكي، فعاش كالعلمانيين. توفّاه الله في 24 شباط سنة 1934 في بيروت، ودُفن في مدافن العائلة في الخنشارة. وقد حدثت بمناسبة جنازته اضطرابات بين الشعب، لتعرّض بعض الأقارب لسيادة المطران مكسيموس الصائغ، إذ كان يبرّر تجنيزه بكلمة اعتبروها مهينة.
(10) هو ميخائيل يوسف فكّاك. وُلد في دمشق في 07 تشرين الثاني سنة 1829. انضمَّ إلى الإكليروس البطريركي ورُسم كاهنًا في دمشق، عن يد المطران مكاريوس حداد، بتاريخ 15 نيسان سنة 1865. سيم مطرانًا على أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع، بوضع يد البطريرك غريغوريوس يوسف، في كاتدرائيّة دمشق، في 23 كانون الثاني سنة 1876.
انتقل إلى أبرشيّة بيروت وجبيل، كمدبّر بطريركي، في 14 آذار سنة 1879، وانتُخب مطرانًا أصيلاً لها في 12 آب سنة 1881. توفّاه الله في 14 تموز سنة 1904 في دير القديس سمعان العمودي (وادي الكرم) وهناك دُفن.
(11) بناها، على اسم النبي إيليا، سنة 1849، المطران أغابيوس الرياشي، الراهب الباسيلي الشويري، على أنقاض كنيسة الآباء التي بُنيت عام 1736، قرب الكنيسة الصغيرة التي تم تشييدها، على يد الرهبان الحنّاويين، سنة 1724.
تميّزت الكاتدرائيّة بالجمع بين تناسق الهندسة البيزنطية ورونق الزخرف الشرقي، كما بعقد الحجر الذي تلتقي أجزاؤه حول قمريّة كبيرة للإضاءة الطبيعية، وكذلك بإيقونستازها الرخامي الضخم الذي يحتوي على تسعة أبواب، وعرش الأسقف، وهو يعتبر من روائع فنّ النّحت، إلاَّ أنه دُمِّر إبّان الحرب اللبنانية ولم يبقَ له أثر.
لبست زينة قشيبة وازدانت بالإيقونات المقدَّسة سنة 1911 وذلك في عهد المتروبوليت أثناسيوس صوايا ق.ب.
هُجرت في الحرب اللبنانية، وتعرّضت لخطر الهدم من أجل إنشاء شارع باتّجاه شارع البرج انطلاقًا من ساحة النجمة؛ لكنّ الاستملاك لم يُنفَّذ، وأُعيدت الكاتدرائيّة إلى الأبرشيّة في العام 1994.
نُفِّذ الترميم فيها على ثلاث مراحل ابتداءً من العام 2003.
وقد تمَّ الاحتفال بتجديد الكاتدرائية في 11 كانون الأول 2010 على يد المتروبوليت يوسف الكلاّس.
(12) هو كريم يوسف نكد المعلوف. وُلد في وادي الكرم في 04 أيار سنة 1845 أصبح راهبًا شويريًا في 01 كانون الأول سنة 1866ودُعي أغابيوس. سيم كاهنًا في 20 تموز سنة 1871. رئِس دير القديس أنطونيوس في كفرشيما ما بين (1878-1883) وانتُخب مدبّرًا ثانيًا سنة (1883-1885). انتخبه المجمع المقدّس مطرانًا على أبرشية بعلبك، وتمّت سيامته في 29 آذار سنة 1896 بوضع يد البطريرك غريغوريس يوسف، في كاتدرائيّة النبي الياس- بيروت. نفاه الأتراك إلى أورفة وبَرِّ الأناضول من 17 نيسان سنة 1915 حتى 24 حزيران سنة 1918. فعانى، من جرّاء ذلك، اضطهادات جمّة واحتمل أمراضًا صعبة. توفّاه الله في دير سيّدة البشارة في زوق مكايل، ودُفن، في اليوم التالي، في بعلبك. اشتهر بالبناء وتحسين الأوقاف، فقد أكمل بناء كاتدرائيّة القديسة بربارة في بعلبك سنة 1897 وشيّد ثلاث بنايات كبيرة أمام ساحة المطرانيّة، وبنى العديد من كنائس الأبرشيّة، واشترى مزرعة جبّولة. حاز على الوسام الفرنسي من رتبة “جوقة الشرف”، وكان مهابًا، عالي الهمّة، تقيًّا.
(13) سنة 1755 اشترى الأب العام الخوري نقولا الصايغ محلّة “الطُّوَق” في مدينة زحلة من الأمير فارس اللمعي، في عهد البطريرك كيرلس طاناس وراعي الأبرشيّة المطران إفثيميوس فاضل المعلولي؛ فكان الهدف من بنائه إقامة مركز رهباني رسولي يتوسط المسافة بين دير مار يوحنا في الجبل ودير سيّدة راس بعلبك في البقاع، ومواكبة أهل راس بعلبك الذين هربوا من بلدتهم من ظلم آل حرفوش، فأتى الرهبان بهم وأسكنوهم في زحلة في الحي المجاور للدير الذي سُمي بـ “حارة الراسية”.  أُنجز بناء الدير سنة 1756 في عهد أوَّل رؤسائه يوسف سفر الحكيم (مطران قاره وحمص لاحقًا 1781-1811). ثمَّ عمرّت الرهبانيّة كنيسة الدير سنة 1773، وكعادته، أرّخ الشيخ ناصيف اليازجي، لاحقًا، هذا الحدث بأبيات شعرية منحوتة فوق الباب الجنوبي.
(14) هو نعوّم بن يوحنا منصور كفوري. من مواليد الخنشارة سنة 1850، أصبح راهبًا شويريًا في 06 كانون الأول سنة 1867 باسم كيرلُّس (الأوّل). ارتسم كاهنًا، في بعلبك، سنة 1872 عن يد المطران باسيليوس ناصر. أُقيم نائبًا أسقفيًّا عامًّا على أبرشيّة بعلبك، ثمَّ انتدبته الرهبانيّة لرئاسة دير مار الياس الطُّوَق في زحلة (1892-1895)، فما لبث أن أقامه البطريرك غريغوريوس يوسف نائبًا بطريركيًّا على طرابلس وبلاد عكّار، لتأسيس رسالة جديدة فيها. وفي العام 1898 انتُخب مرة ثانية رئيسًا لدير زحلة. سيم مطرانًا على أبرشيّة حمص وحماه ويبرود، في كاتدرائيّة مار الياس- بيروت، بتاريخ 21 تشرين الثاني سنة 1901، بوضع يد البطريرك بطرس الرابع الجريجيري (1898-1902)، ودُعي فلابيانوس، وهو (الثاني) بهذا الاسم من هذه العائلة. استقال في 20 تشرين الثاني سنة 1920 وأصبح أسقفًا فخريًّا على بالميرا (تدمر) وتعيّنَ مستشارًا بطريركيًّا. قضى بقية حياته في الانفراد والزُّهد، إلى أن تُوفيّ، بدير الصابغ في الخنشارة، في 19 تشرين الأول سنة 1933، ودُفن في كنيسة مار يوحنا.
(15) هو ضاهر نقولا مغبغب. وُلد في عين زحلتا في 10 تشرين الثاني سنة 1853، سيم كاهنًا في رومة في 27 آذار سنة 1883 ودُعي بطرس. سيم مطرانًا على أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع يوم أحد العنصرة في 28 أيار سنة 1899 ودُعي كيرلُّس، بوضع يد البطريرك بطرس الرابع الجريجيري في اسطنبول. انتُخب بطريركًا على كرسي أنطاكية في 08 كانون الأول سنة 1925 ودُعي كيرلُّس (التاسع). توفّي في الإسكندرية في 08 ايلول سنة 1947، ودُفن هناك. خلال أسقفيّته اشتهر بمحاربة الماسونيّة والبروتستانتيّة ورجالاتهما، وقام بأعمال ترميم وإعمار المدارس والكنائس والمياتم. وكان له دور هام على الصعيد السياسي العام، خصوصًا لجهة نضاله من أجل استقلال لبنان. وقد رأس الوفد الكاثوليكي (الذي ضمَّ مرافقَيه الأرشمندريت كبريانُس شهاب ق.ب. والأرشمندريت ثاوضوسيوس معلوف ق.ب.) المرافق للبطريرك الماروني الياس الحويّك، إلى مؤتمر باريس، للتفاوض بشأن إعلان دولة لبنان الكبير.
لمزيد من المعلومات عن حرب المطران كيرلّس مغبغب على الماسونيّة والماسون، راجع:
• المر، د خير، أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك (2007-0000) تاريخ عريق ودور ريادي، تصميم وطباعة أنطوان رزق الله، 2009، 599 صفحة، الصفحة 371-383.
(16) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 1و2.
(17) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 3. 
(18) جمال باشا (1872-1922): “قائد الجيش العثماني في سورية (1915-1917). اشتهر بظلمه في إعدام جماعات من شهداء الوطن السوريّين واللبنانيّين. اغتيل في تفليس”.
• راجع: (المنجد في الأعلام: دارالمشرق-بيروت، الطبعة 19، سنة 1992، الصفحة 203).
• راجع: المسرّة 2(1911)، ص403-410.
    (20) هو اسم شقيقة الأرشمندريت عِكِّه، أُنظر مُلحَق الصُّوَر، رقم      .
(21) لقد عثرنا، في مجلة المسرّة الغرّاء، السنة 20 (1934) على خبر وفاة هذه السيّدة الفاضلة مذكورًا في الصفحات 234-236، تحت عنوان: “فقيدة البر والإحسان سلمى أرملة المرحوم سليم بولاد”، فرأينا أن ندوّنها، لجزيل الفائدة، في هذه الحاشية، نظرًا لما تحمله من صدق في التعبير وللأمانة التاريخيّة. 
“وُلدت (سلمى) في دمشق سنة 1850 من أبوين عريقين في الفضل والحسب هما جبران مسدّيه وآسين جبران دوماني، وربيت في بيت والديها الفاضلين على التقوى الراهنة ومحبَّة الخير. والأكثر شهرة في أسرتها الطيِّب الأثر المطران بولس مسدّيه مطران القلاَّية الدمشقيّة. ولما بلغت السن الثالثة عشرة، على حسب عوائد تلك الأيام الحميدة، زُفَّت إلى شاب وجيه وفاضل معاً يُدعى سليم ديمتري بولاد. ولم تلبث أن ذهبت معه إلى القطر المصري حيث كان لهُ أطيان وبابور لحلاجة القطن. فظلاّ هكذا سنين طويلة يشتوان في مصر ويقضيان فصل الربيع في بيروت والصيف في شتوره حيث كان لهما أراضٍ واسعة هي أشهر من أن تعرَّف. 
وكانت سلمى على جانب عظيم من الذكاء، سامية الأخلاق، نادرة الخصال، مطبوعة على عزّة النفس وفعل الخير، فأصبحت سريعًا سيدة يُشار إليها بالبنان. وأضحى بيتها أينما حلّت محطّ رجال الكبار والعظماء من رجال الدين والدنيا. حتى يحق أن يُقال عنها أنها كانت كأميرة تسطو بهيبتها وكمالها على كل من يدنو إليها، وقد سافرت مرارًا إلى أوروبا ولاسيما لمشاهدة معارض كثيرة للأنبذة والخمور، حيث نالت خمور معاملها في شتوره الأنواط الذهبيّة والجوائز العالية. 
ومع ما كانت عليه هي وقرينها من الفضل والتُّقى، قد شاء الله بحكمته التي لا يُسبر غورها أن يحرم هذا الزوج الفاضل من عَقِبٍ يتمتّعان به في مراحل هذه الحياة ويطمئنّان إليه لتخليد اسمهما بين الناس. فقبلا هذه المحنة من يد العليّ بكل خضوع وتسليم، وتوطّدت فيهما حينئذٍ مبادىء التقوى الصحيحة ففهما جليّاً أنّ خير ما يُخلِّد به الإنسان ذكره إنما هو عمل الخير ومؤاساة ذوي البأساء. فوقفت سلمى منذ ذلك الحين ثروتها الطائلة على عمل البرّ ومساعدة المشاريع الخيريّة على اختلافها، لا في طائفتها فحسب بل في جميع الطوائف على السواء، بدون أدنى تمييز. حتى صحّ أن يقال عنها بصواب إنها لم تدع فرصة إلاّ اغتنمتها لمساعدة الفقير ومعاضدة المشاريع الدينيّة، من تشييد الكنائس وتزيينها. (معلوم أن هذه السيدة الفاضلة كانت قد أخذت على نفسها تشييد كنيسة القديس بولس بدمشق، على ما ذكرته المسرّة في سنتها العاشرة 1924 صفحة 642، فضلاً عن كنائس ومشاريع عديدة أرصدت لها إعانات كبيرة في مختلف أبرشياتنا الملكيّة. وقد أقامت في شتوره على نفقتها معبدًا خاصًّا على اسم مار الياس لمشاركيها وأهالي الجوار، وقامت هي نفسها بمرتّب كاهن يعنى بخدمتهم الروحيّة) وأسهمت في إنشاء المياتم والملاجىء، وتربية عشرات الإكليريكيين وايصالهم إلى الكهنوت على نفقتها، وإعالة اللُّقطاء، والاعتناء بالقاصرات وتدبير زواج شريف لهنّ، إلى غير ذلك مّما لا يحصره عدّ. 
وقد كانت كأم حنون ترنو بعطف على كلِّ نفس تتألّم ولاسيّما على الفلاحين مشاركيها. فأقامت لهم مستوصفًا مجانيًّا وكانت تداويهم وتطببّهم على نفقتها، وسهّلت لهم سبل المعاش فكانوا في نعيم في ظلّ حمايتها.
ويمكننا القول بدون أدنى مبالغة إن بيتها قد أضحى حقًّا بيت الفقير والمعوز، حتى أنها كانت تُعطي بلا حساب. فلم يطرق قطّ بابها أحد وعاد خائباً مهما كانت حاجته ماديّة أو أدبيّة. فلا غرو إذا دان لها الكبار والصغار ورأينا الحكومات نفسها تسارع إلى تزيين صدرها بالأوسمة العديدة. غير أنها قبل أن تزيّن صدرها أوسمة الحكومات كانت هي نفسها قد سبقت فكلّلت مفرقها بمبرّاتها التي لا تُحصى. إلاّ أنَّه كان ينقص في إكليلها البهي حجر كريم أعني به تلك العظمة التي يخوّلها العذاب. وكانت العناية الإلهيّة قد أعدّت لهذه المرأة الفاضلة، في المرحلة الأخيرة من حياتها، محنة تكون على مقدار سمو فضائلها. وبأحكام يتعذّر علينا فهمها قد شاء المولى سبحانه أن تنشأ تلك المحنة من نيّات المحسنة الكبيرة عينها وفضيلتها. فإنها لمّا شعرت قبل نحو اثنتي عشرة سنة بأن أيام غربتها على هذه الفانية قد أوشكت أن تنتهي رامت أن تضع الحجر الأخير من بناء أفضالها، فعزمت على أن تبيع جميع ما تملكه في شتوره وتقف ثمنه بكامله على أعمال البرّ. وقد تمّ لها ذلك في آواخر سنة 1922. وبينما كانت تلك المحسنة الجزيلة البرّ تهنّىء نفسها بنيل مأربها، إذا بعدوّ الجنس البشري يُنشىء حول عقد المبيع خلافًا أفسد عليها عملها المبرور. فما عتّمت أن دخلت المسألة في المحاكم وظلّت تُنقل من ديوان إلى ديوان ومن تأجيل إلى تأجيل مدة عشر سنوات كاملة، تحمَّلت في أثنائها صاحبة الحق الصراح بحرًا من الأحزان والأوجاع الداخليّة بصبرٍ عجيب لا يقدّره إلاّ من عرف عن كثب سمو فضيلة تلك النفس البارة وقابل بين ما كانت عليه من العزّ وما بلغت إليه من ضيق الحال. ولم تُحَلّ تلك العقدة الصعبة إلاّ قبيل موت زوجها الفاضل، بمساعي سيادة متروبوليت بيروت كيريوس مكسيموس صائغ الكلي الوقار، الذي كان لها في آواخر حياتها السند المتين والمعزّي الفريد.
هكذا وافتها المنيّة وهي لم تذق بعدُ تمامًا نتائج الحلّ الذي نالته مشكلة شتوره، صليبها الأكبر في هذه الحياة. فوجدتها مطهّرة ببوتقة العذاب مستعدة لملاقاة خالقها، مكلّل صبرها العجيب. وقد طارت روحها الطاهرة إلى الله بعد منتصف الليل التابع للاثنين 12 آذار (1934)، مخلّفة الحسرة في جميع الذين خبروا فضلها وكانوا يعدّونها سندًا لهم ولمشاريعهم في مختلف الأنديّة والأوساط. فأقيم لها مأتم مهيب في قرية زوق مكايل وجنّاز احتفالي ترأّسه سيادة متروبوليت بيروت يعاونه سيادة مطران زحلة ورهط كبير من الإكليروس البيروتي الموقّر ومن الرهبانيتين الشويريّة والحلبيّة الكريمتين وجمعية المرسلين البولسيين. وأبّنها سيادة المطران مكسيموس صائغ مترئسّ الحفلة بما هي أهل له من المديح. ثُم دُفنت إلى جانب قرينها الفاضل في مقبرة دير الراهبات الحلبيات بالزوق. رحمها الله رحمة واسعة وأجزل ثوابها في عداد مبرَّاتها التي تخلّف في تاريخ الطائفة العزيزة ذكرًا لا يُمحى وسوف تبقى للمؤمنين مثالاً حيّاً على توالي الأيام”.
لمزيد من المعلومات:
• راجع: – المسرّة 12 (1926)، إنعام بابوي، ص 518-519
                     – المسرّة 10 (1924)، شار الخوري ثاوفانوس: سيرة رجل  
   البِرِّ والصلاح المرحوم حبيب ديمتري بولاد، ص 713.
– المسرّة 19 (1933)، سليم ديمتري بولاد: فقيد الفضل والتقى          
  والوجاهة، ص 510-511.
(22) بناها على اسم سيّدة النجاة ما بين (1846-1856) المطران باسيليوس شاهيات، الراهب الشويري الحلبي (1836-1864). وهو الذي جاء، بعد مذبحة 1860 الشهيرة، بلوحة كبيرة لسيّدة النجاة العجائبيّة التي رسمها الرسام الشهير يوهانِّس شراودولف في مدينة ميونخ-النمسا سنة 1861، والتي تبرَّع ببروازها الذهبي أمبراطور النمسا فرنسوا جوزف الأول، وتمَّ وضعها في الكابيلاّ القديمة. في العام 1946 أعاد المطران إفثيميوس يواكيم تجديد الكاتدرائيّة احتفالاً بيوبيلها المئوي الأوَّل. 
لمزيد من المعلومات:
• راجع: الندّاف، الياس توفيق، الرعايا أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك، إخراج وطباعة شركة البقاع للدعاية والنشر “بكابرس” 2006، 170 صفحة.
(23) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 4.
(24) سنة 1766، اشترى الرئيس العام الخوري يعقوب صاجاتي أرضًا في بلدة بقعتوتة من مشايخ آل الخازن، ضاهر وسلمان ومراد، وتكرّم المحسن المقدسي إبراهيم خير الدمشقي فعمّر عليها من ماله الخاص ديرًا على اسم سيّدة النياح، في عهد البطريرك ثاوضوسيوس الدهّان والمطران باسيليوس جلفاف على أبرشيّة بيروت. انتهى بناء الدير سنة 1772 وتمَّ تأريخ هذا الحدث بالأبيات المنحوتة فوق باب الكنيسة الجنوبي.
وقد قطن المقدسي ابراهيم وزوجته مع الراهبات في الدير، وقد كانت رغبته بأن يكون الدير، بنوع خاص، لسكن الراهبات الدمشقيّات قبل سواهنّ، وإنَّ زوجته ترهبّت في الدير سنة 1779 بعد وفاة زوجها بسبع سنين.
(25) في ختام المجمع العام المنعقد في دير الصابغ، ما بين 22 و 24 آب سنة 1922 تمَّ انتخاب العمدة الرهبانيّة على النحو التالي: الخوري جاورجيوس حداد رئيسًا عامًّا، والآباء: ميخائيل كفوري مدبّرًا أوّل، مرقس قاصوف مدبّرًا ثانيًا، كرنيليوس رياشي مدبّرًا ثالثًا وثاوفانوس عِكِّهْ مدبّرًا رابعًا.
(26) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 5.
(27) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 6.
(28) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 7.
(29) راجع المسرّة 16 (1930)، ص 128. 
(30) هو اسكندر بن جرجس قطّان، من زوق مكايل. وُلد في بيروت في 30 آب سنة 1882. أصبح راهبًا شويريًا في 12 تشرين سنة 1899 ودُعي بوليكربوس. نال شهادة الدكتوراه، في الفلسفة واللاهوت، ورُسم كاهنًا في رومة في 07 حزيران سنة 1908 وتسمّى باسيليوس. عيّنته الرهبانيّة وكيلاً لها لدى الكرسي الرسولي سنة 1910 وبقي في منصبه حتى انتخابه مطرانًا. انتُخب متروبوليتًا لأبرشيّة بيروت وجبيل وتوابعهما، وسيم مطرانًا في القاهرة في 13 آذار سنة 1921، بوضع يد البطريرك ديمتريوس (الأوّل) قاضي.
استقال في 05 آب سنة 1933 وذهب إلى رومة. وتوفّي، فيها، في 11 أيار سنة 1952.
كان يمتلك ثقافة واسعة، وقد نال، من حكومة إيطاليا، إجازة بتدريس آداب اللغة العربيّة سنة 1912، وعُيّن أستاذًا محاضرًا في جامعة رومة الملكيّة. له عدّة مؤلّفات، وحائز على عدّة أوسمة.
(31) من مواليد كفرتيه (قرب بسكنتا) سنة 1859، لبست ثوب الابتداء في دير سيدة النياح سنة 1874 وأبرزت نذورها الرهبانيّة سنة 1875، أصبحت رئيسة على الدير المذكور سنة 1920 وبقيت حتى سنة 1932، توفّاها الله سنة 1950، عن عمر 91 سنة.
(32) هو شبل بن ناصيف الياس غندور المعلوف. وُلد في حدث بعلبك سنة 1879، دخل الرهبانية الشويريّة في سنة 1894. لبس ثوب الابتداء في دير الصابغ في 11 كانون الثاني 1895 ودُعي ثاوضوسيوس، وهو (الثاني) بهذا الاسم من هذه العائلة. ثمَّ أبرز نذوره المقدّسة في 6 آب سنة 1896. دخل مدرسة الرهبانيّة في الدير نفسه وتلقّى العلوم الثانويّة مدة ست سنوات. وتلقَّن بعدها العلوم الفلسفيّة على يد الأستاذ أمين برصا ثمّ العلوم اللاهوتيّة على يد الأب برنردُس غصن. 
سيم شمّاسًا إنجيليًّا في 27 كانون الأول سنة 1903 في كاتدرائيّة مار الياس في بيروت، عن يد المطران ملايتوس فكّاك. وفي 22 آب سنة 1904 رقّاه السيد أغابيوس المعلوف، مطران بعلبك، إلى درجة الكهنوت المقدَّسة في كنيسة مار نقولا بدير الصابغ. ومن ثمَّ دعته الطاعة المقدَّسة إلى المدرسة الشرقيّة في زحلة. فقضى هناك ثلاث سنين في التعليم والنظارة. سافر بعدها سنة 1910 إلى فرنسا وأقام مدة ثلاث سنوات في جامعة “أنجرى” فنال المأذونيّة في العلوم الطبيعيّة.
وعاد إلى لبنان، فدرّس العلوم الطبيعيّة في الكليّة الشرقيّة. ثمّ عُيّن فيها مديرًا للدروس إلى سنة 1913 إذ سافر مع المطران أثناسيوس صوايا، متروبوليت بيروت، إلى فرنسا لحضور المجمع القرباني المنعقد وقتئذ في لورد. وفي هذه الغضون اشتعلت نيران الحرب الكبرى فبقي في فرنسا إلى أيام الاحتلال الفرنسي للبنان وسوريا سنة 1919 إذ انتُخب مدبّرًا رابعًا ورئيسًا للمدرسة الشرقيّة في زحلة فعاد إلى لبنان سنة 1920 ولم يقضِ في زحلة غير سنة واحدة عُيِّن، على إثرها، وكيلاً عامًّا للرهبانيّة لدى الكرس الرسولي سنة 1921 فأقام برومة ثماني سنوات حتى سنة 1928.
وفي 10 كانون الأول سنة 1928 سمّته الزيارة الرسوليّة رئيسًا عامًّا على الرهبانيّة فعاد إلى لبنان واستلم دفة الرهبانيّة ومازال على إدارتها بحزمه وتفانيه حتى اضطره مرض القلب، الذي فاجأه في هذه المدة، إلى الاستقالة سنة 1932.
حظي بمرافقة المطران كيرلّس مغبغب (زحلة) رئيس الوفد الكاثوليكي إلى مؤتمر باريس، للتفاوض بشأن إعلان دولة لبنان الكبير. 
رقد بالرَّب في 29 نيسان سنة 1939 في دير مار أنطونيوس القرقفي في كفرشيما وأقيمت له مراسم التجنيز، في اليوم التالي، في دير القديس باسيليوس في الأشرفيّة ودُفن فيه.
له في الرهبانيّة مآثر جمّة أجلّها سعيه في إنشاء دير القديس باسيليوس في بيروت ليكون مركزًا لأبناء الرهبانيّة الذين يتلقّون علومهم العاليّة ولجمهور الإخوة الدارسين، وقد أمّن لهذا الدير موردًا كافيًا على مدى الأيام، وتولى رئاسته منذ سنة 1937 حتى وافته المنيّة. وقد ساعد في شراء عقارات وإقامة مشاريع تمّت في أديار الرهبانيّة في الخنشارة وزحلة وكفرشيما وديري سيّدة النياح والبشارة.
من مناقبه أنه كان طيّب القلب، محبًّا للسلام، محافظًا على الواجبات الرهبانيّة ومثالاً صالحًا ونموذجًا للبساطة الإنجيليّة والحياة الهادئة. وهو، إلى جانب ذلك، عالم كبير له مقالات متنوّعة وقصائد مخطوطة، وقد حاز على عدّة أوسمة.
(33) ورد في كتاب “أخويّة السيّدات للروم الكاثوليك في مدينة بيروت”، المطبوع سنة 1913، صفحة 260-262، تحت عنوان: “أخويّة كنيسة المخلِّص في بيروت”، هذه النبذة:
“لمّا اتّسع نطاق مدينة بيروت وكثُرت أبنيتها وأحياؤها تعذّر اجتماع أبناء الطائفة في الكنيسة الكبرى لقضاء فروضهم الدينيّة، فقام المرحوم المغفور له “البروتوبْروزْفيتِروس” إكليمنضوس فرح، الراهب الباسيلي الشويري، وأتمَّ بغيرته الشهيرة سنة 1890 بناء كنيسة فخمة في حي الدحداح دعاها باسم المخلِّص له المجد، وذلك بنفقة رهبنته والمحسنين. وبنى بجانبها أنطوشاً جميلاً لإقامة الكهنة الذين يخدمون أنفس الشعب، وخصّص جانباً منه للمدرسة الرعائيّة المعروفة التي صارت، فيما بعد، مدرسة الطائفة “الأسقفيّة”، وأنشأ رحمه الله في الكنيسة المذكورة فرعاً لأخويّة السيدة البتول تابعاً لأخويّة الكنيسة الكبرى، وجعل لها نفس الفروض والقوانين والغايات المرسومة من المؤسّس العام الخوري جاورجيوس عيسى ق.ب. رحمه الله…” وقد خدم الأب إكليمنضوس فرح (1855-1901) الرعيّة حتى تاريخ وفاته في السادس من شهر تشرين الأول سنة 1901. 
(34) هي الأم بربارة كلاّس، من مواليد الفاكهة (قضاء بعلبك) سنة 1881، لبست ثوب الابتداء في دير سيدة النياح سنة 1874 وأبرزت نذورها الرهبانيّة سنة 1875. أصبحت رئيسة على الدير المذكور سنة 1932 وبقيت حتى سنة 1940. توفّاها الله سنة 1973، عن عمر 92 سنة. 
(35) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 8.
 
(36) أسّس الأب إكلمنضوس فرح ق.ب.، أيضًا، مدرسة المخلِّص الشهيرة سنة  
 1887، وكان أوّل رؤسائها، وذلك في عهد المطران ملاتيوس فكّاك، متروبوليت بيروت، (1881-1904).
(37) أُنظر مُلحَق الوثائق، رقم 11.
(38) يتعارف الجميع على تسمية هذه الكنيسة “كنيسة القدّيس جاورجيوس” و”كنيسة اللابس الظفر”، وضمن منطقتها “كنيسة مصلّى الشام”.
لا يوجد تأريخ دقيق يثبت التاريخ الفعلي لإنشاء هذه الكنيسة وتضاربت آراء المؤرّخين واختلفت المعلومات الوثائقيّة في قضية تأريخ بنائها.
ففي كتاب مختصر تاريخ طائفة الروم الملكيّين الكاثوليكيّين للمطران غريغوريوس عطا، المطبوع، في بيروت في المطبعة الأدبيّة، سنة 1884، ص 108 و109، يذكر المؤلِّف الكنائس التي أُنشئت في عهد البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم (1833-1855)، ويأتي على ذكر هذه الكنيسة: “السادسة عشرة في دمشق في باب المصلَّى بالميدان على اسم القدّيس جاورجيوس سنة 1849، السابعة عشرة في القورشي بالميدان من دمشق على اسم سيّدة النياح في السنة نفسها”.
أمّا الأب د. متري هاجي أثناسيو، فيذكر في كتابه “كنائس حي الميدان”، في الصفحة 137، أنّ: “أقدم شهادة حول تأريخ بناء كنيسة القديس جاورجيوس (هي) في العام 1834، وأول عماد دوِّن في سجل عماد هذه الكنيسة يرقى إلى 16 آب 1836، يمكننا الاستنتاج أن هذا البطريرك العظيم، بعد تدشينه الكنيسة الكاتدرائيّة 1834، وخلال إقامته في دمشق في تلك السنة، وبطلب من أبناء رعيّة القدّيس جاورجيوس… قد استجاب لطلبهم وبنى لهم كنيسة في باب المصلّى…”
لمزيد من المعلومات:
• راجع: هاجي أثناسيو (الأب د. متري) موسوعة كنائس دمشق، (2) كنائس حي الميدان، 2004، 942 صفحة.
(39) وُلد في دمشق في 28 كانون الأول سنة 1885. رُسم كاهنًا في 20 تموز سنة 1908. انتخبه المجمع المقدّس رئيس أساقفة اللاذقية شرفًا، وتمّت سيامته، في القاهرة، في الأوّل من كانون الثاني سنة 1922 بوضع يد البطريرك ديمتريوس الأوَّل قاضي، وأُقيم نائبًا بطريركيًّا عامًّا على القطر المصري.
نُقل إلى دمشق في 27 تموز سنة 1928، حيث أُقيم نائبًا بطريركيًّا عامًّا وبقي حتى استقالته، بسبب المرض، سنة 1959، وفي 07 آذار سنة 1961 تمَّ تعيينه رئيس أساقفة دمياط شرفًا. توفّاه الله في 09 تشرين الثاني سنة 1963 في دمشق، وفيها دُفن.
(40) جاء في كتاب تاريخ زحلة، لعيسى اسكندر المعلوف، الطبعة الثانية منقّحة ومزادة مع صور ووثائق، مطبعة “زحلة الفتاة” 1977، 252 صفحة، في الصفحة 127، ما يلي:
“… وسنة 1817 م كبُر العمار في جهة القاطع الغربيّة وكان من اصطلاح الزحليين أنّ الذين من سكانها بعهدة الأمراء آل مراد اللمعيين يتبعون الرهبان المخلّصيين، والذين بعهدة الأمراء آل قَيْدَبَيْه اللمعيين يتبعون الرهبنة الشويريّة. وكانت الرهبنتان تبنيان الكنائس، فتسمّي الحارات باسمها.
فسعى الخوري إغناطيوس الجامد (أب عام 1823، + 1837) من الرهبان الشويريّين، بعد استئذان المطران السيد إغناطيوس (عجّوري) 1816-1834، ببناء كنيسة البربارة في جهة القاطع المذكورة، وأتمّها، فسُمّيت تلك الجهة باسمها (حارة البربارة) إلى يومنا”.
 
(41) هو وديع بن فرنسيس سماحة من الخنشارة. وُلد سنة 1891، لبس ثوب الابتداء في 20 كانون الأول سنة 1904، وأبرز نذوره الرهبانيّة، عن يد الأب العام يوسف الكفوري، في 09 أيار سنة 1907 متّخذًا اسم إسطفانُس. ثمَّ دخل مدرسة الصابغ وأكبّ على الدراسة. سيم شمّاسًا إنجيليًّا في كنيسة دير الصابغ عن يد المطران أثناسيوس صوايا، متروبوليت بيروت، في 20 حزيران سنة 1912. وفي أول تموز سنة 1913 سيم كاهنًا بوضع يد المطران المذكور أعلاه.
تعيّن ناظرًا في الكليّة الشرقيّة (1915-1917) وفي صيف سنة 1917 عُيّن وكيلاً لمدرسة دير الصابغ، ثمّ رئيسًا لها وظلّ حتى سنة 1927، ثمَّ تعيّن رئيسًا للإخوة الدارسين في بيروت سنة 1928. ثمَّ قيّمًا عامًّا، وكان أوّل من شغل، رسميًّا، هذه المهمّة الجديدة في الرهبانيّة.
سنة 1929 تعيّن كاهنًا لرعية البربارة في زحلة، فقضى فيها ستة أشهر ثمَّ تعيّن معلّمًا للمبتدئين سنة 1929 مدة سنة واحدة. وفي سنة 1930 انتُخب رئيسًا للإخوة الدارسين في مدرسة بيروت، وبقي في هذه المهمة حتى اختاره الكرسي الرسولي لمنصب الرئاسة العامّة، وأُعلن تعيينه رسميًّا في 02 حزيران سنة 1934، وفي عام 1943 تمَّ التجديد له لولاية ثانية حتى 15 كانون الأول 1949 حيث عُيِّن رئيسًا لدير مار يوحنا في الخنشارة سنة 1950، وبقي إلى أن توفّاه الله في 13 نيسان سنة 1951، في مستشفى رزق في بيروت، وقد دُفن، في اليوم التالي، في كنيسة مار يوحنا القديمة في دير الصابغ.
من أعماله أنّه شيّد مدرسة الصابغ الجديدة سنة 1934 ودير مار باسيليوس سنة 1935 وسعى بتشييد بناية ساحة النجمة في بيروت سنة 1936 وبدأ بتشييد كنيسة السيّدة في غابة بولونيا ووضع حجرها الأساسي في 11 أيلول سنة 1938 وبنى دير الصابغ الجديد سنة 1940 وشيّد بنايات عديدة في غابة بولونيا. وأسّس فرع الراهبات الشويريّات المرسلات سنة 1940. كان نفحة طيب شذيّة، فتحلّى بالوادعة والتواضع ولم تفارق البسمة ثغره. وكان متجرّدًا محبًّا للسلام ثابتًا في زرع البِشر والبشاشة بين رهبانه. وقد امتاز في تقواه، فعُرف عنه محبَّة الصلاة الفرضيّة والترنيم، الذي كان يتقاضاه غيبًا، وباليونانيّة، ويلقّنه للمبتدئين.
(42) وُلد فارس جريس يواكيم في قيتولي (جزّين) في 15 حزيران سنة 1885. أصبح راهبًا مخلِّصيًّا، وسيم كاهنًا في مدرسة القديس أثناسيوس برومة في 25 آذار سنة 1912.
أصبح رئيسًا عامًّا، وبقي حتى سنة 1926. انتُخب مطرانًا على أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع، وتمّت سيامته في 09 كانون الأول سنة 1926، في كاتدرائيّة سيّدة النجاة بزحلة، بوضع يد البطريرك كيرلّس التاسع مغبغب. استقال من منصبه، بداعي الشيخوخة، في 21 آب سنة 1971.
توفّاه الله، في زحلة، في 19 أيار سنة 1972، ودُفن في كاتدرائيّة سيّدة النجاة. 
اشتهر بتوجيه عدد كبير من المنشورات الراعويّة لأبناء أبرشيّته، منها: منشورة الراعوي “في الماسونيّة” المطبوع بمطبعة القديس بولس في حريصا سنة 1931، وفيه يستكمل تعليم سلفه المطران كيرلّس مغبغب عن هذه البدعة.
(43) هي جريدة سياسيّة مستقلّة جامعة، شعارها: “تقول الحق ولو في حضرة سلطان جائر”. أسّسها، في زحلة، سنة 1910، الأستاذ شكري بخّاش والأديب إبراهيم الراعي، وماتزال تصدر، حتى الآن، بإشراف رئيس التحرير المسؤول الأستاذ جان شكري بخّاش.
(44) هو نقولا بن يوسف داود فرح. وُلد في بلدة قاره – سورية في 04 أيار سنة 1910. أصبح راهبًا شويريًا في 14 أيلول سنة 1927، وملفانًا في اللاهوت من جامعة القديس يوسف، للآباء اليسوعيين، في بيروت. رُسم كاهنًا، بوضع يد المطران مكسيموس الصائغ، متروبوليت بيروت، في 08 أيلول سنة 1937 في دير مار يوحنّا (الخنشارة) عُيِّن رئيسًا لمدرسة الصابغ في الخنشارة (1940 – 1946)، ثمّ رئيسًا لدير مار الياس الطُّوق في زحلة (1947 – 1949). أصبح رئيسًا عامًّا سنة 1949 وبقي حتى سنة 1961 حيث انتُخب مطرانًا على أبرشيّة طرابلس، وسيم بوضع يد البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ، في 18 حزيران سنة 1961 في كاتدرائيّة النبي الياس – بيروت. نُقل إلى كرسي زحلة في 25 آب سنة 1977. توفّي، إثر مرض عُضال، يوم خميس الأسرار في 31 آذار سنة 1983، ودُفن في كاتدرائيّة سيّدة النجاة في زحلة.
خلال فترة رئاسته العامّة حصلت تحوّلات هامّة في الرهبانيّة: 
– فقد انتقلت، بعد الاستفتاء العام الذي جرى سنة 1954، من رهبانيّة توحّدية إلى منظّمة رهبانيّة.
– تثبيت الفرائض الجديدة، بنصِّها الفرنسي، سنة 1957.
– حصلت الراهبات الباسيليّات الشويريّات على الاستقلاليّة الذاتيّة عن سلطة الرئيس العام.
– شهدت الرهبانيّة ازدهارًا كبيرًا وازداد عدد الدعوات فيها، وتمّ تأسيس مراكز وإرساليات جديدة في كوردوبا – الأرجنتين، وإربد في الأردن، ومرجعيون في لبنان.
– وضعُ الحجر الأساسي لكنيسة السيّدة الكبرى في مدرسة دير الصابغ سنة 1952، والانتهاء من بنائها. 
 
(45) سنة 1763، اشترت الرهبانيّة مزرعة القرقفي في خراج بلدة كفرشيما، قرب حَدَث بيروت، من جناب الأمير علي الشهابي، وعمّرت عليها ديرًا على اسم القديس أنطونيوس الكبير، بهمّة الرئيس العام الخوري يعقوب (قديد) صاجاتي، سنة 1769، وجعلته لسكنى الآباء الشيوخ، ومقرًّا شتويًّا للرئيس العام.
اشتهر هذا الدير من خلال التئام بعض سينودسات الطائفة فيه:
– سينودس سنة 1788 لانتخاب السيد أثناسيوس جوهر بطريركاً.
– سينودس سنة 1806 المشهور باسم “سينودس القرقفة”.
– سينودس سنة 1816 لانتخاب الأب موسى قطّان بطريركًا.
وكان ما بين 1761-1788 مقرًّا بطريركيًّا للسيد ثاضوسيوس الدهّان ق.ب.، وفيه تمّت سيامة العديد من الأساقفة.
كما ساهم الدير بتكوين نهضة ثقافيّة واسعة في كفرشيما والجوار، من خلال المدرسة التي بنتها الرهبانيّة سنة 1882.
(46) هو حبيب بن شكر قاصوف. من مواليد زحلة سنة 1871، لبس ثوب الابتداء في دير مار يوحنا في 25 آب 1887 ودُعي بيمين، أبرز نذوره في الدير عينه في 06 كانون الأول سنة 1888 متّخذًا اسم يوسف، تكرّس شمّاسًا إنجيليًّا، في 06 آب سنة 1892، بوضع يد المطران ملاتيوس فكّاك متروبوليت بيروت، وسيم كاهنًا، في 23 آب سنة 1893، بوضع يد السيد المذكور، في دير مار سمعان (وادي الكرم).
خدم الرعايا والرِّسالات في طرابلس وبلاد عكّار وراس بعلبك وكفرشيما وحَدَث بيروت، وعمّيق ورياق في أبرشيّة زحلة. وقد تسلّم رئاسة دير مار أنطونيوس القرقفي، في كفرشيما، مجمعًا واحدًا (1904-1907)، وقضى بقيّة حياته يخدم رعيّة مار الياس في معلَّقة زحلة (1931-1968). توفّي، خلال شهر آذار سنة 1969، في دير يسوع الملك في زوق مصبح.
(47) هو جميل موسى فلّوح. من مواليد بصير-حوران سنة 1911، دخل الرهبانيّة سنة 1925، ارتبط بالنذور المؤبّدة في 16 كانون الأول سنة 1928، سيم كاهنًا، في دير الصابغ، سنة 1937، عُيّن رئيسًا للكليّة الشرقيّة في زحلة، ما بين 1941-1946 و 1950-1953، ورئيسًا لدير مار يوحنّا في الخنشارة 1946-1949، ثمَّ نائبًا أسقفيًّا في إربد شرقي الأردن 1955-1957، برتبة أرشمندريت. رقد بالرَّب في 16 آذار سنة 1959 في مدينة إربد، حيث كان ذاهبًا لإلقاء مواعظ رياضة الصوم هناك.
يُعتبر من الوجوه الأدبيّة اللامعة في الرهبانيّة، له كتب ومسرحيات معرَّبة، من أشهرها: “سلّة الفاكهة” لطاغور. وله أيضًا تمثيليات ومقالات ودراسات أدبيّة وخطب منشورة في مجلّة “الينبوع” وغيرها. وكان عالي الهمة، شهمًا، مضيافًا وصاحب نكتة وحضور محبَّب.

نقولا قادري (1985+1914)
هو نقولا بن يوسف قادري، والدته وديعه صباغ، من مواليد زحلة في 13 تشرين الثاني١٩١٤ ، نال سر العماد في 1 كانون الثاني 1915 ،دخل الرهبانية في ٢٤ تشرين الأول 1930 ، لبس ثوب الابتداء في 14 شباط 1931 ودعي أناطوليوس. أبرز نذوره الموقتة في ٢٩ أيار۱۹۳۲، وارتبط بالنذور المؤبدة في ٢٩ آب1936. دخل مدرسة الصابغ وأكمل فيها علومه الابتدائية والثانوية ، وقد نال شهادة البكالوريا اللبنانية، القسم الأول – الفرع الأدبي، في دورة حزيران ١٩٤٠ . درس الفلسفة واللاهوت عند الآباء اليسوعيين ، في جامعة القديس يوسف في بيروت، وحصل على شهادة الليسانس في اللاهوت في 1 تموز ١٩٤٦، ثم باشر بإعداد أطروحة ، لنيل شهاد الدكتوراه في الليثرجيا من باريس، بعنوان : «يسوع الملك في الليثرجيا البيزنطية» ، إلا أن ظروفا حالت دون سفره وإكمال مسعاه .قبل الرسامات المقدسة سنة 1945، بوضع يد المطران مكسيموسالصائغ ، متروبوليت بيروت ، فنال درجة الشموسية، في 18 آذار، في كنيسة المطرانية(1)، والكهنوت ، في ٢٩ تموز ، في كنيسة دير الصابغ ، ودعي نقولاوس تولى مسؤوليات عديدة في الرهبانية وخارجها ، منها
أولا : مسؤوليات رهبانية :
مدرس اللغات القديمة في مدرسة الصابغ (1946-1947، 1954-1959) أمين السر العام (1953-1959)، رئيس الرسالة في الأردن (1965-1959)، رئيس الإكليريكية الصغرى في الخنشارة (1965-
١٩٦٨)، معلم المبتدئين (1950 مساعد، 1975-۱۹۷۷، ۱۹۸۰-۱۹۸۳) ، رئيس دير مار الياس الطوق في زحلة (١٩٨٤ – ١٩٨٥)
ثانيا : مسؤوليات راعوية
خدمة الرعايا : عين الصفصاف (1946-1947، ١٩٨٠-١٩٨٤)، المخلص في بيروت (1947-1950 مساعد، ۱۹۷۷-۱۹۸۰)، كفرعقاب (1950-1951)، الخنشارة (1954-1959، 1968- 1969، 1975-1974)، إربد (1951-1953، ١٩٥٩-١٩٦٥)، بولونيا (١٩٤٦ مساعد ، ١٩٨٠-١٩٨٤)، البربارة في زحلة (1969-۱۹۷۲)، منيارة (١٩٧٢-١٩٧٤)
٢ – نيابة أسقفية :
– إربد، الأردن (١٩٥٩-١٩٦٥). وقد نال رتبة «أرشمندريت» من المطران ميخائيل عساف ، في ٢٧ آذار 1960 ، في كنيسة سيدة البشارة في إربد .
– طرابلس (۱۹۷۲ – ١٩٧٤).
الوفاة :
توفي، بمرض القلب ، في ٢٥ حزيران 1985 ، في دير الصابغ ، ودفن ، في مسقط رأسه ، بمقابر الرهبان في دير مار الياس الطوق.
مزاياه :
يعتبر الأب نقولا من كوكبة الآباء الأفاضل المشهود لهم بالفضيلة والتقوى والعلم . فقد اتسمت حياته بطابع القداسة والزهد : ببساطة وفرح حياته الرهبانية المشتركة ، بفقره وعفته وطاعته المميزة : فكانت حقائبه دائها جاهزة لتلبية أوامر السّلطة، في تنقلاته الكثيرة والسريعة ، بحرية وطيبة خاطر (قيل : إنه، في 3 سنوات ، نقل 13 مرة!)؛ وكان محبا للطقوس وبارعا في التيبكون والموسيقى البيزنطية واللغة اليونانية . وكان غيورا على الكنائسية الرهبانية وحريصا على سمعتها ومصالحها .
اشتهر بحبه للكتب والمطالعة وكان له الفضل بشراء الكثير من الكتب ، من مدخوله الخاص ، بإذن الرؤساء ، لاهتمامه بمكتبة دير الصابغ ، وخصوصا بالمخطوطات ، التي عمل على تدوین ثبت خاص بها. وإلى جانب اهتماماته الكثيرة ، اهتمامه بألبسة الرهبان : وقد كان يجيد مهنة الخياطة ، فيخيط 4 الأثواب ، ويفضل ويخيط البدلات الليثرجية للآباء ويصنع لهم القلانس.

جاورجيوس السكاف (1895-1962)

هو مراد بن موسى السكاف ، والدته منّة حبيب أبو صعب المعلوف، من مواليد زحلة ١٨٩٥، لبس ثوب الابتداء في ١٨ شباط ۱۹۲۸ ودعي أفرام . أبرز نذوره الاحتفالية ، عن يد الأب المدبر فلابيانوس كفوري ، في ٢٢ نیسان ۱۹۲۹ ودعي جاورجيوس.
ارتسم شتاشا إنجيليا، في 6 آب ١٩٣٠، بوضع يد المطران باسيليوس قطان، متروبوليت بيروت ، في كنيسة المخلص – ضهور الشوير، وكاهنًا، في ٣١ آب ، من السنة ذاتها ، بوضع يد السيد إفثيميوس يواكيم، مطران زحلة ، في كنيسة دير مار الياس الطوق .
خدم رعية السيدة في بولونيا (١٩٤١ – ١٩٤٢)، وقضى الشطر الكبير من حياته في دير الصابغ نائبا لرئيس الدير ومساعدا لمعلم الابتداء ومرشدا روحيا للنفوس، حيث كان يقضي أكثر أوقاته في كرسي الاعتراف ، ثم عيّن رئيسا في دير كفرشيها مدة تسع سنوات (١٩٤٦-١٩٥٥)، وفي القسم
الأخير من حياته ، كان مرشدا في دير السيدة في بقعتوتة ، أي منذ ٢٦ تشرين الأول ١٩٦١ ، وحتى وفاته لبّى نداء ربه، في الثامن من شهر آب ١٩٦٢، على إثر انفجار دماغي لم يمهله إلا خمسة أيام ، وكانت الوفاة في مستشفى تلشيحا بزحلة، وأقيم له مأتم مهيب ، في اليوم التالي ، في كنيسة دير الطوق قبل دخوله إلى الدير ، عرف عنه بأنه الشاب المهذب اللطيف ، النشيط في شغله والأمين في معاملاته ، المحتشم في متجره، والمنخفض العينين في طريقه ، والمطأطئ الرأس إلى اليمين والتقي الورع في الكنيسة . وهو لم يغب أبدا عن حضور أي احتفال ديني، وكان عضوا في عدة أخويات ، وربما فيها كلها. وقد اشتهر بطاعته وفقره ومحافظته على القوانين، وبحياة قانونية رهبانية ملآی بالتضحيات والتقوى والفضائل والقداسة.

 أغسطينوس فرح (1910-1983)

هو نقولا بن يوسف داود فرح، والدته سلمى، من مواليد قارة في ٤ أيار سنة ١٩١٠، دخل الرهبانية في ٢ تشرين الثاني سنة ١٩٢٢، ولبس ثوب الابتداء في ٢١ نيسان سنة ١٩٢٣ ودعي أغسطينوس . أبرز نذوره الاحتفالية في ١٤ أيلول سنة ١٩٢٧ .
رقاه الأب العام إستفانوس سماحة إلى درجة الشمّاس المعاون في ١٦ أيار ١٩٣٧، والمطران ديونيسيوس كفوري، النائب البطريركي في مصر، إلى درجة الشمّاس الإنجيلي في ٢٢ آب من السنة ذاتها، ورقاه المطران
مكسيموس الصائغ ، متوبوليت بيروت، إلى درجة الكهنوت في ٨ أيلول السنة ذاتها، وقد نال تلك الدرجات المقدسة في كنيسة دير الصابغ في الخنشارة.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الصابغ ، وأنهى دروسه الثانوية سنة ١٩٣٢ ، والفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف ، للآباء اليسوعيين، في بيروت ، مدة سبع سنوات ، وقد نال ، في ٢٥ شباط ١٩٤٢ ، شهادة الدكتوراه في اللاهوت عن إطروحته :
«الروح القدس حسب تعليم القديس باسيليوس»
عُيّن مديرا للطلاب في مدرسة الصابغ (١٩٣٩-١٩٤٠) ثم رئيسا للمدرسة (١٩٤٠-١٩٤٦)، شغل مهمة معلم الفلسفة في الكلية الشرقية وفيما فيها (١٩٤٦)، ورئيسا بالوكالة لدير مار الياس الطوق في أثناء تغيب رئيسه الأب ديمتري حاطوم في أميركا، وتسلم رئاسة الدير المذكور (١٩٤٩-١٩٤٧)
انتخب رئيسا عاما في ١٥ كانون الأول ١٩٤٨، فرقاه البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ إلى رتبة «الأرشمندريت» الكبير للكرسي الأنطاكي ، وأعيد انتخابه رئيسًا عاما في ٢٠ أيلول ١٩٥٦ ، سافر إلى أميركا الشمالية والجنوبية في ١٤ تشرين الأول ١٩٥٩ للقيام بالزيارة القانونية لأبناء الرهبانية في المهجر ، وعاد في تموز ١٩٦٠ .
خلال فترة رئاسته العامة حصلت تحولات هامة في الرهبانية :
– فقد انتقلت ، بعد الاستفتاء العام الذي جرى سنة ١٩٥٤، من رهبانية
توحدية إلى منظمة رهبانية .
– تثبيت الفرائض الجديدة ، بنصها الفرنسي ، سنة ١٩٥٧ .
– حصلت الراهبات الباسيليات الشويريات على الاستقلالية الذاتية، عن سلطة الرئيس العام .
– شهدت الرهبانية ازدهارا كبيرا وازداد عدد الدعوات فيها، وتم تأسيس مراكز وإرساليات جديدة في كوردوبا – الأرجنتين، وإربد في الأردن، ومرجعيون وطرابلس في لبنان، وقد اشترى بعض العقارات في تلك الأماكن.
– الاحتفال بيوبيل الشرقية الذهبي في زحلة ، وتجديد الكلية ، وإضافة جناح جديد ، وتشييد ملعب رياضي فيها .
– وضع الحجر الأساس لكنيسة السيدة الكبرى في مدرسة دير الصابغ سنة ١٩٥٢ ، والانتهاء من بنائها .
انتُخب مطرانا على طرابلس في ٧ آذار ١٩٦١، ونال السيامة الأسقفية في ١٨ حزيران، في كاتدرائية مار الياس – بيروت ، بوضع يد البطريرك مكسيموس (الرابع) الصائغ والمطرانين فيليبس نبعة (بيروت) وأثناسيوس الشاعر (مرجعيون)
حقق في أبرشية طرابلس إنجازات عمرانية عديدة، منها : الاهتمام بكاتدرائية القديس جاورجيوس، فسوى أرضها بالرخام الأبيض، وحسّن إنارتها، وأقام الإيقونستاز الرخامي وزينه بالإيقونات، وهي من وضع الأخت ميلاني حسواني، الراهبة الباسيلية الشويرية، وفي دار المطرانية جدّد المكتبة فأغناها بالمؤلفات اللاهوتية والفلسفية والطقسية. وبنى مدرسة في منيارة قامت بإدارتها الراهبات الشويريات، وأعاد فتح مدرسة الشيخ محمد بعد أن حسّنها، وعهد بها إلى الراهبات الشويريات أيضا، وبنى مستوصفاً في تلك البلدة؛ ورقم كنيسة عدبل وبنى فيها بيتا للكاهن؛ كما شيّد كنيسة في شدرا على اسم الصليب؛ وأصلح بناء كنيسة عيدمون؛ إضافة إلى ذلك قد قام بشراء ثلاثة عقارات : قطعة أرض في بولفار طرابلس، على المدخل الجنوبي للمدينة، مساحتها حوالي ستة آلاف متر مربع؛ قطعة أرض في منيارة مساحتها أربعة آلاف واربعاية متر مربع؛ قطعة أرض في دوما مساحتها خمسماية متر مربع ، بغية بناء دار صيفية للمطرانية. ونقل إلى كرسي زحلة في ٢٥ آب سنة ١٩٧٧.
شارك في أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) وعينه البابا بولس السادس في إحدى اللجان المجمعية ، انتخبه سينودس الكنيسة الملكية رئيسا للجنة السينودسية اللاهوتية ، وعيّن ، من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ، مشرفا على كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس في الكسليك. وفي زحلة أنشأ مجلسا لأساقفة المدينة، بدعم من المطران الأرثوذكسي سبيريدون خوري ، والمطران الماروني جورج إسكندر.
رقد ، برائحة القداسة، على إثر مرض عضال، يوم خميس الأسرار، في ٣١ آذار ١٩٨٣ ، ودفن تحت المائدة الكبرى في كاتدرائية سيدة النجاة بزحلة ، بعد أن أقيم له مأتم مهيب وحاشد ، لم تشهد له المدينة مثيلا من قبل.
إضافة إلى تقواه وغيرته وتجرده ، غرف المطران فرح بحضوره المحبب وقربه من الناس، کا بعلمه الغزير وفن الخطابة اللذين اشتهر بها.
وكان له دور هام خلال الأحداث التي عصفت بزحلة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وارتبط اسمه بصمودها، واعتبر كبير شهدائها.

جبرائيل أبو شديد وباسيليوس سلامة

جبرائيل أبو شديد

جبرائيل ابي شديد (1890-1955)

هو الياس بن خطار أبي شديد، ماروني، من مواليد بسوس سنة ١٨٩٠ . لبس ثوب الابتداء بتاريخ الأول من تشرين الأول سنة 1905 وأبرز نذوره المؤبدة في ٢٨ أيار سنة 1908 رسم شتاشا إنجيليا، في دير الصابغ ، بتاريخ 3 تموز سنة ١٩١٢ ، بوضع يد المطران فلابيانوس كفوري ، متروبوليت حمص ، ثم كاهنًا في ٢٠ تموز سنة ١٩١٦ قضى السنوات الأولى من حيث مارس التعليم والترتيل وإرشاد الأخويات. خدمته الكهنوتية في يبرود، وفي مدينة زحلة.
وقضى القسم الأكبر من حياته في خدمة النفوس في أبرشية بيروت . فقد عيّن لخدمة الرعية في زوق مكايل سنة ١٩٢٢، ثم قضى نحوا من عشرة أعوام خادما لرعية الخنشارة (١٩٢٢-١٩٢٦، ١٩٢٩ – ١٩٣٥) ، وكاهنا، لرعية السيدة في بتغرين (۱۹۲۷-۱۹۲۸)، وبعدها في الشوير سنة ١٩٢٩، وتم تعيينه كاهنا لرعية سيدة المعونات في بولونيا (١٩٣٥-١٩٣٦)، ثمّ انتقل إلى خدمة رعية المخلص في بيروت وبقي فيها حوالي ثماني عشرة سنة حتى سنة 1955 تاريخ وفاته في 7 آذار ، على إثر نشاف في عروق القلب، وشلل قاسى منه شهورا عديدة ، ودفن في دير القديس باسيليوس الكبير في خلال شهر آب ۱۹۲۲ تبرع بعشرين ليرة سورية لطرش وتزيين كنيسة القديس نيقولاوس وبيت المائدة في دير الصابغ.
وفي العام ١٩٣٤ قدم كراسي الخورض لكنيسة القديس نيقولاوس. كان رجلا بارا صالحا قديسًا ، اشتهر بصلاحه ومحبته للصلاة” . کا اشتهر بطيبة قلبه ومحبته للسلام، وبصوته الرخيم وعلمه الواسع في الموسيقى الكنسية، وله فيها مؤلفات لا يزال أغلبها مخطوطا ومحفوظا ، مع مكتبته الموسيقية الهامة ، في المكتبة العامة بدير الصابغ .

يوسف إيليان (1839-1914)

هو الياس بن يوسف توما إيليان ، من مواليد زحلة العام ١٨٣٩ ، لبس ثوب الابتداء في ٢٠ كانون الأول سنة ١٨٧٩ ، ودعي ثاوفانوس. أبرز نذوره في ۲۳ نیسان سنة ١٨٨١، ودعي الياس، ارتسم شتاسًا ، في دير الصابغ ، عن يد كير ملاتيوس فكاك ، في ٢٢ آب سنة ١٨٨٢ ، ثم قشا، عن يد السيد المذكور ، في دير مار سمعان ، في أول أيلول سنة ١٨٨٢ ، وسُمّي يوسف.
توفي، في دير زحلة، بمرض ضيق الصدر، وذلك في ١٥ حزيران سنة ١٩١٤ ، وكان مشهورا بتقواه وصلاحه وغيرته وتجرّده.
لقد توارث الرهبان تقليدا شفويا يخبر عن قداسة سيرة هذا الطيب الذكر ،وكثيرا ما كان الآباء الشيوخ يتحدثون عن فضائله ، كمضرب مثل ، ولما كان الأب بطرس الكفوري ، أحد تلاميذ الأب يوسف ، قد دون حياته ، كشاهد عيان ، في كتابه : «الغرر الدرية في تاريخ الأسرة الكفورية» ، في الصفحات ١٢١-١٢٦ ، رأينا أن ننقلها ، حرفيا ، من أجل التبرك والمنفعة الروحية.
أولا – إن هذا الأب البار الخوري يوسف إيليان مع شقيقه الخوري بولص إيليان هما من أفاضل الكهنة وأجلهم فضيلة وغيرة رسولية. فالخوري بولص كان من الإكليروس الأسقفي الزحلاوي مشهودا له بالوعظ والإرشاد . والغيرة على خلاص الأنفس ومن مشاهير الكهنة. لأنه كان يقضي الليالي بزيارة المرضى واستماع اعترافاتهم ومناولتهم القربان المقدس أيام البرد والثلج والحر على السواء.
ثانيا – أما الخوري يوسف فكان من أفضل الرهبان . اعتنق الدعوة الرهبانية في دير مار يوحنا سنة 1875. وقضى حياته بالصلاح حتى إنه قبل أن يدخل الرهبانية . كان عند الآباء اليسوعيين مستلها أشغالهم الخارجية في زحلة. ومنذ صغره كان متصفا بصفات الزهد والتجرد التام. وعندما كان في بيت أهله. كان له غرفة خصوصية فلا يدخلها أحد . واضعا فيها الكتب الروحية بأنواعها. كالكتاب المقدس. وأخبار القديسين واستعداد الموت .وكتاب الإقتداء بالمسيح. وكتاب زيارة القربان. وكتاب قوت
النفس. وغيرها من الكتب الروحية. وفي عام ١٨٧٥ في عهد رئاسة الأب العام الخوري فلابيانوس دخل الرهبانية ولبس الثوب الرهباني وبما أنه كان متقدما بالعمر ومشهودا له بالفضيلة والصفات الحميدة ابتدأ سنة واحدة ودرس العلوم اللاهوتية اللازمة وسيم شتاسًا إنجيليا، ثم قسّا. وتعين مرشدا ومعرفا لتلاميذ المدرسة الرهبانية . ثم تعين وكيلا على أملاك دير مار يوحنا . وفي تلك السنة وزع على الشركاء صورة قلبَيّ يسوع ومريم. لأجل التبرك بالعبادة التقوية. وبحسن نواياه الصالحة. قد أقبل موسم (الشرانق) (الفيالج) وزاد ألف وخمسماية إقة عن الموسم الذي قبله . حتى تعجب الرهبان والشركاء من ذلك الإقبال العظيم . ومنذ ذلك الوقت قد ازداد شيوعا خبر فضيلته . ولما انتقلت المدرسة من دير الصابغ إلى القرقفي . . . ذهب هو أيضا مع باقي التلاميذ . وفيما بعد لأجل حفظ ميزانية دير مار الياس الطوق بزحلة. بالرغم من إرادته تعين بأمر الطاعة وكيلًا على أملاك الدير المذكور ، وقضى كل أيام حياته فيه وهو بالقرب من أهله. ويوميا كان يذهب لإقامة القداس في دير الآباء اليسوعيين ولم يدخل بيت أحد. لا من أهله ولا من أقربائه . ولا خلافهم على الإطلاق . وقضى حياته البارّة في عمل الفضيلة الخالية من كل رياء . وكل يوم أربعاء وجمعة لا يأكل حلوا. ولا فاكهة أبدا. وفي أكثر الأيام . كان يصوم إلى نصف النهار . ومنامته على طراحة يقعد عليها في النهار وينام عليها في الليل بالجهد في الايام الباردة جدا يتغطى باللحاف . أما ملبوسه فكان صاية من الخام المصبوغ. لا يستعمل فرشة خصوصية للنوم . غطاءه عباءته . أو شرشف قديم . والبياض من الخام أيضا . وعنده بدل واحد لا غير . وعندما يمرض لا يستعمل العقاقير الطبية إلا وقت الضرورة القصوى . وأغلب أوقاته يقضيها إما بزيارة القربان المقدس أو التأملات العقلية أو الصلوات اللفظية ، وساعات عديدة يبقى راكعا ومخطوفا بالروح إلى العالم الأعلى وأمامه الصليب المقدس.
ثالثا – مرة لما زار الرئيس العام الخوري يوسف الكفوري دير زحلة فالشيخ الجليل الطيب الذكر المرحوم أنطون البريدي المشهور بالفضل والمعروف ، أقام وليمة لحضرة الأب العام المذكور ولباقي الآباء وترجاه بأن يأخذ بمعيته الخوري يوسف إيليان . وعند وقت الذهاب قال له الرئيس العام، فاعتذر ولم يذهب ولما وصل الأب إلى بيت العازم الشيخ المذكور ولم يكن المترجم معه ترجي الأب العام أن يأمره بالطاعة لكي يحضر. فمراعاةً لخاطره أرسل له الأمر فحضر حالًا ولكن بعد أن دخل إلى تلك الدار العامرة استقبلوه بكل احترام واعتبار وبفرح وابتهاج عظيمين . وقد شمل السرور جميع أهل البيت كبارا وصغارا وتقدموا للتبرك من يديه . وأما هو فإنه بعد أن وصل واستراح قليلا تشكر من ذلك الشيخ والذات الكريمة ودعى له بالتوفيق وحفظ عائلته . ثم قال للرئيس العام . ها إنني تممت أمر الطاعة وحضرت فأرجوك الآن أن تسمح لي بالذهاب إلى الدير .
فأجابه الأب العام : اذهب بسلام والرب الإله يكون معك . فالحاضرون جميعا بصوت واحد هتفوا: تبارك الله الذي يعطي مثل هذه المواهب السامية للانتصار على الأميال البشرية . وقد يطول بنا الشرح إذا أردنا أن ندوّن كل أعماله ومحامده وصفاته الحسنة التي كان متصفا بها ولكننا نروي بعضا منها على سبيل الفائدة:
1 – كان مرة مناظرا على الفعلة في مزرعة القطين خاصة الدير حيث كانوا يقطعون الحجارة لبناء النزل الكبير (أوتيل قادري) فمر صدقة من فوق المقلع قطيع من الماعز وتدحرج عليه حجر فكسر يده . فقام ورجع إلى الدير واستدعى الطبيب المجبّر لعلاجها فأخرج له بعض عظام مكسّرة دون أن يظهر عليه أو يبدو منه أقل تذمر أو انزعاج .
فإذ ذاك قصد الأب الرئيس أن يقيم دعوى على راعي الماعز . فقال له المترجم لا يا أبانا أشكر الله الذي ما أصاب الحجر أحد أولئك الفعلة الفقراء الذي كان تعطل عن العمل ولكني أنا لا أعمل شيئا والله سمح بذلك كي يمتحن صبري .
٢ – في آخر حياته بقي أشد حنانًا على الفقراء . أكثر مما كان عليه قبلًا . وعيّن يوما خصوصيا ما عدا الأيام الأخرى كي يوزع الحسنات بسخاء على الفقراء . وما كان يرد أحدا دون نوال مرغوبه . فالبعض من الرهبان قد ثقل عليهم هذا العمل فعملوا مؤتمرا واتفقوا أن يمنعوه عن عمله هذا رغم أنهم كانوا كلهم يجلونه ويحترمونه (لكن روح السوء لا يحب عمل الخير) وحضر الواحد منهم بعد الآخر إلى غرفة المترجم . حيث كان حاضرا كاتب هذا الخبر صدفة . وعندما اكتمل عدد المؤتمرين طلب أحدهم الذي كان متقدما فيها بينهم أن ينظر في دفتر الدير. لأجل أن يطلع على بعض قيود فيه وبعد المطالعة حضر الباقون . فسأله أحدهم قائلا: نحن نشاهد أكثر الفقراء آتين من جهات متعددة والبعض ذاهبون وغيرهم آتون ونحن علينا ديون يجب أن نوفيها . فأجابه المترجم بكل رباطة جأش وكلام عذب : نعم إنني أعلم ذلك وهذا الأمر غير خاف علي ولكن من الذي قال لكم أنني أعطي الفقراء من مال الدير .
وأشار بيده إلى أحد المتقدمين الموجودين قائلا له : أما أنت الذي الحسابات والقيود كلها بيدك؟ فأجابه نعم . فسأله إذ ذاك أحدهم من أين إذا تعطي الفقراء ونحن فقراء . حينئذ جلس وأجابهم بكلام لطيف رقيق للغاية : أنا كل أيام حياتي وكل قداساتي مقيدة أمامكم وما صرفت منها بارة واحدة ولكن بما أنه قد طلب مني بعض المحسنين أن أوزع هذه الحسنات على الفقراء حسب نيتهم فلا يمكن أن أغير قصدهم . حينئذ ذهب كل واحد إلى موضعه بسلام .
وأخيرا في آخر حياته المملوءة بالإماتات والتقشفات وأعمال البر والصلاح وقد أنهكه الهرم ولم يعد بإمكانه أن ينزل إلى كنيسة الدير لإقامة الذبيحة الإلهية فاستأذن من الرئيس العام عمل (كابلة) بالقرب من غرفته حيث يوجد فيها نافذة تشرف على كنيسة الدير المصمود فيها القربان المقدس وزيّن ذلك المعبد الصغير أجمل زينة وكرسه على اسم قلب يسوع الأقدس .
وكان يقضي أكثر أوقاته راكعا هناك . ومتأملا في قلب يسوع المصور أمامه الملتهب حبا بالبشر . ويبقى مخطوفا بالروح ساعات عديدة . وكاتب هذه الحوادث كان واقفا ومشاهدا لها بذاته . وقبل وفاة المترجم بأربع سنوات كان مساعدا له على إتمام الذبيحة الإلهية يوميا في المعبد المذكور . وأخيرا في ٢٤ حزيران سنة ١٩١٤ (۱) قد انتقل من هذه الأرض الفانية إلى الديار الباقية . إلى الأخدار السماوية ليأخذ إكليل المجد المعد للأبرار والمجاهدين وله من العمر ٧٨ سنة . وأكثر آباء الرهبانية واقفون على كل أعماله وكان من الواجب أن يحافظوا على جثمانه مثل كنز ثمين ويبذلوا جهدهم في إثبات برارته . ولو كان بإمكاني لحفظت رفاته في صندوق خصوصي ولكن اليد قصيرة . والسبب الذي من أجله أردت تسطير حياة هذا الأب البار في هذا التاريخ هو أنه كان من أصدق وأخلص المحبين إلى جميع أفراد أسرة بني الكفوري وإلي بنوع خاص لأنه كان الواسطة لانتظامي في سلك الرهبانية وكان لي أبا روحيًا وله على أفضال كثيرة رحمه الله وجعل الجنة مثواه ومنحنا بركته الأبوية ].

رومانس لوقا (1774-1804)

هو يني بن حنا لوقا ، كلداني ، من مواليد بغداد سنة ١٨٠٤ ، لبس ثوب الابتداء في ١٨ كانون الأول سنة ١٨٣٠ . أبرز نذوره سنة ١٨٣٢ ، تكرس شمّاسا في ٢٥ كانون الأول ١٨٣٦، ثم قسًّا. على أثر ذلك ، أرسلته السلطة إلى بغداد، على طلب من والديه ، لكي يبحث عن أخ له فقد ذات يوم، وانقطعت أخباره. في 17 أيلول 1838 ، قلده البطريرك مكسيموس (الثالث) مظلوم الولاية على الروم الملكيين في تلك البلاد، وبينما هو يخدم الرعية بكل غيرة، ويواصل البحث، من حين إلى آخر، عن أخيه المفقود، إذا به ذات يوم يستلم كتابا من صديق في كلكوتا ، يخبره فيه أن أخاه حي يرزق في المدينة المذكورة، وهو يتاجر ويعيش بخير. بشر والديه بالخبر السعيد. ثم استأذن الرؤساء وسافر إلى الهند، في أواخر سنة ١٨٤٨، برفقة ولدين لقنصل فرنسا ، متوجهين إلى كلكوتا ، فقضى معها ثلاثة أشهر سفر ، ذاق في خلالها الأمرّين. وصل، أخيرا، إلى المدينة المذكورة، حيث نزل ضيفا على السيد فتح الله الأصفر الحلبي ، أحد أفراد الجالية المتاجرة فيها ، وكان شديد التعلق بطقسه وطائفته، فأسكن الأب لوقا معه في قصره، وشيّد له فيه معبدا خاصا ، متكفلًا بالقيام بجميع أكلاف معيشته، وقد بقي الأب نزيل السيد الأصفر إلى حين وفاته سنة ١٨٥٢ . في هذه الأثناء، عرف أسقف اللاتين فضيلة وغيرة هذا الراهب النادرتين، فكلفه مساعدة المرسلين بخدمة النفوس مهتها، خصوصا، بالجالية الحلبية، فقام بالمهمة على أكمل وجه ، وقد أفادها كثيرا بغيرته ومثله الصالح .
ومما هو جدير بالذكر أنه لما كان القس رومانس في كلكوتا، طلب إليه مطران المدينة أن يذهب إلى إحدى المستشفيات ، حيث يوجد مريض مدنف من أبناء العرب ، ليسمع اعترافه ويعطيه الزاد الأخير المقدس ، فما كان منه إلّا أن لبّى الطلب ، وذهب حالا إلى حيث المدنف، ولما دنا منه سأله اسمه وكنيته ومسقط رأسه وإذا هو أخوه، ولكنه لم يبد أدنى حركة إلى أن سمع اعترافه وزوده بالقربان المقدس وأعطاه المسحة الأخيرة، ثم تقدّم وعرّفه بذاته، وتعانقا معانقة اللقاء ومعانقة الوداع ، وهكذا لفظ المدنف نفسه الأخير بين يدي أخيه بعد مرور عشرات السنين على فراقها.
إن مطران اللاتين احتفظ بهذا الأب الصالح، بموافقة رؤسائه، الذين تركوه يتابع عمله الرسولي الخير في الهند ، مدة طويلة جمع خلالها استحقاقات جمة وإحسانات كثيرة، عدد بعضها سجل الرهبانية، منها إرساله لها ستة صناديق نيل سنة ١٨٤٢ ، حينها بلغه ما أصاب دير القرقفي من الأضرار ، إبان ثورة سنة ١٨٤١ ، وهذا النيل ، عند وصوله إلى بيروت ، وضع ثمنه في بناء الكاتدرائية ، بطلب من المطران أغابيوس الرياشي، ومنها قيمة ألف ليرة إنكليزية أنفق منها ، على إنشاء عقارات للرهبانية في مصر ، قيمة ٣٥ ألف غرش ، ومنها بدلات هندية وأواني قداس ومباخر وسطل ومرشة، وبعض فضيات ، وزع منها على ديري كفرشيها وزحلة ، والباقي لدير الصابغ.
وبعد رجوعه إلى لبنان، بعد غيابه الطويل، عينته السلطة رئيسا كفرشيما (١٨٦٢ – ۱۸۷۱) ، فكان مثال الرئيس المتواضع الخدوم المتزهد. وكان الرؤساء قد سمحوا له أن يحتفظ بصليب ذهبي حاو على ذخيرة مقدسة، فدفعته محبته للفقراء وتجرده الرهباني إلى أن يبيع ذلك الصليب، جاعلًا الذخيرة في صليب بسيط ، ويطعم بثمنه الفقراء .
أما وفاته فكانت في دير القرقفي ، في ٢٩ كانون الثاني سنة ١٨٧٤.
كان ذا سيرة حسنة كهنوتية موسومة بسمة القداسة، وحياة رهبانية فاضلة ، حتى إن كل من عرفه كان ينظر إليه نظره إلى أحد القديسين ، وقيل إن نورا عجيبا انبعث من قبره، وماء عجيبا تقطر منه مدة عدة أيام بعد وفاته، وتأكد، أيضا، بعد أن فتح الكومنتير ، مرارا ، أن جسده غير بال ، فأصبح ذلك القبر مزارا يقصده كل ذي مرض وعلة.

جرجس عيسى (1827 + 1875)
هو إيلياس بن إبراهيم بن الياس عيسى السكاف ، من مواليد المعلَّقة – زحلة العام 1827 ، لبس ثوب الابتداء في الثاني من تشرين الثاني 1845 ، ودُعي جرجس . أبرز نذوره في السادس من تمّوز 1947 .
ارتسم شمّاسًا إنجيليًّا ، في 7 كانون الثاني 1857 ، عن يد المطران أغابيوس الرياشي ، متروبوليت بيروت ، في كنيسة النبي الياس الكاتدرائيّة ، وكاهنًا ، بتاريخ 30 آذار 1858 ، عن يد المطران المذكور ، ثمّ خوريًّا ، في 14 تشرين 1859 ، عن يد سيادة المذكور .
انتُخب مدبّرًا رابعًا (1859 - 1962) ، اشتهر بمعارفه وتقواه ، فنُصّب قاضيًا للنصارى ، بزمن الأمير بشير الأحمد اللمعي ، نحو سنة 1859 ، وقام بمهمّته إلى أن شُكّلت المتصرفيّة الجديدة ، وأُلغيت قائميّة المقام في 17 تشرين الثاني سنة 1860 .
سافر إلى أوربة ، بإذن الرؤساء ، في 18 حزيران 1860 ، فوصل إلى باريس ومنها سافر إلى إيرلندا ، فصرف هنالك بعض سنوات يجمع الإحسان ، ثمّ عاد إلى بيروت في 31 أيلول 1865 ، وشرع ببناء المدرسة البطريركيّة ، حسب رغبة البطريرك غريغوريوس يوسف ، وكان يناظر بناءها وأكمل تجهيزها ، ولم تكن سنة 1866 حتّى فتحت أبوابها للطلبة ، وكان أوّل رؤسائها وقد وضع لها رسومًا وقوانين ، وأسّس فيها أخوية القربان المقدّس للطلبة . وتقديرًا لجهوده وخدمته الوطنيّة ، كافأه البطريرك فمنحه رتبة أرشمندريت الكرسي الأنطاكي ، وكرّسه بهذه الرتبة في كنيسة المدرسة ذاتها ، بتاريخ الأوّل من شباط 1866 ، وكذلك منحته الدولة العثمانيّة ، بواسطة وزيرها راشد باشا ، والي سورية الأسبق ، الوسام المجيدي الخامس .
بَيد أنه ، بعد مرور بضع سنين ، ونظرًا للأتعاب التي عانى منها ، طلب إعفاءه وعاد إلى دير الصابغ ، حيث انقطع لتعليم الرهبان وعمل الرياضات الروحيّة في القرى ، لا سيّما أيام الصوم الأربعيني .
ولمّا كانت سنة 1870 دعاه المطران أغابيوس الرياشي إليه وسمّاه وكيله العام في بيروت ، فاستلم مهام الوكالة في 15 شباط ، وشرع في تجديد المدارس وتولّى التدريس وأكبّ على الوعظ والإرشاد ، وأسّس أوّل أخوية للبتول ، للرجال والنساء ، في 15 آب 1870 ، وقد ثبّتها المطران في 25 آذار 1871 ، وقد انتُخب مدبّرًا ثالثًا (1874 - 1875) .
وهكذا صرف حياته بجهاد وغيرة حتّى ذاع شهرة في مدينة بيروت وغيرها ، وكان تقيًّا جدًّا ومثالًا للطهارة .
أمّا آخر أعماله الرعوية فكان أنه بقي في بيروت ، لمّا انتشر وباء الهواء الأصفر ، وقد نزح معظم سكّانها وأكثر الكهنة . فكان يطوف المدينة حاملًا أدوية وقوتًا ليوزّعها على الفقراء والمصابين ومعها الزاد الإلهي مخفّفًا أوجاعهم بالتعزيات الروحيّة ومساعدًا إيّاهم على الميتة الصالحة ، وكان يهتّم بتجهيز ونقل الموتى ، وعندما لا يوجد من يدفنهم ، كان هو ذاته يحملهم على كتفه ويواريهم في مثواهم الأخير ، الأمر الذي أدهش حتّى غير المسيحيّين .
وبقي على ذلك أشهرًا حتّى أنه ، بعد زيارته لأحد المصابين ، أحسّ بدنّو أجله . وممّا يُروى عنه أنه مرّ في طريقه على نجّار من المسلمين وأوصاه على تابوت مدّعيًا أنه لأحد المرضى ، قائلًا له : إن المريض مثلي تمامًا ، فأخذ قياسه ، وما إن وصل إلى الدار الأسقفيّة حتّى اشتدّ عليه الداء ، فقضى نحبه في مساء يوم السبت الواقع في 8 آب سنة 1875 ، فذهب الخادم إلى النجّار المجاور للدار الأسقفيّة وأوصاه على تابوت ، فقال له : إنه جاهز ، فأين الكاهن ليأخذه ، فقال له : إنه تُوفّي ، فتعجّب وبقي يروي ذلك لكثيرين .
كان مشهورًا بتقواه وتعبّده للأم البتول ، خطيبًا بليغًا ، محبًّا للفقراء والمرضى ، غيورًا على الخدمة الروحيّة ، وقد ترك للرهبانيّة والفقراء مالًا ، كما ورد في سجل الرهبانيّة ، واقتنى مكتبة تنيف على مائتي مجلّد ، وكان فقيهًا بارعًا ، متقنًا العربيّة ، عارفًا بالإنكليزيّة والفرنسيّة ، شاعرًا مجيدًا ، وكان مصابًا بالجدري ، في وجهه أثر ندوب منها ، وقد أشاد به الشعراء الكبار أمثال سليم بك تقلا والشيخ خليل اليازجي ، وقد وَرَدَ تقريظه في قصيدة بعنوان : «نَفير الوطنيّة» ، جاء فيها :
أليس جرجس عيسى كاهنًا ورعًا
قد طاف أوربة حشدًا لدينارِ
والبطركيّة بيت العلم شيّده
في ثغر بيروت مشهورٌ بآثارِ
وأنشأ الأخويّات التي اشتهرت
كلجنة البِرّ فيها نَيل أوطارِ
تلقّى العلوم ومبادئ العربيّة على بعض الآباء ، اتّصل بالعلّامة الشيخ ناصيف اليازجي ودرس عليه العلوم العربيّة بفروعها فأتقنها ، ثمّ الفقه الشريف على العلّامة الشيخ يوسف الأسير ، فتضلّع به . مال إلى نظم الشعر فأحرز منه نصيبًا وافرًا .

 

 

الرهبان الشُّهداء في الرهبانيَّة الباسيليَّة الشويريَّة

الشهيد القس بطرس نـمير الزحلاوي (†1749)
بعد أن أرست الرهبانيَّة الناشئة دعائمها في دير الشوير، طلب أهالي ومشايخ رأس بعلبك تسليم دير السيدة العجائبية، الكائن في بلدتهم، إلى الرهبان الشويريين، وكان ذلك سنة 1722( ). في ذلك الوقت لم يكن في الدير رهبان كهنة سوى رئيسه الحاج ابراهيم ابن هلال من الشام.
إذ ذاك اتفق الأب العام مع مدبّريه أن يتسلّموا الدير، فأرسلوا الرهبان، وأصبح الدير من عِداد أديرة الرهبانية.
يذكر المؤرّخ الخوري قسطنطين الباشا المخلصي في مقال له، تحت عنوان: “الشهيد القس بطرس نمير الزحلاوي ق.ب.”( )، بأن ]القس المذكور من رهبان دير مار يوحنا السابق المشهور وأسرته مشهورة في زحلة، وكان في دير السيدة بقرب رأس بعلبك من أديرة الرهبانيَّة[.
وإننا، بعد البحث الطويل في سجلات الرهبانيتين البلدية والحلبية، لم نعثر على اسمٍ لهذا الشهيد. وهذا ليس بـمستغرب، لأنّنا، خلال إعداد كتاب: “سجل الرهبان”، الجزء الثالث، وهو قيد الطبع، وقد سبقنا إلى هذا المجال سيادة المطران ميخائيل أبرص، الذي أصدر الجزئين الأول والثاني من هذا السجل، لم نعثر على أسماء رهبان آخرين سقط ذِكرهم أيضًا، فعمدنا إلى مراجع أخرى لتكوين نبذة عن حياتهم.
من جملة المراجع التي تكلّمت عن هذا الأب: “ديوان الخوري نقولا الصائغ”( )، وهو الرئيس العام للرهبانية (1727 – 1729؛ 1732 – 1756)، الذي في زمان رئاسته استشهد الأب المذكور، وقد أرّخ الشاعر استشهاده في قصيدة رثاء ميميّة مؤلَّفة من 22 بيتًا، إذ قال، رحمه الله، راثيًا أحد الآباء من الرهبان الكاثوليكيين، وقد ارتضى بالموت من الأمم، ولم يرضَ بجحد إيمانه المقدّس سنة 1749:
  أي بطرسُ القسُّ تمَّ الحُكم فيك كما          قضى الإله وهل ردٌّ لما حكما 
  قُتلت ظُلمًا فيا رَعيًا لـمُنظلمٍ    والتبُّ والبؤس للجاني الذي ظلما
  ساموكَ كُفرًا فلم تكفر فمُتَّ على    حفظ الوديعة بالإيمان مُعتصِما
 
وقد ذكر استشهاده المؤرِّخ القس روفائيل كرامة، الراهب الشويري، في تاريخه “مصادر تاريخية لحوادث لبنان وسوريا من سنة 1745 إلى سنة 1800″( )، في الصفحة 12، حيث قال:
]وفي شهر حزيران من هذه السنة (1749) قُتل القس بطرس نمير إذ كان في دير سيدة الراس حينما كان آخذًا غداءً لإخوته، فأوقعوا به أرفاق الأمير حيدر حرفوش إذ كان ظافرًا يُخرّب على أخيه الأمير حسين ولـمّا مسكوه المتاولة المذكورون عرضوا عليه الإنكار فلم يرضَ بل طلب مهلة يسيرة حتى يصلّي فأذنوا له وبعد أن صلّى قليلًا قطعوا رأسه وفاز بإكليل الشهادة[ ( ).
أمّا الأب ألكسيوس كاتب ق.ب.، فقد أتى على توصيف حادثة الاستشهاد هذه، في كتابه: “Petit LIVRE D’OR”، كما يلي:
]… بعد أن ألقى الجُند يدهم على الأب بطرس نمير، قادوه إلى الأمير، الذي بادر نحوه بالقول:
– الوقت يداهمك. أجبني بدون تأخير، فإن مصيرك وحياتك هما بين يديّ، فيجب عليك أن تلفظ كلمةً، وهي تكون إمّا لحياتك أو لموتك. فإذا كنت متمسّكًا بالحياة أُرفض مسيحك وأنكره علنًا، وإلّا، بضربة من الفأس، أقطع رأسك وأدحرجه على الأرض، ثمّ انهال عليه بالضرب والشتيمة.
أمام العذاب المرير الذي سيلاقيه الراهب، انتظر الأمير منه أن يلين أو يتردّد أو يضعف، لكن الراهب القديس، دون أي اضطراب أو ضعف، رسم إشارة الصليب وجثا على ركبتيه أمام مضطهديه، وصرخ، بصوت ملؤه الحزم والثبات:
– “أنا مسيحي! أنا كاهن!” هذا يعني أنني جنديٌّ للمسيح، وأنا مسرورٌ وفخورٌ بأن أموت من أجل ديانتي الكاثوليكية المقدَّسة.
– لم يكد الراهب يلفظ آخر كلماته، حتى أمر الأمير بأن يُقطع رأسه، على جذع شجرة، تحت ضربة فأس أحد أهالي حرفوش المتوحِّش… [( ).
الشهيد الأب أندراوس فارس الدمشقي (†1860):
هو حنّا فارس، من مواليد الشام العام 1813، لبس ثوب الابتداء في 30 تشرين الثاني سنة 1829 ودُعي أندراوس. أبرز نذوره في 29 حزيران سنة 1831، ارتسم شمّاسًا وقسًّا سنة 1837.
خدم في أديرة الرهبانية، وكان من عداد جمهور دير مار الياس الطُّوق في زحلة،
ثمّ ذهب لخدمة الرعية في دمشق، مسقط رأسه، حيث توفّاه الله فيها، سنة الحادثة (الطوشة)، قتلًا، سنة 1860، ويستطرد “سجل كتاب تاريخ الرهبانية وغيره”، في باب “أسماء الرهبان المتوفيّن”، بأنه: ]تُوفّي شهيدًا حين قامت الإسلام على النصارة في 9 تموز سنة 1860[ ( ).
أمّا “الكتاب الذهبي الصغير”، للأب ألكسيوس كاتب ق.ب.، فيصف هذه الحادثة، تحت عنوان: “شهداء دمشق”( )، هكذا: ] في 9 تموز 1860 تعالت صيحات رافقها قرع طبول في شوارع دمشق، فملأ الذّعر القلوب وعمَّ التساؤل والغرابة… واجتاح المسلّحون المدينة وانقضّوا على المسيحيين وعملوا فيهم قتلًا وذبحًا، فتعالى صراخ الضحايا الذين دُهمت بيوتهم وأُحرقت، فكان ذلك إعلان الاستشهاد الذي ينتظر كل المؤمنين بالمسيح.
من بين هؤلاء الأبطال الذين استحقوا سُعف النخل التي يحفظها الرب للذين تميّزوا بالشجاعة والإقدام نذكر الأب فارس الراهب الباسيلي…
لقد تمّ تعيينه كاهن رعية في دمشق، فأسرع إلى زيارة رعاياه على إثر خبر المذبحة، مفكّرًا أن يثبّتهم في الإيمان المسيحي.
علم أعداء المسيحيين بمسعاه، فلم يتأخّر توقيفه في حيٍّ اسمه “حارة الزيتون”( )، ثم استجوابه والضغط عليه للاختيار بين الحياة والموت، لأنه لن يُعطَ السلام إلّا إذا اعتنق الإسلام. فأجاب هذا البطل المسيحي، بصوتٍ جهوري وبعذوبة ملائكية، بسلام وهدوء الرجل الصالح، بهذه الكلمات البسيطة:
– “أنا مسيحي وسأموت مسيحيًّا”. فدوّى إطلاق الرصاص، ووقع الأب المسكين، لا يقوى على الحراك، وانطلقت روحه، بمجدٍ، نحو السماء، كأنّها تتضرّع أن تفتح الأبواب على مصراعيها ليدخل موكبٌ من الضحايا النبيلة التي سقطت، تِباعًا، في شوارع دمشق وفي دير القمر وزحلة، مجازر مُريعة سجّلها التاريخ( )، وعُرفت تحت اسم: “الطوشة”.
 
لقد سقط الأب أندراوس فارس صريعًا، وسقط معه مسيحيون آخرون في دمشق، لنفس السبب. فجُمعت أجسامهم ووُضعت في قبوٍ، يُدعى حتى يومنا هذا: “قبو الشهداء”.
إن التحقيق الأول بشأن قضية أولئك الشهداء فُتح، وكانت خلاصته كالتالي:
سنة 1872 أوكل الكرسي الرسولي إلى المونسنيور “ﭬاليركا” أن يبدأ التحقيق في قضية تطويب عدد من ضحايا مجزرة سنة 1860 في دمشق.
كان “ﭬاليركا” بطريرك اللاتين في القدس ونائبًا رسوليًّا لسوريا، وقد حضر إلى دمشق وقضى فيها عشرة أيام قبل أن يزور كاثوليك حوران، وعيّن لجنة مهمّتها دراسة قضية الشهداء، الكهنة والعلمانيين، الذين سقطوا في العام 1860 على يد الدروز والمسلمين…[.
الشهيد الأخ نيقوديموس البغدادي أو الموصلّي (†1860):
هو منصور، من مواليد تل كيفا – ما بين النهرين (العراق)، سنة 1799، من الكنيسة الكلدانية، لبس ثوب الابتداء في دير القديس يوحنّا الصابغ، بعمر 20 سنة، في 11 تشرين الثاني سنة 1819 ودُعي نيقوديموس.
شلح ثمّ ابتدأ، ثانية، في 21 أيلول سنة 1820، نذر في الدير عينه، في 23 نيسان 1822، عن يد الأب أنتيموس الرئيس الخاص، فلّ من الرهبنة لأسباب، ثمّ رجع وقُبل في رهبنته كما كان.
بقي أخًا طيلة حياته، وخدم في أديرة الرهبانية، وكان من عداد جمهور دير مار الياس الطُّوق في زحلة، وتُوفّي فيه، عن عمرٍ ناهز الستين عامًا.
يقول “سجل كتاب تاريخ الرهبنة وغيره”، في باب “علم أسماء الرهبان المتوفّين”، بأنه: ]تُوفّي الأخ نيقوديموس من تل كيف بين النهرين في زحلة في قيام الدروز وقُتل شهيدًا سنة 1860[ ( ).
وإنّ الأب ألكسيوس كاتب ق.ب.، قد وضع، في كتابه “الكتاب الذهبي الصغير” نبذة وجيزة يُوَصّف فيها حادثة الاستشهاد، فيقول: ]تُعتبر زحلة مدينة مهمّة جدًّا في لبنان، وأكثريّة أبنائها من الروم الكاثوليك، وقد قدّمت هذه المدينة عددًا من الضحايا والشهداء، وقد امتزجت دماء الشهداء الباسيليين مع دماء المواطنين.
ففي أحد الأيام رفع الأخ نيقوديموس، الذي له من العمر ستّون عامًا، صلواته، مطوّلًا، أمام بيت القربان في كنيسة الدير، وخرج بسرعة لنجدة أحد إخوتنا المهتمين بكنيسة القديس أنطونيوس( ) فما إن خرج من باب الكنيسة حتّى بادرته عصابة متوحّشة من الدروز والمسلمين والمتاولة، وهجموا عليه وعاملوه كلِصٍّ، وهدّدوه بالقتل إن لم يعتنق الإسلام.
– كلّا، “أفضّل أن أموت مسيحيًّا من أن أعيش جاحدًا”، ردّ الأخ نيقوديموس بشجاعة، وجثا على ركبتَيه، رافعًا، إلى السماء، يديه المضمومتين. فانهالوا عليه بالضرب حتى أسلم روحه بين يدَي الله، وبُترت أعضاء جسده بطريقة مرعبة.
بعد عدّة أيام وُجدت جثّته، فوُضعت في قبو (كُمَنتير) دير مار الياس الطُّوَق [( ).

الشهيد الأب يوسف سماحة الخنشاري (†1920):
هو الياس بن يوسف غصوب سماحة، من مواليد الخنشارة العام 1886، لبس ثوب الابتداء في أول حزيران سنة 1902، ودُعي صفرونيوس، أبرز نذوره في العاشر من حزيران سنة 1904، تكرّس شمّاسًا إنجيليًّا في 25 آذار سنة 1911، وقسًّا، عن يد كير فلابيانوس (الثاني) كفوري، مطران حمص وحماه ويبرود، في 24 نيسان سنة 1911، ودعُي يوسف.
قضى معظم خدمته في يبرود (القلمون – سوريّة)، وكان في الفاكهة – بعلبك (1916-1917).
يبدو أنه كان يقرض الشعر ويُجيد الكتابة، ونثره له مسحة من الشفافيّة والرومانطيقيّة( ).
إضافة إلى ذلك، فقد كان شديد الغيرة على أبناء الرعية، مواظبًا على التعليم وتربية الناشئة، ومندفعًا في التبشير والوعظ، الأمر الذي لم يَرُق في أعين بعض السكّان من المسلمين المتعصّبين. فبادرت جماعةٌ منهم إلى اغتياله، وكان ذلك في أول حزيران سنة 1920.
عن طريقة هذه الوفاة، يُخبر “سجل أسماء الرهبان وابتدائهم ونذورهم”، رقم 1، بأن: ] كانت وفاته اغتيالًا، عن يد الأشقياء، رميًا بالرصاص، أثناء رجوعه إلى يبرود[( ).
وقد ورد في “سجل كتاب تاريخ الرهبنة وغيره”، في باب “علم أسماء الرهبان المتوفّين”، بأنه: ] توفّي الخوري يوسف سماحة، قتلًا، على طريق النبك، من يد الأشقياء، بالغًا من العمر الخامسة والثلاثين[ ( ).

البث المباشر